الاثنين، 29 فبراير 2016

دروس «عصير الكتب» .. الذائقة والانحياز






ماجد يوسف

كتاب «عصير الكتب» للكاتب الكبير «علاء الديب» وهو عبارة عن مجموعة شاملة وواسعة من المقالات التى كان الكاتب يوالى نشرها منذ أوائل السبعينات- فيما أذكر – وحتى الآن.. وهى عبارة عن نقدات نافذة وصائبة وقصيرة جدا لحصاد القصة والرواية والشعر والدراسات والفكر والترجمة أحيانا.. إلخ، والتى كان ينشرها اسبوعيا فى بابه الذى يحمل هذا الاسم الجميل «عصير الكتب» فى مجلة «صباح الخير» على مدى أربعين عاما كاملة، وقد عرف من خلال هذا الباب الملكى للعبور إلى المجلة على مدى عمره – عمر الباب طبعا – بكل صاحب موهبة جديدة وإبداع لافت فى القص والشعر والنقد والرواية والفكر كما قلنا، وقدم ارتالا وأ جيالا من المبدعين والشعراء والروائيين والكتاب الذين احتل معظمهم الساحة الآن وأصبحوا نجوما متلألئة فى سماء الأدب والثقافة والإبداع المعاصر فى مصر وفى غير مصر ، وظل لـ «علاء الديب» فضل لا ينكر، ويد لا تجحد فى مبادرته إلى الحديث عن هؤلاء، والتعريف بهم، وتسليط الضوء الكاشف عليهم ولعله- فى حالات كثيرة جدا- كان أول من يقوم بذلك مع هؤلاء المبدعين.


هذه فى البداية هى الخطوط الخارجية جدا «التعريفية والافتتاحية» لهذا المقال الذى أظن أنه سيتوقف طويلا عند دلالات هذه التجربة الثرية «عصير الكتب» وأبعادها عند «علاء الديب» مستخرجا من هذه الوقفة عددا من الدروس التى أحب أن أؤكدها، وأضع تحتها العديد من الخطوط التى أطمع وأطمح أن يستهديها ويستوحيها الكُتاب الشباب والنقاد الجدد إذا اتيح لهم أن يتأملوا معى هذه التجربة اللافتة لهذا المبدع والفنان الكبير.


1 – أول ما يلفت النظر فى هذا الكتاب هذه البانوراما الواسعة من الكتب والموضوعات التى ساح فى عوالمها علاء الديب، وطبعا أنا متأكدة أن الموضوعات التى احتواها هذا الكتاب هى موضوعات مختارة من كم هائل آخر من الموضوعات، وبرغم ذلك يعرض لنا الكتاب الذى بين أيدينا «عصير كتب» 115 كتابا فى الرواية والقص والشعر والنقد والسياسة والموسيقى والفن التشكيلى والدينى والتاريخ والفلسفة واللغة… إلخ، بانوراما شديدة الاتساع والغنى، تشير إلى موسوعة الفنان الحق وعرض ثقافة الكاتب الكبير.

و«علاء الديب» يؤكد بذلك ما عرفته فى تاريخى واستقر فى ضميرى حتى الآن أنه لا كاتب كبير، بملء التعريف إلا وهو قارئ كبير كذلك متشعب المعارف متعدد الاهتمامات.. وأن الروائى الممتاز أو المبدع الممتاز فى فن الرواية – مثلا – لا يمكن أن يقتصر على ميدان الرواية وحده فى قراءاته ومتابعاته وإنما لابد أن يتشعب بجهده المعرفى والتثقيفى إلى شتى المعارف والفنون والثقافات لدينا ولدى غيرنا، فالتجربة الإنسانية والفنية العريضة هى نتيجة لازمة لتجربة حياتية عريضة.. نعم وتجربة قرائية ومعرفية عريضة أيضا.

فالدرس الأول هنا من تجربة علاء الديب أن الفنان الكبير والمبدع الكبير قارئ كبير أيضا ، وموسوعى كذلك فى ثقافته واهتماماته.

2 – وقد يكتفى المبدع الكبير بتكوين ثقافته الموسوعية التى ترفد عمله الإبداعى وتغذيه، وكم من مبدعين كبار – نجيب محفوظ مثلا- اقتصروا على هذا الدور الذاتى للقراءة والاطلاع اما أن يتجاوز «مبدع كبير» هذا المستوى الذاتى فى القراءة إلى إبداء الرأى النقدى فيما يقرأ، وبحب وتجرد واهتمام يثمن القيمة والإضافة والتجديد والموهبة لدى غيره من الروائيين وكتاب القصة، ويرصد مواطن الجمال وبواطن الإبداع فى أعمالهم بتواضع وحب، فهذه درجة عالية من الإنسانية الرحبة والشفافية الكبيرة والقوة القادرة على الانفلات من أسر الذات «وذات المبدع متضخمة عادة» للتواصل مع الآخر بل إبداء المحبة لإنجازه والفرح النقدى باكتشافاته الإبداعية، وهو سلوك بقدر ما يعكس درجة عالية من الصفاء والغيرة والرفعة، يدل أيضا على شخصية قوية واثقة بنفسها ومعترفة لغيرها بالقيمة فى مكانها، وبالإبداع فى موضعه دون أن تشعر للحظة هذه الشخصية القوية – بأن هذا الاعتراف ينقص من قدرها أو ينال من قيمتها أو يهز مكانتها.. وأين هذا السلوك الرفيع من سلوك هذا الشاعر الكبير النرجسى الأنانى المتورم الذات الذى عندما سئل عن الأجيال الشعرية التالية له صرخ فى السائل بهستيريا واضحة «هو أنا مت ولا إيه؟!» بمعنى أنه لم يتصور – للحظة أن يسئل عن شعراء بعده أو غيره ما دام هو موجودا! تصوروا!

فالدرس الثانى إذن لكتاب «علاء الديب».. هو هذه الروح الواسعة المحبة الشفافة للإبداع لدى غيره وللفن عند الآخرين وللإضافة والابتكار فى تجارب روائية أخرى غير تجربته الخاصة والتى تظل فى هذا الخضم الروائى الموار.. تجربة كبيرة ومؤثرة وأصيلة أيضا فما أعظم أن تكون كبيرا بين كبار لا ان تكون كبيرا فقط بين صغار كما لا يريد أن يفهم للأسف هذا الشاعر العجيب الغريب الذى أشرنا إليه توا!

3 – الدرس الثالث الذى يقدمه لنا علاء الديب عبر كتابه أن الذائقة المدربة المثقفة على القراءة البصيرة والتوغل لما وراء السطح البادى والامساك بجوهر الرؤية والوعى بحداثة التقنيات واستتارها فى نفس الوقت والحس المرهف لقارئ محترف عبر مئات وربما آلاف الكتب.. يصنع كل ذلك حاسة نقدية صائبة كشعاع الشمس، وحادة وقاطعة كالشفرة تصل إلى كبد الحقيقة فى سطر وإلى جوهر النقد فى جملة وإلى بؤرة العمل وروحه فى عبارات معدودة ومحدودة دون رغى وتزيد وإملال من ناحية ودون تعقيد وإبهام وتركيب وغموض من ناحية أخرى.. وهى مدرسة كبيرة فى النقد ينتظم فى عقدها يحيى حقى وإدوار الخراط ورجاء النقاش وعبدالغفار مكاوى وماهر شفيق فريد وعلاء الديب أيضا.

4 – وأظن أن علاء الديب يزيد عليهم فى أنه تمرس على أن يفعل ذلك عينه فى أقل مساحة ممكنة، وبالتالى خلا نقده من الشرح والاستفاضة والتزيد والتفاصيل أما من أشرت إليهم – بلا استثناء – فيقومون بهذا النقد البصير عينه، الذى يعتمد الذائقة المدربة بقراءة آلاف النصوص.. إلخ لكن يقومون به بتوسع واستطراد كبيرين قد يقتضيانهم أحيانا فصولا بأكملها ومقالات ضافية للحديث عن رواية واحدة، أو قصة قصيرة، أو ديوان شعر، مثلا .. ولكن الميزة الواضحة لـ«علاء الديب» عن هؤلاء جميعا، أنه يفعل ذلك بالضبط أى أنه يصل بقارئه إلى سويداء العمل المنقود وجوهره المشع وبؤرته الدالة فورا وبلا تلكؤ ودون ثرثرة وإطالة، عبر جمله القصيرة واحكامه البرقية المليئة بالمعنى والقيمة والتى ليست مجانية بحال والمحملة بمعيارية دالة ومليئة وربما تقرأ عن عمل لروائى كبير دراسة مطولة – فى مجلة كفصول – قد تصل صفحاتها إلى ثلاثين أو تزيد وتقرأ صفحة «علاء الديب» عن نفس العمل فى «عصير الكتب» فتشعر أن «علاء الديب» قال لك فى هذه الصفحة وفى بضعة سطور مقطرة وجمل مكثفة.. وبضربات سريعة من فرشاته الحساسة ما قالته- جوهريا – الثلاثون صفحة من فصول كأن صفحة الديب هى منطوق الحكم المبرم على العمل المنقود وكأن صفحات فصول -مثلا – هى حيثيات هذا الحكم وملابساته وحواشيه وتكييفاته وظروفه وأوضاعه ومبرراته وأسبابه… إلخ، ولعل الفضل فى ذلك – فى بعض جوانبه- يعود إلى المساحة المحدودة والمحكومة التى خصصت له فى «صباح الخير» والتى عودته أو تعود من خلال اشتراطاتها الضيقة، على ان يؤدى المعنى كاملا فى حيز صغير ومحكوم ومحدد سلفا.. فتدرب عبر السنوات – أو لعله اضطر اضطرارا- على التقطير والتكثيف والتركيز إعمالا لحكمة النفرى العظيم « كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة».

5 – أعرف من الشعراء الكبار من أجيال مختلفة من لا علاقة لهم بالفن التشكيلى أو بالرواية مثلا، ومن الروائيين من لا علاقة له بالشعر أو بالموسيقى ومن الموسيقيين من لا علاقة له بالأدب والفن الشتكيلى وقل مثل ذلك عن التشكيليين …إلخ وهى نواقص لا شك فيها فى تكوين هؤلاء المبدعين، قد تبين وقد تخفى ولكنها دون شك تمثل نقاطا عمياء فى التكوين الثقافى والمعرفى لهؤلاء المبدعين، قد تكشفها العين الناقدة اللماحة عند استبطانها العميق لأعمالهم الفنية المختلفة ولذلك فلابد أن تثمن هذه العلاقة الوطيدة القوية لـ«علاء الديب» بشتى أنواع الفنون من موسيقى وفن تشكيلى ومسرح وسينما.. إلخ. بالإضافة إلى الأدب بأنواعه، وهو ما شكل فى مجموعة هذه البنية النقدية القوية لهذا المثقف الكبير ووهبه هذه الملكة الفذة فى القدرة على تقييم أعمال فنية متباينة من حقول شتى فيصيب كثيرا ويخطئ قليلا.

6 – استوقفتنى أيضا هذه «العروبية» الواضحة والواسعة والتى حدت به إلى الحديث عن اعمال إبداعية لمبدعين عرب كبار من كل أنحاء الوطن العربى، شرقه وغربه.. محمد برادة وعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا وحنان الشيخ وإميل حبيبى وفوزية رشيد وسحر خليفة وحنا مينا وإبراهيم الحريرى وزكريا تامر ومحمد الماغوط ونزار قبانى وسعد الله ونوس وجورج شحادة.. إلخ.

وهى رسالة واضحة لكل نقادنا الجدد بمد الطرف إلى المحيط الإبداعى العربى شرقا وغربا فلا نستطيع أن نحيا – ثقافيا وفكريا وإبداعيا- بمعزل عن محيطنا الحيوى، وعن الأدب الناطق بالعربية حينما كان.. وربما فى مثل هذه الفعاليات الثقافية القرائية/ الكتابية ما يكسر الحواجز ويتجاوز الحدود ويحقق مفاهيم العروبة والوحدة بمعنى أكثر عمقا من المعنى السياسى وأشمل من المفاهيم السلطوية التجزيئية الإقليمية الضيقة قصيرة النظر التى نعانيها حتى الآن.

7 – شدنى أيضا هذا الانفتاح الإنسانى اللاعنصرى الواسع لهذا الكاتب.. فهو يتمايل اعجابا بكتاب مجيدين من اليمين واليسار وما بينهما، ويطرب لأعمال فنية راقية تأتى من كتاب مسلمين ومن كتاب مسيحيين وهو يحتفى بأشعار فصيحة وأخرى عامية بنفس الدرجة ويرصد القيمة والمتعة والإجادة.. أتت من هنا أو من هناك يفرح لإبداعات المرأة المستحقة للفرح ولإبداعات الرجل بنفس الدرجة هو مع الجديد والجميل والأصيل حيثما كان.. وهذا هو المعيار الوحيد لديه للاحتفاء بالعمل الفنى.

8 – وأخيرا ينحت علاء الديب تعبيراته الشرقية بلغة تمتلك موسيقاها الخاصة ورهافتها الذاتية القادرة فيما هى تقوم بالعملية النقدية على سك عبارات كاشفة وفاتنة.. انظر له وهو يتحدث عن اللغة فى عمل اميل حبيبى«اللغة العربية نفسها تخرج وكأنها تعانى ضيقا فى التنفس والاحتضار».. أو حينما يتحدث عن «حرافيش» نجيب محفوظ:

« فى هذا الفن شىء خالد عبقرى مجنون وفيه أيضا شىء غريب تلمسه ولا تمسك بتفسيره وكأنه الأمراض التى يورثها الزواج بين الأقارب».. أو فى تعليقه على كتاب «الشيخوخة» للطيفة الزيات:

« لا يشيخ الإنسان طالما ظل عقله يضفى على وجوده المعنى».. أو عندما تحدث عما يميز تجارب عباس أحمد:

« تلك المحاولة المستحيلة للسيطرة على الوجود من خلال الجملة ومن خلال البناء القصصى».

والأمثلة عديدة أكثر من أن تعد أو تحصى على طول الكتاب وعرضه.

وأخيرا فى كلمات بعد هذه السياحة السريعة والمحبة.. علاء الديب يقدم لنا «عصير أو زبدة الكتاب» فى سطور برقية قصيرة ولكنها دالة ومفعمة بجوهر المعنى وخلاصة التجربة.. وبرغم أنه كاتب روائى كبير فهو لا ينجلس فى انجازه ولا ينحصر فى ذاته ولا يتأطر بعالمه فقط، وإنما هو ينفتح علىالآخرين باستمرار ويتسع لأعمالهم وإبداعاتهم وتجاربهم.. وهو ناقد فذ بمعنى خاص جدا ليس بأى معنى أكاديمى ولا بأى دلالة احترافية أو مهنية ولا على طريقة مجلة «فصول» مثلا.. ولكنه قارئ محب وعاشق يمتلك ذائقة المبدع الصادق والقارئ المغرم والمتلقى المدرب الذى ينطوى على حساسية خاصة ومرهفة ونظرة ثاقبة وروح صائبة تتمتع بالحس السليم والمدربة المتمرسة بالقراءة الطويلة والفطرة النقية القادرة على استشفاف الدرر والجواهر.. ويعرفها يقينا ويشير إليها تحديدا فيرى الجوهر مرأى القلب والعقل وينأى عن الفضول.. ودائما ما يحضرنى عند قراءتى لكتاباته ذلك التعبير الشائع الذى يقول «أصاب كبد الحقيقة» بلا استسهال مجانى ولا استهبال نقدى، كما يفعل بعض من يكتبون فى النقد، ولا نفهم منهم شيئا بالمرة.

وفى النهاية وحتى لا أكرر كلامى هل لمست أحيانا كراهة ما من علاء الديب لبعض التجريبيات الحداثية فى القص والسرد وميله ربما إلى شىء من المحافظة والتقليدية أو الكلاسيكية فى هذا الجانب.. أم هى كراهة لافتعال التحديث واصطناع التجديد؟.. على أى حال.. هو مجرد احساس غامض، ولعلى مخطئ فى هذا ولعل الأمر برمته فى حاجة إلى مزيد من المراجعة والتيقن.


الفنان والكاتب الكبير علاء الديب نشكر لك هذه المتعة الصافية التى اسبغتها علينا بكتابك الشهى الذكى «عصير الكتب».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة القاهرة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق