قضية للمناقشة :علاء الديب

فريدة النقاش 

بقى الكاتب الراحل “علاء الديب” مثقفًا مستقلاً عن كل القوى السياسية طيلة حياته العملية التى امتدت لنصف قرن أو يزيد، وبقى كذلك واحدًا ممن قدموا نموذجًا محترمًا ومتكاملاً لهذا الاستقلال حين جعلت منه كتاباته وممارساته الواقعية مؤسسة تمشى على قدمين ذات نفوذ كبير على الحياة الثقافية بكل ما مثله من قيم وأخلاقيات، مترجما الفكرة القائلة إن المثقفين يمثلون تقاليد شعب بكل تناقضاتها، وهى الفكرة التى قال بها المناضل والمفكر الاشتراكى الإيطالى “أنطونيو جرامش” مدركا مدى فعالية الأفكار أو الأيديولوجيا فى التاريخ، واستنتج من دراسته لتاريخ إيطاليا أن المثقفين هم موظفو البنية الفوقية، أو ما نسميه نحن الآن القوة الناعمة، وهم أيضا منظمو الهيمنة بقدرتهم على تشكيل الوعى السائد عبر المدرسة والإعلام والدين.

وتدلنا القراءة المتأنية للمرحلة الأخيرة من تاريخ مصر المعاصر على وجود مجموعة من النماذج المتصارعة لمثقفينا، مع الوضع فى الاعتبار أن كل طبقة أو قوة اجتماعية تتولى عملية تكوين مثقفين ينطقون باسمها، ويقدمون رؤيتها للعالم إذ تتصارع الرؤى المختلفة للوصول إلى التأثير والنفوذ سواء عبر المثقفين الأفراد الذين تحولهم ثروتهم المعرفية إلى مؤسسات، أو عبر التأثير السياسى المباشر الذى يتوفر لهم من الارتباط بالسلطة.

ظل النموذج الشائع للمثقف فى ظل نظم الاستبداد والفساد هو المثقف الأداء الذى تستخدمه السلطة وأجهزتها لتحسين صورتها المختلة أمام ملايين المواطنين الخاضعين للاستغلال والقمع، وتكون هذه الأداة هى ذراعها لإشاعة الوعى الزائف.

وينطبق على هذا النموذج من المثقفين، وهو النموذج الشائع فى التاريخ العربى الإسلامى منذ القدم، قول “بن رشد” عن “الغزالي” ما معناه أنه كان يلعب على حبال عدة، فهو متصوف مع المتصوفة، متكلم مع المتكلمين، فقيه مع الفقهاء، وفيلسوف مع الفلاسفة، ولو أنه كان يخفى ذلك الوجه الأخير خوفا أو تملقا.

وفضح الشاعر الراحل “أحمد فؤاد نجم” هذا النموذج الأداة فى أشعار ساخرة غناها الشيخ “إمام عيسي” فأسقط هيبته الزائفة أمام الجمهور الواسع، وأزاح الغبار العالق بصورة النموذج الآخر والأقل شيوعا، وهو نموذج المثقف المناضل، الذى اختار موقعه فى قلب الجماهير المكافحة من أجل حريتها واستقلال إرادتها وحقها المشروع فى الثروة والسلطة.

وقدم هذا النموذج صورة إيجابية للمثقف النقدى الملتزم والذى دفع برضا ثمن التزامه، ولكنه طالما ظل مهمشًا، ومطرودًا من المتن، بل وملاحقا فى أحيان كثيرة لإبعاده عن مؤسسات صناعة الوعي، وانتمى بعض هؤلاء إلى الأحزاب التقدمية سرية وعلنية فى المرحلة الأخيرة، وتلون اختيارهم السياسى – المعارض غالبا – بعمق ثقافتهم وقدراتهم المعرفية، والمهارات التى اكتسبوها عبر التعليم والممارسة.

ودارت بين هذين النموذجين المتناقضين للمثقف صراعات مريرة ممتدة على النفوذ والهيمنة، واستمد المثقف الأداة قوته من ارتباطه بالسلطة ودفاعه عنها ظالمة أو مظلومة، بينما استمد المثقف النقدى نفوذه من التزامه بمصالح الكادحين وتعبيره عن تطلعاتهم وآمالهم، وبقى دائما مثل هذا النفوذ محدودا للغاية فى ظل هيمنة الدولة الأمنية.

وخروجًا من هذا المأزق برز نموذج ثالث هو المثقف المستقل الذى نأى بنفسه عن الصراع السياسى المباشر، وأخذ ينسج نفوذه المعنوى فى المساحات المحدودة التى استطاع أن يستخلصها من قبضة الدولة الأمنية، ومن تراكم طبقات الوعى الزائف، وفتحت له بابًا جديدًا إنتفاضة الشباب التى مكنتها ثورة الاتصال من اجتياز العقبات والأسلاك الشائكة التى وضعت فى طريقها، فكما تصنع الظروف الإنسان، يصنع الإنسان الظروف.

ينتمى “علاء الديب” إلى هذا النموذج الثالث أى المثقف النقدى المستقل، والذى لم يستثمر هذا الاستقلال – مثلما فعل البعض – لمصالح شخصية، وتجنب السقوط فى النرجسية والاستعلاء على الآخرين، كما فعل آخرون، وإنما تضمنت نظرته النقدية للعالم نقدا ذاتيا حازما وكأنه جزء من تكوينه الشخصى فبقى واحدا من قلة نادرة قدمت للأجيال الجديدة حكمة وأملا سواء فى إنتاجها أو سلوكها وهو ما يحتاج إلى إضاءات متواصلة لعمله الذى سوف يبقي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر المقال في جريدة الأهالي بتاريخ 24 فبراير 2016