السبت، 21 مارس 2015

تطورات صناعة الكابوس


                   


يقول خليل صويلح، الروائى السورى فى روايته الخارقة
«جنة البرابرة» إن البلاغة وحدها لن تعوض التفاصيل الكاملة لفزع الضحايا بالدقة التى جرت بها الوقائع، هناك لحظة خاطفة عصية على الوصف، الراوى الذى نجا بالمصادفة: سيفقد حدة التركيز، ما عاشه تحت القصف المباغت، أو فى المعتقل، أو فى لحظة الفرار من الموت المحتم، أو لحظة الاختطاف أو الانتهاك، لا يمكن أن يتكرر مرة أخرى بالتفاصيل نفسها، ما هو مدون هنا هو حلاوة روح!


الكاتب فى هذه التدوينة الروائية الدامية:
 ليس مؤرخاً ولا محللاً سياسياً، كاتب فى العتمة يتحرك فى عتمة أمام كيبورد، يسجل شهادات شهود على جريمة متصاعدة، وهو تحت تهديد قناص عبثى يختبئ خلف نافذة مقابلة بينما الحوامات تصم الآذان، وبراميل البارود، والقنابل الجديدة تدوى، وعويل عربات الإسعاف يغطى على نواح النساء تحت الجدران المنهارة، وتسأل الطفلة التى تفتح عيونها تحت الأنقاض:
 أنا عايشة يا عموه؟!
ويقول الكهل الذى بترت الشظية ساقه:
هل يجب أن تتبع إجراءات الدفن للساق المبتورة!


هذا الجحيم هو تدوين لحال دمشق من 25/4/2012 إلى 9/12/2013، فى سوريا قامت ثورة فى الجنوب من أجل كرامة المواطن بتاريخ 15/3/2011، وإن كنت تذكر كان وقتها شىء أطلقوا عليه «الربيع العربى»، وأراد الشعب السورى أن يدرك هذا الفجر، لكنه وقع فى بحار حرب أهلية بلا ضفاف، لا شىء.. لا شىء تحقق سوى: دماء فى الشارع:
«انظر الشارع تغطيه الدماء».


أنا وحدى من أفلت لكى أروى لك ما حدث!
وهذه المرآة التى أنظر فيها:
هى وحدها من يؤرخ طبقات الجحيم فى تضاريس الوجه، وهذه الصفحات «166 صفحة» هى محاولة لتسجيل تاريخ الحريق الخارجى والداخلى الذى مازال مشتعلاً فى دمشق، وتقول الصحفية الإيطالية الشجاعة التى عاشت فى قلب الحريق
«لاورا تانغر لينى» وكتبت كتاب «سوريا تهرب»، تقول:
لماذا.. لماذا يتظاهر العالم بعدم رؤية ما يحدث هناك؟
يقول الروائى الشاعر فى نوع جديد من الرثاء:
«ليل خريفى غامض وملطخ بكآبة مزمنة، وأيلول مثقل بالعار، ومتاهات لا تقود إلا إلى الجحيم، فى كوميديا إلهية، من صنف فريد، ومحاكمات رومانية يقودها عميان أضاعوا كتابهم المقدس فى كهف معتم واكتفوا بفتاوى الجنون وشهوة القتل، حطام بشر ليس لديهم ما يفعلونه سوى أنهم يحتضرون فى رمال متحركة».


دمشق، الجميلة دمشق، اسمها مشتق من «المسك»، عنها قال «لامارتين»: دمشق واحدة من تلك المدن التى كتبتها يد الله على الأرض، دمشق: نزار قبانى، والياسمين، الفيحاء حلب، «الشهباء» جنة المشرق ومطلع نوره المشرق، دمشق كانت كما يقول ابن جبير: قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلت فى حلل سندسية من البساتين، وحلت موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت فى منصتها أجمل تزيين».


وقال محمود درويش فى معشوقته دمشق بعد فلسطين، قبل أن يرحل بالقلب المفتوح:
فى دمشق تسير السماء وعلى الطرقات القديمة حافية.. حافية
فما حاجة الشعراء إلى الوحى والوزن والقافية.


ترسم شهادات الشهود التى سجلها خليل صويلح فى عمله الذى لا يخضع لتصنيف خريطة زرقاء لتداخل القبح والجنون مع الطائفية والطغيان فى ظل مخططات المصالح والخراب وإنكار الوجود الإنسانى تحت أستار من العماء الدينى الأسود الذى يكتسح البلاد والعباد ليؤكد أن «الظلم يؤذن بخراب العمران» فيصف كاتبنا حالة البلاد والعباد قائلاً:
«مهاجرون وأنصار يتبادلون الاتهامات فوق أشلاء بلاد ممددة فوق سرير عمره ثمانية آلاف عام، فى المنام أرى وحشاً أسطورياً، يتجول بين الخرائب، وقد ابتلع ألواح أيبلا، وفخاريات مارى، وأبجدية أوغاريت، وأديرة معلولا والجسر المعلق فى دير الزور، وتمثال عشتار فى المتحف الوطنى، وحش بأربع قوائم، وكتاب فتاوى، وأقبية تعذيب، وثأر قديم، وقرابين، وحش جائع على هيئة رجل كهف استيقظ على رائحة دم، وعطر عذراوات وثمار برية، وحش يشعل ناراً بأصابع يديه، يحرق أكداس القمح، والجسور، وعجلات السيارات، وأشجار المشمش والتفاح، وأعمدة الكهرباء، يلقى الجثث من فوق أسوار قلعة دمشق، فيهتز ضريح صلاح الدين الأيوبى، وتتداعى جدران الجامع الأموى.. ويتطاير سقف سوق الحميدية».


فى شهادات «جنة البرابرة» مزيد من وصف أعماق الجحيم الذى تعيشه دمشق الجميلة ويعيشه معها وفيها فنان أصبحت أسلاك الشعور والانفعال عنده عارية!


قدم لنا فى نصه هذا الجديد الذى فرغ منه عندما وصل عدد الليالى الرهيبة إلى رقم الألف.. وبعد الألف وواحد تنسحب «ألف ليلة وليلة» وتختفى شهرزاد ونبقى مع العدد العبثى اللانهائى الذى يشير إلى الجنون.


النار مشتعلة لاتزال، الشبيحة، والمندسون، وبضائع التهريب والقنابل الحديثة، وبراميل البارود، ليس مهماً عدد القتلى أو الجرحى أو المهاجرين، المهم هو الاستمرار فى صناعة وتطوير شكل الكابوس، كل الناس صالحون للحرب:إن لم يكن لكى يقاتلوا فهم صالحون لكى يموتوا.


أما كلمة الأمل: فكم تبدو.. غريبة وصدئة!
المقاتلون الجدد على الحواجز وفى الشوارع يسألون المواطنين:
كم عدد الركعات فى صلاة الفجر، فإن تردد أو أخطأ فهو كافر، الذبح شرعاً هو الجزاء، كل شىء بعد ذلك غنيمة، بشرط أن يصيح القاتل المسلم الجديد «الله أكبر»، لو كانت الضحية امرأة فهى من السبايا، ولو كانت عربة دفع رباعى فبها ونعمت، كاميرا التليفون المحمول تضع صوراً صالحة للبيع للصحف والقنوات الفضائية، الكاميرات تسجل الإعدام فقط ولا تسجل اقتسام الغنائم، هذه الكاميرات سلاح استراتيجى جديد، وتليفون الثريا أصلح مادة للتهريب: أسهل من السلاح، وأكسب من المخدرات.


الرسام يوسف عبدلكى اسم رمزى فى الفن السورى يقف جنب المخرج: ملص والشاعر الراحل الماغوط والنحات عاصم الباشا وأسماء عصية على الإحصاء فى هذا الجحيم، يسجل خليل صويلح فى مدونات شهوده هذه: إن عبدلكى لم يتخلّ عن الرسم باللون الأسود إلا لكى يستعمل اللون الأحمر، قال له
«عندما تقتحم اللوحة صور الشهداء فإن الأحمر يسيل فى كل مكان».


اعتقل عبدلكى عند حاجز أمنى بتاريخ 18/7/2013 عند مداخل مدينة طرطوس غاب أكثر من شهرين ونصف، وعندما عاد كان قد فقد أكثر من أربعة عشر كيلوجراماً من وزنه، ولكنه لم يتخل عن ابتسامته.
«قال: هذا تسونامى جارف لن يتوقف، استمر يعد الشاى الذى يقدمه لضيوفه قائلاً: زلزال أصاب أساس البناء، على الفن أن يستمر فى أداء دوره: الفن شاهد على الألم، راصد لمعاناة البشر، ويقيس منسوب الأمل فى قلوبهم».
                     
                     ■

تحرك خليل صويلح بحرية فى كتب التراث
«كما هى عادته فى روايته السابقة (وراق الحب) التى حصلت على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية 2009»
استخرج من الكتب القديمة ما يرسم رحلة الألم التى يعيشها العالم العربى، كما رسم صوراً حديثة «لمحاربى الفيس بوك» و«شعراء الظل» و«مثقفى المقاهى» من بقايا نضال السبعينيات لكى تكتمل البانوراما العبثية الصاخبة الدامية التى تحرر فيها الكاتب من كل قيود الشكل، لكى يقدم مادة فنية طازجة لها حرارة وسخونة الدم المراق.


- جنة البرابرة - رواية. خليل صويلح .
- دار العين للنشر .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى المصرى اليوم بتاريخ 21 مارس 2015

الأربعاء، 18 مارس 2015

الحب مائدة سماوية

               
                     نتيجة بحث الصور عن ديوان لمره واحده




«لمرة واحدة» هو الديوان الشعرى الصغير (35 قصيدة) الذى صدر بعد معرض الكتاب للشاعر والروائى والناشر السكندري:
 علاء خالد وهو عمل جديد فيما يطرحه من موضوعات وفى تطوير شكل قصيدة النثر.

بدأ الشاعر كتابة قصيد النثر 1990 فى ظروف سياسية مرتبكة وخائفة، ومنذ ذلك الحين أصدر 5 دواوين شعرية
و4 أعمال نثرية ورواية متميزة، كما واصل إصدار أكثر من 11 عددا من المجلة الفريدة «أمكنة» التى تصدر فى الإسكندرية بمساعدة من شريكة حياته المصورة سلوى رشاد.
»لمرة واحدة« نقلة فى قصيدة النثر، وتطور فى كتابة علاء خالد. 

عن دار شرقيات صدر هذا الديوان، الذى يقول فى وضوح أن قصيدة النثر تفسح لنفسها مكانا مستقرا فى المشهد الأدبى والفكرى والسياسى المرتبك.
رغم الانقراض الذى يحدث للطبقة المتوسطة ـ التى ينتمى إليها كل من الشاعر والقصيدة ويتمردون عليها فى الوقت نفسه، فأن قصيدة النثر تكاد تصبح الصوت الأبرز فى التعبير عن كل هذه الفوضى الاجتماعية والروحية التى يعيشها عالمنا العربي.

تأخذ شكلا وتطورا مختلفا فى لبنان وفى العراق وفى الشمال الأفريقى وفى الخليج ولكنها هنا وبالنسبة لتطور علاء خالد كانت بدايتها رغبة فى الاعتراف وفى قول الحقيقة فى زمن الاعلام الراوى وفى زمن الصوت الواحد الذى اخفى كل مشاكل الداء تحت سجادة القومية ثم سجادة الصلاة، ظهرت فى الثمانينيات والتسعينيات حركات نشر «الماستر» وجماعات الشعراء الذين يخاطبون أنفسهم، وغرق «الجمهور» فى أنواع أخرى تماما من الفن الفاسد والمزيف. قليلون هم من استمروا قابضين على الجمر مصرين على تقديم فن حقيقى لجمهور حقيقي، وليس بضاعة مزيفة لقطيع محشود. منهم شاعرنا الذى أصر على مواصلة الاعتراف .. وقول الحقيقة.


متابعة تطور علاء خالد الشعرى يكشف تطور معنى الحقيقية ومعنى الآخر ولابد من دراسة نقدية لهذا التطور ـ وهو بالطبع لم يكن مقتصرا على علاء وحده: لكن معه تجارب أخرى هامة وأساسية تكشف غيابا تاما للدعم والكشف النقدي.

 كيف تصاعدت هذه الأصوات المتمردة فنيا واجتماعيا حتى وصلنا إلى يناير 2011 وما اعقبها، وكيف تواكبت وانفصلت عن قصيدة العامية والقصيدة الحرة والكلاسيكية، بالنسبة لعلاء خالد كان ديوان: تصبحين على خير (2007) وديوان (تحت شمس ذاكرة أخرى 2012) نهاية مرحلة. بدأ فى الديوان الجديد صوت آخر.. وبدأت معه مشاكل أخري.


ما هى الحقيقة الشعرية؟
 هل هى حقيقة أخري!
وما هو المكان الغامض الذى يأتى منه الشعر؟
من هو ذلك «الآخر» الذى يخاطبه الشاعر؟
 وأين هو ذلك المكان الآخر الذى يتحدث عنه الشاعر.
هل هو عالم يقع بين الوعى واللاوعي.
وما علاقة كل هذا بواقع الناس. بالألم. والجوع ـ والعرق. والدموع.


كتبت قصائد هذا الديوان: من يوليو 2012 إلى ابريل 2013 وأظنها كانت سنة صعبة بالنسبة للبلد والشاعر نفسه
(تجربة مرض مؤلمة).


تحت هذه البقعة الخالية من الضوء/ صوتى محمل بأصوات تتدافع من الماضي/ ذاب أصحابها فى الظلام/ تحت هذه البقعة التى تتحرك باستمرار/ لا أملك إلا فرحا مؤقتا/ بأننى مازلت هنا.


تغير صوت الشاعر واختلف خطابه وهمومه:

«الحزن هناك قميص واق من الرصاص،/ فى تلك الحروب الصامتة والدماء المجمدة فى الأوردة/ وفى العيون، والخسارات غير المعلنة/ الحزن هناك،/ لا يلمس بابه تراب أقدام الزائرين. طاهر كبيت مقدس. الحزن هناك يترجل بلا أقدام/ لا يحتاجها/ لأنه يسكن بداخلك/ وانت تسير بدلا عنه.
«أنا ابن كون زائل/ ونجوم مطفأة فى كراسات الرسم».
 «نعيش ومن حولنا، فى الظل، الكثير من الأوهام.
الألم، المرض/ الفرح/ الموت/ أشياء تجمعنا.
ولكن لا تجعلنا أبطالا، أو حتى صادقين.
 «الألم وثن/ لا يمكن الكفر به بسهولة».
 حياة واحدة لا تكفي/ لكى نتعلم الحساب والجغرافيا والحب.
 لقد قرأنا الكتاب مبكرا/ وعرفنا بأننا سنموت


لا أحب أن أوحى بأن الشاعر غارق فى حزن أسود.
أنه غاضب محير، أو هذا ما وصلنى من ذلك الألم الوجودى الذى يعبر عنه الشاعر دون حكايات أو تفاصيل.
 فى قصيد جميل بعنوان:
كنت أصلى وأنا صغير، يلامس الشاعر مشكلة العقيدة والطقس فيقول:
 مازال مكانى فارغا/ فى هذا الجامع القديم الذى كنت أرتاده صغيرا/ مازالت قدم جارى تجاور قدمى الغائبة/ مازلت غائرا بوجهي، على السجادة الحمراء/ كفريق يريد أن ينجو بحياته./ مازلت أحفظ دعائى القديم وأتلوه بدون تلعثم أمام غرباء.
مازلت احتفظ فى قلبى بجامع صغير لا تؤدى فيه أى فرائض/ به مكان فارغ لطفل كان يبحث عن جنة قريبة فى سجادة الجامع الحمراء.
 الكون نفسه نسخة مستعملة/ لكون آخر/ وإلا كيف نفسر هذا العوار/ هذا الاضطراب فى أنظمة الذاكرة والنسيان.
لن أضيع وقتى بعد الآن/ لم تعد هناك فسحة لهذا النوع من الأحلام الانتحارية.
ربما تكون حياتى بدون حلم هى الحلم الذى حلمت به.

لا يتركنا الشاعر علاء خالد فى ديوانه الجديد دون »نشيد« للفرح السكندرى يقدمه فى »صباح شتوي«

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 18 مارس 2015

السبت، 14 مارس 2015

علاء الديب.. بورتريه لتلك البساطة المعقدة






كتب لي أحد أصدقائي المبدعين: هل قرأت أهرام اليوم؟ وأرسل المادة مع السؤال...
كانت مادة تنطوي علي كل التساؤلات المحورية والجدية التي طُرِحت حول روايتي "رياح يناير"... وكان الناقد علاء الديب يوجه لوما رقيقا، وربما عتابا نقديا حميميا لاكتشافه جملة من الأمور التي تحتاج إلي مراجعات.


لم نكن قد التقينا أو تقاطعنا قبل ذلك. ولكن علاء الديب، الناقد  القارئ، حاضر دائما في العديد من تقاطعاتي مع أصدقائي. وهو أيضا حاضر منذ فتحتُ عيوني علي الكتابة. فالمشهد الإبداعي المصري لا يمكن أن يكتمل إلا بحضوره. وعلاء الديب يقرأ ليعيد إنتاج العمل عبر عملية إبداعية متشابكة ومعقدة لا تنحو نحو إعادة السرد وذكر الجمل والعبارات والحكاوي المذكورة أصلا في العمل الأدبي، بقدر ما تنطوي علي قراءة موازية للعمل من أجل إعادة إنتاجه نقديا...


كتب لي صديق ثان عن بعض تفاصيل تلك المادة المنشورة في الأهرام. طلبت منه هاتف علاء الديب. واتصلت... كان لقاء حميميا دار الحديث فيه عن تفاصيل تفتح كل الطرق الممكنة للقاء من أجل تناول هذه التفاصيل بشكل أكثر تفصيلا واتساعا.. وقال، أرجو أن تمر عليَّ إذا جئت إلي القاهرة...


لقاء بسيط يدور الحديث فيه عن تفاصيل حياتية وإبداعية كثيرة بدون مبالغات واستعراضات ومحاولات للتسلل إلي مناطق قد تنفتح تلقائيا فيما بعد.. حديث تفرَّع إلي الحياة وسط حركة دافئة في مساحة بقدر شرفة بيته والسيدة قرينته تشاركنا الحديث بذكاء وخفة وبساطة تشبه بساطة المتصوفة.. وبين الحين والآخر ينقطع الحديث ليتصل من جهة أخري مع الحلاق الذي كان يشاركنا الحوار ويداه تعملان بخفة أثناء تساقط شعيرات من رأس علاء الديب بفعل حركة المقص الخفيفة والمدربة...


حكينا عن سنوات فائتة وقضايا داخلية وإقليمية ودولية.. وأفاض علاء الديب ببساطة في غاية التعقيد والصعوبة من مخزونه الإبداعي، ومن ذاكرته الحية. هنا تحديدا، وأثناء الحكي، تحول هذا الشخص، الذي كان مجرد اسم كبير قبيل ساعات، إلي كينونة إنسانية من لحم ودم وذكاء فطري معجونة بخفة ظل، لتنفتح تلك المناطق وتصبح عملية التسلل إلي الروح تلقائية وطبيعية وضرورية وبعيدة تماما عن فكرة التلصص و"الاستذكاء" أو "التذاكي" التي عادة ما يتبعها المصريون للتسلل إلي أرواح بعضهم البعض وأرواح الآخرين.
قررت أن أتحدث عن أهمية كتاباته عموما. فقد تجاوزتُ سريعا مرحلة الخجل الخاصة بيَّ أنا شخصيا، وكذلك إمكانية وضعه في مأزق أن ضيفه جاء يزوره لسبب ما يمكن أن يثير خجله هو بنتيجة الإطراء... قررتُ ببساطة أن أبتعد عن منطقة الإطراء لأتحدث في نقاط محددة حول أهمية إصرار علاء الديب علي متابعة الكتاب الجدد والشبان الذين وضعوا أولي أعمالهم في مساحات الاهتمام والنقد. وأن مقالاته النقدية تُثَبِّت جملة من الأسس والقواعد التي تثير اهتمام الكتاب الشبان التي يتناولها باهتمام وجدية بعيدا عن التعليمية والحساب والعقاب والصح والخطأ والجيد والسيئ.


تحدثنا عن عتابه الرقيق، وربما لومه الحذر، لعملية الحكي والسرد في روايتي. ضحكنا، لأننا اتفقنا، واعترفتُ بأن ملاحظاته في الصميم، وأنها ستكون منصة انطلاق في أعمال أخري آتية... وانعطفنا إلي مواضيع أخري، ثم اتفقنا علي زيارات ولقاءات واتصالات أخري. إذ ظهرت موضوعات وتفتحت طاقات تحتاج إلي مواصلة الكلام والمتابعة... 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في أخبار الأدب بتاريخ 14 مارس2014 للكاتب أشرف الصباغ

فؤاد حداد والرؤساء الثلاثة

  


هذه مغامرة فكرية محسوبة ومفيدة، كتاب «جرىء ودقيق ورائد» قدم لنا سيد ضيف الله دراسة نقدية جديدة لصورة الشعب المصرى خلال فترة حساسة ودقيقة تمتد من أوائل القرن العشرين حتى الآن، رسم هذه الصورة من خلال رؤية وفكر أربع علامات مهمة: ناصر، والسادات، ومبارك أما الرابع فهو صوت وتراث: والد الشعراء، وإمام شعر العامية: فؤاد حداد.

«النقد الثقافى» الذى يقدم لنا الكتاب «نموذج» علمى جاد فى تقديمه وتعريفه وجدواه يلامس كل مشاكل الخطاب الفنى والسياسى، يفتح النقاش والبحث فى علاقة الفن بالسلطة والتحولات المتبادلة بينهما، وصورة الشعب كما يراها صاحب السلطة وكما يتصورها ويحلم بها الفنان، خلال «النقد الثقافى» يفتح الباحث نوافذ: على معنى السياسة وعلى دور الفن.

وكما تقول الناقدة الكبيرة فريال غزول فى تقديمها للكتاب: «إن اختيار الباحث لخطابات الرؤساء على تباينهم موفق، لأنه خطاب السلطة ومن موقع الرئاسة، بينما القصيدة خطاب الشاعر من موقع الناس والغلابة، الكتاب يتناول علاقة المثقف أو المبدع بالسلطة، هذا التناول الموازى بين نصين أحدهما أدبى شعرى والآخر تاريخى سياسى يساهم فى نموذج الدراسات الثقافية، متخذاً من مصر القرن العشرين مجالاً للبحث».

المتابع المنصف لحركة النقد عندنا يرى أنها قد وصلت إلى طريق مسدود، لا شىء جديد، ولا فكر مفتوح: النقد القديم يكرر نفسه ويستند إما إلى معارف جامدة بالنقد التراثى البلاغى، أو إلى مواقف أيديولوجية مغلقة، بينما تيارات ما يسمى بالنقد الحديث الصادر من المدارس الأوروبية الحديثة: البنيوية والتفكيكية، ومدارس فرانكفورت أو باريس: فقد فشل خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة فى أن يقدم لنا نموذجاً: من فكرنا ومن أعمالنا محل البحث والنقد، الخلاصة: إننا نحتاج إلى نقد ولا نجده، ما نقدمه فى الصحف والمجلات هو تقديم للأعمال أو تعريف بها أما النقد كجزء مهم وضرورى فى العملية الإبداعية فهو - حقاً - غائب ومفتقد!

ومن هذا الموقف كانت سعادتى بمغامرة د. سيد ضيف الله فى تقديم نموذج حى وجديد من «النقد الثقافى» الذى يحاول فى الغرب أن يسد هذا الفراغ الذى فشل النقد الحديث أن يقوم به: إكمال ودفع العملية الإبداعية إلى الأمام وفتح نوافذ لرؤيتها على حقيقتها وتفعيل جدواها والاستمتاع بها.

الاقتراب من عالم فؤاد حداد وإعادة قراءة شعره فى ضوء جديد، متعة وحدها، كأنك ترى البلد بعيون نقية وجديدة، كأنك ترى نفسك، وتعيد ترتيب روحك المتعبة الحائرة، نوع نادر من الشعور بالانتماء تبعثه فى النفس قصائد هذا الإمام، الغريب أنه يكاد أن يكون القائل الوحيد الذى يختفى فى دواوينه شعور الانقسام بين العامية والفصحى، لغته لغة الشعر، لغتى: أسكن إليها كأنها وطن.

«لا مفتاح لاستيعاب هذا الرجل والإحاطة به سوى المجاهدة، أن يحتويك نصه» هكذا قال أحد مريديه، وعلى الرغم من حضور الشاعر فى حياته وبعد رحيله فى الوجدان الشعبى فإن القليل واليسير من الدراسات تناولته بما يستحق من بحث، هو فى الحقيقة ظاهرة: مهمش نقدياً وإن كان مركزياً فى ساحة الشعر.

ما دفع الدكتور ضيف الله فى اعتقادى لاختيار فؤاد حداد لكى يخوض معه هذه المغامرة النقدية، هل إلى جانب الإعجاب الحقيقى بالشاعر والقرب من رؤيته ومواقفه الفكرية والمبدئية، هو تركيب شعر فؤاد حداد وحياته ومواقعه، وما مر به من تجارب وتحولات تحمل كل معانى مصر، يقول د. سيد ضيف الله:
«اخترنا فؤاد حداد نموذجاً للدراسة ليس باعتباره ممثلاً لشعر يعانى الإهمال النقدى، وإنما بوصفه شاعراً استطاع أن يعيد تشكيل هويته بإرادته الفردية فى مخالفة صريحة للتقاليد المجتمعية المتوارثة، فهو المسيحى الذى يختار الإسلام ديناً، وهو المسلم الذى يختار الإسلام من أجل الإنسان لأنه دين الأغلبية الفقيرة، وهو خريج المدارس الفرنسية، الذى يختار أن ينطق ويكتب بالعربية، بل ويكتب شعره بالعامية، وهو السابح فى ملكوت الفصحى والسباح فى بحور موسيقاها، وهو ابن الطبقة فوق المتوسطة الذى يختار الشيوعية منهجاً للتفكير وأفقاً للحياة، وهو الماركسى العاشق فى حضرته الذكية للنبى المصطفى، وأصحابه الأخيار: «إلى أى مدى وهو كل ذلك استطاع أن يخرج من أسر الأنماط، أو «السنن» الفنية وكيف تبدت فى تراثه الضخم «أكثر من 12 مجلداً للأعمال الكاملة عن هيئة الكتاب الآن»، هذه هى بعض الأسئلة التى يحاول الباحث أن يقترح لها إجابات، بل إنه هو والأستاذة غزول يقترحان على النقاد والعاملين فى حقل البحث النقدى الثقافى مشاريع أبحاث مهمة، لعل أكثرها إثارة هو الموضوع الذى تقترحه الأستاذة فريال غزول فهى تقول فى نهاية مقدمتها للكتاب: «سيسعدنى يوماً أن أطلع على دراسة تحدد تاريخ كلمة (الشعب) ومتى نبذ النقاد كلمة (الرعية) مستبدلين إياها بكلمة شعب»! الكتاب كما حاولت أن أقول غنى بالأفكار، ويفتح نوافذ للبحث الجاد الحر.

أمضى الشاعر أكثر من خمس سنوات معتقلاً فى عهد ناصر ومع ذلك فقد قال شعراً خالداً فى علاقة الزعيم بالشعب فى ذلك الزمن، أحب الرجل وحركة الشعب من حوله ومعه، فجرت نكسة 67 وجماهير 9، 10 التى رفضت التنحى والهزيمة، طاقة فنية ونضالية غير مسبوقة فى روحه وكلماته: قال ناصر: «نحن شعب طيب يعطى ثقته لكل مخادع أو مضلل»، وقال حداد: «مكتوب اسم الوطن فى كل طير مدبوح»، وقال: الشقا فى كل مكان/ الغلابة والمساكين/ فى المصانع والغيطان/ عن شمالك واليمين/ إحنا فى الدنيا مآسى/ فاقها سحر العناوين/ جينا الدنيا نقاسى/ الشقا ملازم رهين.
وعند رحيله كتب أعذب وأمر رثاء لناصر حيث يقول:
فين طلتك فى الدقايق تسبق المواعيد
والابتسامة اللى أحلى من السلام بالإيد
يا فجر يا حضن مصرى
يا أحن شهيد

مع انتهاء الحقبة الناصرية، والدخول فى المنحدر بأشكاله المختلفة من تبعية وسلام وانفتاح سداح مداح، دخل فؤاد حداد، فى حالة مرضية توقف فيها عن الكتابة، سماها ابنه، حسن حداد «الدوخة» وهو يرى «الشعب» يتحول فى الصورة الرسمية: إلى عبء على الحاكم، أو همج، أو عائلة افتراضية، «أراجوز» «متفرج» مثير للشفقة، مع أكتوبر والعبور، أفاق الشاعر لكى يكتب فيما يشبه الحمى، أكثر من ثلثى تراثه، يكتب بعد أيام العجب، والموت شعراً، يفيض من قلب الوطن كأنها المياه الجوفية تتدفق للخروج بلا حساب، شعر عبثى حر، ولكنه يصرخ مطالباً بالمعرفة وبالعدالة.. وأولاً بالحرية!

هل رحل فؤاد حداد وهو يرى فجر يناير وجماهير التحرير؟!
صورة الشعب بين الشاعر والرئيس - د. سيد ضيف الله - كتب خان - القاهرة 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 مارس 2015