السبت، 27 يونيو 2015

جعلتنى أنسى من أنا





ستبقى الرواية أبداً شكلاً فنياً ساحراً:
 كأنه القصر المسحور، له نوافد وأبواب بلا عدد، يطل على البحر والصحراء، على الغابات والبشر، على التاريخ والمستقبل والسماء

 هذا الأسبوع عثرت على كاتب إيطالى كبير:
أرى دى لوكا «مواليد نابولى 1950» وروايته الفذة
«ثلاثة جياد»، وكأنى دخلت قصراً مسحوراً لا أعرف من أي باب أخرج، الرواية تجمع في تركيبة جديدة بين السيرة الذاتية والشعر والتأمل الفلسفى في بناء سردى درامى محكم، هي رواية قصيرة «130 صفحة»، ولكنها تبقى معك وكأنك عرفت الرجل: صار صديقاً قريباً لك، حكى لك تاريخه وشاركته أفكاره ورحلاته، حبه ووحدته وإحساسه الجديد.

«عولمة» إنسانية جمعت في حس بسيط دون شعارات بين أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا، مشيرة من طرف خفى إلى تلك المنطقة الساحرة التي هي قلب العالم: البحر الأبيض المتوسط

بطل الرواية لا اسم له بستانى في مدينة إيطالية صغيرة تطل على البحر، بعيداً عن ضوضاء المدن الكبرى وصخب الحياة التي شبع منها واكتفى بهذا العمل، يرعى أرض صديق قديم
«يعمل مخرجاً لأفلام تسجيلية» ويحتفظ ببيت وحديقة واسعة يرعاها له صاحبنا.. صديقه القديم، أيام النضال في مناطق العمال: «لقد كان طالباً، وكنت عاملاً، وكان كلانا، في تلك الفترة شيوعيين وهى كلمة باتت الآن مرمية في مكب نفايات القرن الماضى».

البستانى يحب عمله الذي يبعده عن الناس والمدينة والسياسة، يقرأ الكتب القديمة «المستعملة».
الكتب المستعملة عظامها هشة فتطوى الصفحات بسهولة من دون أن تحاول النهوض ثانية «يختار الكتب التي نتحدث عن الصحراء أو البحر، لا يحب الكتب التي تذكِّره بضوضاء المدينة.

ينتهى من عمله ظهراً في الحديقة، ويأتى إلى معلم القرية يتناول غذاءه، وكأس نبيذ وحده ويواصل القراءة في كتبه المستعملة القديمة التي يسندها على سلة الخبز.
 أحياناً يتبادل حواراً قصيراً مع صاحب المحل الذي يرى فيه زبوناً هادئاً أنيساً وطيباً.

تدور أحداث الرواية عندما يجلس في مائدة مجاورة رجل وسيدة، السيدة في مواجهة البستانى كأنها تعرفه تبتسم فيحييها برأسه ويعاود القراءة.
 إنها امرأة بهية، ماذا تريد امرأة رشيقة شابة من بستانى كهل خمسينى مثله، وهى خارجة مع رجلها وضعت ورقة على مائدته، وهى تقول لقد غيرت عنوانى وهذا رقم التليفون الجديد.

وكأن ليلى بحركتها العادية هذه قد فتحت العالم السحرى للبستانى الصامت الذي يعشق الأرض والأشجار والكتب المستعملة.
لقد أمضى عشرين عاماً من حياته في أمريكا اللاتينية في «الأرجنتين» في قصة حب حارقة وفى مقاومة شرسة لديكتاتورية الأرجنتين.

هاجر إلى الأرجنتين 7 ملايين مهاجر حتى 1939، نصفهم من إيطاليا، حاربت الأرجنتين ديكتاتورية عسكرية باطشة حكمت 1976 إلى 1982 انتهت بحرب الفوكلاند التي شنتها بريطانيا، فقدت الأرجنتين في الحرب ضد الديكتاتورية العسكرية ما يقارب «أربعين ألف شخص أكثرهم من الشباب، من دون مقابر تدل عليهم».

أحب صاحبنا «دفورا» الأرجنتينية التي كانت في رحلة تسلق للجبال في إيطاليا، رآها أكثر ألقاً من شمس الظهيرة، وشعرت بدبيب النمل في دمى وبزئير الأسد في قلبى، وتبعها حتى النهاية فقد كانت هي المرأة التي خلقت له، كذلك كان هو، تزوجا وعاشا بالأرجنتين، ودخل معها في حركة المقاومة التي انتهت نهاية مأساوية.

عشقتها وجريت خلفها حتى صرت بسببها واحدا من أبناء بلدها، أعرف الآن أنها ترقد في أعماق البحر مربوطة اليدين والقدمين، لقد عاشت من أجلى وماتت كى تمنح عينيها للأسماك.

عاش بعد ذلك رحلة هروب طويلة في الصحارى والغابات وحيداً مع عنزة منحته لبنها حتى لا يموت وهو يعيش عالم الأرجنتين القاسى، حيث يرى خرائط العالم مقلوبة، رأى الأرجنتين وقد تخلصت من جيل كامل تمت إبادته، لم ينقذ البلد سوى غزو فاشل.

قال لصديقته الجديدة ليلى، بعد أن فتحت بوابات التذكر على مصراعيها: أنا الآن عاجز عن إنقاذ أحد، الحب بطاقة سفر بلا عودة، ما الموت! الموت هو العودة إلى نقطة البداية دون جسد.
هكذا كانت أمريكا اللاتينية يا ليلى.. أيام طويلة من دون صباحات، لم يتبق منا سوى قلة قليلة، نرمى أنفسنا في المعركة مثل وحوش ضارية، نمضى نحو طلقات الرصاص دون أن نحنى قاماتنا لأنه سيان أن بقينا على قيد الحياة أم لا، نحن أسماك في مستنقع ضحل.

يهرب البستانى في قارب صيد صغير ليعود إلى العالم الأول بعد أن فقد ظله وهو يعبر خط الاستواء، وهناك أسطورة يصدقها لكى يرتاح، هي أن من يفقد ظله يفقد ماضيه.

ليلى تعشقه مرة أخرى وتصر على أنه بعث الحياة في الإيطالى الذي كان من نابولى يحب الضحك والحب.
«حين ينغمس الشباب في الحب تظهر على وجوههم إمارات الجد والصرامة، أما الكبار فإنهم يأخذون الأمر على محمل اللعب ويطلقون العنان لضحكاتهم لكى يصير الدم حارا. الضحك يثيرهم».
تقول ليلى:
أحبك كأنك حجر في وسط نهر، أعشق الرجال وأكرهم في نفس الوقت، ولكن أنت رجل كامل، بالرغم من أنك(تركة من حياة أخرى)، أحبك لأن ما تبقى منك رائع بقدر ما كنته حين كنت كاملاً، أحبك لأننى لا أبالى بالأجزاء التي اختفت منك.

عاد صاحبنا إلى الحياة يغنى أغانى قديمة، ويحلق ذقنه دون مرآة، ويحدثها عن عشقه للأرض والشجر:
«الأشجار تحتاج إلى شيئين: الغذاء من تحت التراب والجمال من فوقه، إنها مخلوقات صارمة ولكنها طافحة بالبهاء، الأشياء الجميلة بالنسبة لها هي الهواء والضوء والعصافير والفراشات والنمل والنجوم، فتمد أغصانها كى تصل إليها، الجمال هو الذي يدفع النُسغ. (النُسغ هو عصارة غذاء النبات) الجمال يدفعه ليصعد في الأشجار إلى الأعلى، الجمال يقاوم جاذبية الأرض في الطبيعة لولا الجمال لماتت الرغبة في الأشجار».

ليلى جعلت صاحبنا البستانى يصدق أسطورة أخرى تقول إن حياة الإنسان تساوى حياة ثلاثة جياد، كل حصان 25 عاما وهو الآن يعيش مع ليلى حصانه الثالث.

ليلى التي كانت تبيع جسدها للرجال تعيش مع البستانى قصة حب جديدة، كانت تعمل كطبيبة أسنان وتركت مهنتها بعد أن كرهتها عندما ارتكبت خطأ بسيطاً ملأ فم رجل عجوز بدماء جعلتها تكره المهنة وتتفرغ لبيع الهوى.

قرب نهاية الرواية يزور البستانى كهلا أفريقيا جميلا يبيع الورد في الشوارع بعد أن هاجر من بلاده التي ازدحمت بالحروب والعنف غير المبرر، مهاجر غير شرعى يمنحه البستانى ورود حديقته بلا مقابل لكى يصبح الشاهد الوحيد على قصة حب ليلى للبستانى صديق الكتب والصمت.

تتحول الرواية في إيقاعات سريعة كأنها دقات القدر إلى عمل شبه بوليسى غامض، حيث تستنجد ليلى بصديقها البستانى من قواد لا يريدها أن تخرج من تحت سيطرته، ولكن الكهل الأفريقى الشهم يرد جميل صديقه البستانى الذي يمنحه الورد بلا مقابل، بأن يستعمل السكين الحاد الذي كان يقطع به فروع الورد، في فصل رقبة القواد الذي أراد أن يحرم البستانى من ليلى التي أعادت له الحياة، ويعود البستانى كى يكمل قصة حبه الجديدة.. وحياة الحصان الأخير.
                               ...

أرى دى لوكا: يعيش الآن، الواقع قضية مرفوعة عليه في المحاكم الإيطالية، لأنه ينظم حركة احتجاج سياسى ضد قطع الغابات بين إيطاليا وفرنسا لإنشاء خط سكة حديد جديدة، ويتهم بالفوضوية والتخريب، لكنه يدافع عن نفسه مع جماهير تقول بأنه يقود حركة احتجاج مثل غاندى ضد الاعتداء الجائر على البيئة والطبيعة.

ثلاثة جياد  (أرى دى لوكا)
ترجمة نزار أغرى
منشورات الجمل

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى المصرى اليوم بتاريخ 27 يونيو 2015

الأحد، 7 يونيو 2015

سامية أبو زيد تكتب: "صباح الجمعة" للكاتب علاء الديب.. تجوال في الوطن والنفس







فى مجموعته القصصية "صباح الجمعة"، الصادرة عن مؤسسة روز اليوسف سنة 1970 تقريبا ـ وأقول تقريبا لأن المجموعة غير مؤرخ لها، فلم يعد لدي سوى استنتاج تاريخ صدورها من عبارة "مؤسسة روز اليوسف 45 عاما فى خدمة القارئ العربى" ـ يتجول بنا الكاتب علاء الديب بنعومة فى أرجاء القطر المصرى شمالا وجنوبا عبر خمس وعشرين قصة ملامسا سطح المجتمع المصرى آنذاك وغائصا فى نفوس أفراده فى رحلة استكشافية حول الوجود ومعنى الحياة، وكأنه يحمل عدستين تسجلان لنا حال المجتمع المصرى دونما تكريس لمذهب أو عقيدة ما.


هو مجرد رصد لما يستحق ولكنه ليس رصدا معتادا، فهو يجعلك ترى الأشياء بل البديهيات والمعتاد والمكرر بشكل مغاير، ولكنه حقيقى مثل قوله فى "الحصان الأجوف": "ما أقبح الفجر فوق الخرائب" ضاربا بذلك ومهشما للصورة النمطية المتغزلة فى سحر الفجر، كما يتضح نزوعه للتصوير وميله للفنون التشكيلية فى قوله فى وصف حقول القمح قبل الحصاد: "تعلقت عيناى بالأفق الأصفر" مما يدفع القارئ لاستدعاء لوحة الحصاد الشهيرة لفان جوخ فى نفس القصة المذكورة آنفا وهى أطول قصص المجموعة حيث تقع فى حوالى أربعين صفحة.


والكاتب فى هذه المجموعة لم يدع القارئ فريسة لأي قوالب سواء فى السرد الذى تراوح بين الراوى بضمير المتكلم والراوى العليم، أو فى لغة الحوار التى تضمنتها بعض القصص؛ فمنها ما جاء بالفصحى ومنها ما جاء بالعامية، فضلا عن الإغراق فى التفاصيل فى بعض المطولات التى تقترب من النوفيلا بل وتنقسم إلى فقرات مرقمة وعلى النقيض من ذلك التكثيف الشديد فى بعض القصص التى لم تتعد الصفحتين، فكأنك تقرأ لأربعة أو خمسة كتاب فى كتاب واحد، بيد أن الخيط الذى يشد المجموعة إلى بعضها البعض هو ذلك التنقل فى ربوع مصر عبر دراية تامة بخريطتها وطبيعتها الجغرافية، فينتقل بك من القاهرة إلى الأقاليم وصولا إلى الأقصر كما فى "العقرب"، ويسحبك إلى داخل الأحياء بشوارعها المسفلت منها والترابى (المدق الترابى) من الزمالك إلى امبابة.


والقول كأنك تقرأ لعدة كتاب لا ينسحب على الأسلوب وعدد الصفحات فحسب، بل إنه يمتد إلى أجواء القصص فيتنقل بك من الواقعية إلى الفانتازيا مستلهما قصة الخلق كما فى "هانى وهند" مستبدلا الجوهرة بالخلود والكلام بالثمرة المحرمة، أو ينقلك إلى أجواء أسطورية فى قرية ما تركها خالقها فى يد "الشيخة"، أو أن يشد انتباهك ببداية غير تقليدية كما فى قصة "بنت المكوجى" والتى تبدأ بالقول: "وكان مدخل الميدان وزقاقهم الصغير المسدود، كانا كل العالم"، وهى من المطولات التى انقسمت إلى ثلاث فقرات مرقمة ولكنها لم تخل من كثافة فى العبارة كقوله فى وصف الأسطى فهمى: "محنى الرأس والرقبة عيناه حمراوان مسلوبة منها كرامة الرجال" ولينهيها بنهاية حمالة للأوجه تقترب من النهايات المفتوحة تاركا للقارئ الحرية فى التأمل والتأويل.


وكما يفعل بك ويجعلك ترى الأماكن يصحبك فى رحلة موازية فى شرائح المجتمع، والأهم من ذلك أنه يطلعك على نفوس تلك النماذج ليترك الحكم لك ويضعك فى حالة تأمل لتلك الشخصيات التى اكتست دون أن تلحظ لحما ودما وثيابا واشية بطبيعتها وطبائعها مثل البقال فى "هات وخد" وحياته الباردة الخالية من أى معنى، ولترسيخ هذا الخواء يجرد القصة من الأسماء. واللافت فى هذه المجموعة أن الكاتب كثيرا ما كان يغفل أسماء الشخصيات الرئيسية ويعتنى بتسمية الشخصيات المساعدة لتكريس ما يبغى توصيله للقارئ من معانى الضياع والانسحاق لتلك الشخصيات مثلما فعل على سبيل المثال فى قصة "صباح ومساء فى حياة السيدة ص. ع." التى تكشف عن قاع القاع فى المجتمع حيث تتناول حياة فتاة ليل، كاشفا عن تفاوت طبقى فى هذه الشريحة كاسرا النمط "السينيمائى" المعتاد لفتاة الليل التى تقفز فى السيارات الفارهة لقضاء الليالى الحمراء فى الشقق الفاخرة والفيلات الخ.. فترى البائسات منهن اللاتى ينتهى بهن الأمر إلى إرضاء الزبون فى عتمة سينيمات الدرجة الثالثة المحفوفة بخطر الانكشاف ويصبح كل الأمل أن تصل ص. ع. سالمة إلى عشيقها الرسمى شوقى فى شقته التى تقع على تخوم الريف والحضر.


هذه الكثافة التى وسمت القصص الأخيرة فى المجموعة لم تأت لمجرد الاستعراض لقدرات الكاتب ـ وإن تبدت هذه القدرة كأشد ما يكون فى جوهرة التاج لهذه المجموعة وهى قصة "المرمطون" حين يصف حيرة أحمد مرمطون المقهى وتردده فى العودة لغرفته الفقيرة طارحا سبب هذه الحيرة فى عبارة شديدة الكثافة والدلالة حيث يقول عنها: "وليس فيها سوى ما يحمله على جسده وأقل القليل، وليس فيها هواء" ـ وكأن الكاتب كان يتعمد عدم الإسهاب مع أحمد وأمثاله من المهمشين للتأكيد على ضآلتهم فزادهم تهميشا على تهميش وإن بشكل ظاهر سطحى، ولكنه فى حقيقة الأمر اجتنب الوقوع فى فخ التفجع الذى قد يأت بنتيجة عكسية، فخلت كتابته من نبرة الاستعطاف البغيضة وكذلك نبرة الاتهام الزاعق ليهمس إلى عقل القارئ وضميره داعيا إياه إلى التأمل، وكيف لا وقد حفلت كتابته طوال المجموعة بالمشهدية!؟ ولكنه وكما سبق التنويه ليس نظرا كالنظر بل هو نظر.



ختاما، لم يكن بوسعى تجاهل حقيقة تأثير لوحات اللباد وأثرها على نفسى والتى ازدانت بها بعض قصص المجموعة مثل اللوحة التى فى قصة "هات وخد" فأنظر إليها وأنا أقرأ عبارة "ولكنه شاب وفى نفسه جوع للحياة" لأرى لوحة لشخص حزين منقسم بشق طولى وحول رأسه سحابات الأفكار تقترب فى شكلها من أرغفة الخبز.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سامية أبو زيد
نشر في جريدة الأهرام بتاريخ 7 يونيو 2015

السبت، 6 يونيو 2015

حنا الأرمنى.. وسلطان القبط





يوحنا أو «حنا» الأرمنى: واحد من الفنانين المصريين القلائل الذين يعبرون بوضوح عن خصوصية وتفرد الشخصية المصرية فنياً واجتماعياً، هو واحد من أهم الفنانين الأقباط الذين شغلوا فترة القاهرة العثمانية، والتى ساد الاعتقاد بأنها فترة ركود فكرى واجتماعى، فى سياق التفكير الشائع بأن الاستعمار والحملة الفرنسية هما مطلع الحداثة والتنوير فى عالمنا الثالث، وهما الفكرة التى حرمتنا - ومازالت تحرمنا- من اكتشاف كثير من جذور النهضة فى الشرق كله، وكتاب «يوحنا الأرمنى» صاحب أهم وأجمل الأيقونات القبطية المصرية، ليس كتاباً عن فن الرجل ورسوماته ولكنه كتاب يناقشه كظاهرة اجتماعية نادرة، تلقى ضوءاً جديداً على مصر فى الفترة العثمانية.


الباحث المتخصص مجدى جرجس قدم فى دراسته لهذه الشخصية وحياتها وأعمالها بحثاً يتحدى كثيراً من الأفكار والأحكام المسبقة التى تحرمنا من رؤية غنى هذه المرحلة، وتحرمنا من رؤية خصوصية الكنيسة القبطية المصرية، والدور الاجتماعى والدينى الذى تتفرد به.

«حنا الأرمنى» فنان عاش فى مصر فى القرن الثامن عشر «توفى 27 يوليو 1786» ينتمى إلى جالية أرمنية استقرت فى القاهرة منذ زمن بعيد «القرن العاشر الميلادى».
وساهمت فى نواح متعددة من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضاً، وتفاعلت واندمجت مع المجتمع المصرى «خاصة مع القبط» إلى درجة أن يتبوأ أحد أعضائها المكانة الأولى بين رسامى الأيقونات القبطية، فعلى الرغم من وجود عدد من رسامى الأيقونات فى تلك الفترة: مصريين وأرمن وشوام وأروام، فإن حنا الأرمنى هو أكثرهم شهرة وأغزرهم إنتاجاً، الزائر للكنائس القديمة بالقاهرة سواء فى حارة الروم، أو حارة زويلة، أو كنائس منطقة مصر القديمة، سيدهش بالكم الكبير للأيقونات الرائعة التى تزين حوائطها «خاصة كنيسة أبوسيفين»، معظم هذه الأيقونات - كما تقول الكتابات والتواريخ المدونة عليها - ترجع إلى القرن الثامن عشر، كما أنها من صنع فنان واحد هو: حنا الأرمنى.


قدمت هذا الكتاب، الذى أعادت طباعته مكتبة الأسرة فى وقت مناسب، الباحثة المتخصصة الكبيرة الدكتورة نيللى حنا، لكى تؤكد فى المقدمة أن الجهد المبذول فى هذا الكتاب جهد بحثى غير عادى، فقد رجع المؤلف لكى يحيط بحياة الفنان وظروف عمله إلى وثائق المحاكم الشرعية، خاصة محاكم «القسمة» والمواريث، لكى يدرس عائلة الرجل، وكذلك قواعد العمل والمهنة وتنظيم الطائفة الأرمنية فى مصر.

وتلفت الباحثة الكبيرة النظر إلى التحول الهام الذى طرأ على الدراسات التاريخية فى الغرب الذى مازلنا نعتمد عليه فى أكثر معارفنا.

فبعد أن كانت مصر هى بؤرة الاهتمام التاريخى، بذلت جهود كبيرة لتحويل النظر إلى مصطلح دراسات الشرق الأوسط، لكى يتم التركيز على مناطق كثيرة أخرى من تركيا إلى بلدان الخليج توافقاً مع الفكر الاستعمارى الجديد، ومصادر التمويل للدراسات والمعاهد العلمية.

للدكتورة نيللى حنا فى هذا المجال كتاب هام - أعتقد أننا فى حاجة إلى الرجوع إليه فى هذا السياق- هو كتاب: ثقافة الطبقة الوسطى فى مصر العثمانية، الذى ترجمه الراحل رؤوف عباس، وصدر فى القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية 2003.
كما تعيد الباحثة المتخصصة لفت الانتباه إلى كتاب آخر هام هو كتاب: بيترجران: الجذور الإسلامية للرأسمالية، ترجمة محروس سليمان. القاهرة 1993.

كل هذا الاستطراد يؤكد أن كتاب: مجدى جرس: يوحنا الأرمنى ليس كتاباً فى الفن فقط ولكنه كتاب يدرس ظاهرة اجتماعية وتاريخية مهمة فى خصوصية تاريخ مصر فى فترة غامضة مهمة محاطة بأقاويل كثيرة عن الجمود والاضطهاد والتخلف.


«حنا الأرمنى» يقدم مثلاً واضحاً على مدى التفاعل والتداخل بين القبط والأرمن، فبينما كانت العلاقات صعبة ومتوترة بين الكنيسة المصرية والكنيسة الكاثوليكية، فإن حنا تزوج مرتين من سيدتين قبطيتين الأولى أم أولاده والثانية التى تزوجها بعد وفاة الأولى ولم ينجب منها، وبينما كانت كلمة «أفرنجى» تستعمل كإهانة واحتقار خاصة فى الصعيد، فإن الجالية الأرمنية كانت توصف بأنهم «الأكثر أمانة، يعملون بمشقة ويعيشون بالكاد»، ولم يكن للأرمن فى مصر سوى دور محدود للغاية يعملون صياغاً، وجواهرجية، وساعاتية، وخياطين. الكنيسة الأرمنية لم تعرف الأيقونات، مع ذلك كان أهم رسام للأيقونات القبطية أرمنياً، وقد مارس الأرمن فى مصر كثيراً من العادات القبطية والتى تعود فى أصولها إلى تقاليد فرعونية قديمة مثل عادات الجنائز، حيث بالغ القبط بالاحتفال بالميت فى مناسبات متعددة: اليوم الثالث بعد الوفاة، واليوم الخامس عشر، واليوم الأربعين، ثم فى الأعياد المختلفة يزورون قبر المتوفى فى أيام «الطُلّع» «المقصود بها زيارة المقابر فى أيام الأعياد» فيقال: طلعة عيد الميلاد، وطلعة عيد القيامة.... إلخ، ويقوم الكهنة بالتبخير والصلاة عند كل قبر، ويدفع له أهل الميت مقابل هذه الصلاة.

وفى كتاب تاريخ أبوالمكارم وصف لأيقونات كنيسة حارة زويلة التى رسمها حنا الأرمنى للسيد المسيح يقول: «هذه الأيقونة ليس لها شكل ولا مثال فى جميع ما صور فى المسكونة».

وفى إحصاء شامل لأعمال حنا التى قام بها وحده أو قام بها مع شريكه فى العمل إبراهيم الناسخ، يصل الأستاذ مجدى جرجس إلى عدد 332 أيقونة خالدة ويرصد تميزاً خاصاً بأيقونات حنا الذى لم يكن من رجال الدين، ففى كثير من الأحيان يوقع على العمل باسمه، كما لم تقتصر الأيقونات على الشخصيات المقدسة بل أدخل فى الخلفية بعض الشخصيات من الشعب العادى، كما ابتكر أسلوب رسم قصة مسلسلة فى شكل أيقونات، فقد رسم فى كنيسة أبوسرجة بمصر القديمة قصة السيد المسيح فى خمس عشرة أيقونة متسلسلة.

ويبدو أن المعلم إبراهيم جوهرى قد كلف حنا برسم أيقونات دير مارمينا بفم الخليج، وكتب حنا على أيقونة السيد المسيح «وكان المهتم (من كلف وأنفق) بهذه الأيقونات الإحدى عشرة، هو المعلم إبراهيم جوهرى عوضه يارب فى ملكوتك وهى من تصوير الحقير حنا الأرمنى»، فمن هو المعلم إبراهيم جوهرى؟

يجيب مجدى جرجس فى هامش طويل وجميل قائلاً:
«يعد إبراهيم جوهرى من ألمع الشخصيات فى تاريخ القبط، توقفت جميع المصادر القبطية أمام سيرة هذا الرجل حتى وصلت مكانته فى الكنيسة إلى حد القداسة، وحظى إبراهيم جوهرى بترجمتين: الأولى من طرف أشهر مؤرخى العصر العثمانى «عبدالرحمن الجبرتى» والثانية من طرف أشهر أساقفة القبط فى هذا العصر (الأنبا يوساب أسقف جرجا وأخميم)، حيث كتب فى رثاء المعلم إبراهيم جوهرى قائلاً: «أرخن (رجل مال وسلطة ونفوذ) أرخن عظيم بار قديس، أدرجت سيرته ضمن السنكسار القبطى كشأن كبار القديسين والشهداء وتحكى قصته للأطفال الصغار كنموذج للحياة المسيحية الفاضلة، كما وصفته المصادر القبطية بلقب (سلطان القبط)، كذلك حرص إبراهيم جوهرى على ترك تذكارات له فى معظم الكنائس والأديرة، وعلى ذلك ذاع صيت إبراهيم جوهرى أكثر من غيره».

طوال قراءتى ومراجعتى لهذا الكتاب وأنا أشعر بمدى التقصير فى الاطلاع على هذا الجانب من التراث المصرى، أحسست بأننى أزداد غنى وفخراً بمصريتى القادرة على استيعاب كل هذا التنوع، إن ما تمثله الحضارة والفكر والفن القبطى المصرى هو شريان أساسى فى هذا الجسد المصرى القادر على احتمال كل ما مر بنا من حزن وشقاء وتعب، القبط والمسيحية فى مصر واحدة من ضفتى النيل، إنها أفق واسع، ورحابة صدر من دونها يصبح التنفس صعباً، رئة من الرئتين تحملنا إلى المستقبل الذى تحاول قوى كثيرة حجبه أو صرفنا إلى الوراء والخلف، كلمات مجرمة مثل التهجير أو مشاعر غبية مثل الاضطهاد أو التمييز. وباء وطاعون لا يحصننا ضده سوى نور المعرفة وهواء التعليم النقى والتمسك حتى النهاية بقيم الحرية والعدل.

بلا خطابة ولا شعارات: نحن نمر بلحظات فارقة ويجب أن نعرف السحر الكامن فيما تملكه مصر من خصوصية تبقيها، رغم الأحزان، قادرة على صناعة المستقبل.
يوحنا الأرمنى وأيقوناته القبطية. مجدى جرجس. مكتبة الأسرة 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 6 يونيو 2015

الأربعاء، 3 يونيو 2015

ما ودعك صاحبك












"ما ودعك صاحبك" هى الرواية الثالثة للكاتبة اللبنانية: لينة كريديه، إضافة جديدة مهمة للرواية العربية الحديثة. الكاتبة صاحبة دار النهضة العربية للنشر، وقد غيرت سياسة الدار فتخصصت فى السنوات الأخيرة فى نشر الشعر الحديث مع اهتمام خاص بشعراء المغرب العربي.

من الواضح أنها على ثقافة عالية وحس إنساني وفكري بأزمة الثقافة العربية وشعور جاد بما يمكن أن يقوم به الفكر والأدب فى أزماتنا الاجتماعية والسياسية والحضارية.

روايتها: "خان زادة" و"نساء يوسف" ثم هذه الرواية "ما ودعك صاحبك" محاولات لتحريك الساكن وفتح نوافذ فكرية وفلسفية لروح العربية التى تمر بمحنة فكرية واجتماعية خانقة تقول فى الصفحات الأولى من الرواية على لسان بطل الرواية "أوس سراج الدين كريديه". "أخاف من الروتين، وأخاف أن أكون مجرد رقم إضافي فى الحياة، أخشى أن تستمر حياتي فى تحصيل لقمة العيش والعودة إلى المنزل، أو بين الكتب والتلفاز وزيارة المقاهي مع الأصدقاء.

 لا أطيق فكرة الأيام المتشابهة وانتظار عطلة نهاية الأسبوع للنوم والراحة، أو القيام بنشاط تافه. تقتلنى فكرة العيش من أجل العيش، يزعجني حجر الرحى وهو يطحن أيامى يوما بعد آخر، ثم يلفظنى على هامش الحياة عجوزا عاجزا". "أوس" ابن عائلة بيروتية عريقة تمتهن تجارة السجاد، درس لثلاث سنوات فى لندن وعاد بعد أن مزقت حرب الطوائف المجتمع المتوتر طائفيا ومذهبيا من الأصل. لا آفاق لمستقبل يليق بأحلام الشاب الذى ذاق طعم العالم الحر المفتوح سوى العمل مع الوالد فى التجارة التى تعانى هى الأخرى كسادا، فيسافر إلى الرياض فى السعودية، حيث يعيش فى ضيق مركب، يفرغ طاقات خياله وفكره الجامح فى متابعة قنوات تعلم فن الطهى وأنواع الفواكه والخضراوات التى يعيشها وكأنها شخصيات إنسانية فى فقرات تتجلى فيها خيالات وقدرات الكاتبة الإبداعية. لا يحتمل (الأوس) عزلته بين المطبخ والعمل الروتيني والأصدقاء المكبوتين جنسيا واجتماعيا فيعود إلى بيروت ليستسلم مرة أخرى لنوبات الكوابيس الليلية المملوءة بنتف من بقايا الحرب الأهلية حيث يرى الجثث والأطراف المبتورة.

 "ماذا بعد المال والجنس أكسيرى السعادة الأسطوريين؟ ربما هناك الإيمان الذى استشعره فى داخلى منذ الطفولة كأى مسلم آخر، والتسليم المطلق بقضاء الله وقدره فما شاء الله كان. أما فى الحب، فلا قناعة ولا تسليم لأنه أمر شائك ومعقد. خصوصا لرجل مثلى تسكنه كوابيس البتر. أنا أبحث عن الغرام والهيام والعشق الذى يهز كياني، ويغير خرائطى الجغرافية! فهل أجده فى هذا الزمان؟ أنا أبحث عن السعادة ولا أعرف لها طريقا.

ربما قد أجدها لاحقا فى الرضا والقناعة، وربما لا أجدها أبدا باعتبارها السر الذى تنتهى معه الحياة فى فصول من أمتع وأهم فصول الرواية (14 فصلا) يسافر (أوس) فى رحلة عمل إلى (كردستان) ويغوص فى كشف خصوصية الشعب الكردى الممزق الذى يتوق إلى الخروج من عالم الحروب والتمزق الذى عاش فيه منذ أوقات الدولة العثمانية، حتى جرائم صدام فى "حلبجة" وغيرها.

 ويدخل بنا فى سماحة وفهم إنسانى واسع إلى الديانة (الأزيدية) التى يطلق عليها المتعصبون ضيقو الأفق والعقل "عبدة الشيطان" بينما هم يعبدون الخالق الواحد ويقولون فى كتابيهما المقدسين (مصحف: رش والجلوة) يقول الفصل الثالث من كتاب الجلوة: "أنا ولى من لا ولى له، أرزق الدود فى وسط الحجر، أعلم فأرزقه ولا أنساه، ولا يمكن أن أتركه. 

أذكروني فى الأفراح والمسرات، وأذكرونى فى المواقف الحرجة وأذكرونى عند الغضب والتهاتر، وأذكرونى سرا وعلنا، ولدتم من أمهاتكم لا تعلمون شيئا ثم صرتم شبابا سكارى مدة قصيرة، ثم انحرفتم إلى المشيب من بعد قوة ضعفا وأفكاكم تغدو بيضاء بعد أن كانت سوداء - العظمة لله".

يستعرض مع الأصدقاء الكرد اختلافهم وأحلامهم فى رحلة مثيرة إلى مدينتهم المقدسة "لالشى" ويزور قبر الشيخ عدى والمعبد النوراني. ويأكل معهم حلوى "من السماء" ويشاركهم أحلامهم بوحدة الشعب الكردي. تنتهي رحلة كردستان ويعود "أوس" ليتابع انطلاق الربيع العربي!قال بوعزيزى للشرطية التى صفعته على وجهه: لماذا تفعلين هذا بي؟ أنا إنسان بسيط لا أريد سوى أن أعمل؟ وذهب إلى بيته ليشعل النار فى جسده. وتمسك النيران بتونس وبعدها بالعالم العربي. يحلم (أوس) بأن يرى العالم يتغير. ولكن "كل المتاعب دائما تأتى عند الرغبة فى التغيير".

ويتابع أوس فى شغف تطور أمواج الثورات العربية على شاشات التليفزيون فى مصر وليبيا واليمن ويظل يحلم بعالم عربي جديد يعيش حرية وعدلا وكرامة ولكن: "تسونامى الدماء أفقدني حماسى القديم للثورات. أعداد القتلى ما عدت قادرا على استيعابها. ثورة سوريا هى الأكثر دموية. حصلت على عرش الوحشية بامتيار. جثث الأطفال وذل العائلات المهجرة مشاهد تفوق الوصف. هل تصبح هذه المشاهد اعتيادية نراقبها ونحن نمضغ الطعام. هل تتحول هذه الثورات إلى قبور نولول فوقها فى ذاكرتنا، كما فلسطين؟!.


يعاود أوس الرحيل مرة أخرى ولكن هذه المرة إلى بعيد إلى بالى فى إندونيسيا. حيث يواصل هوايته فى تعلم الطبخ وتعليمه ضمن مشروع تجارى لرجل أعمال لبنانى ناجح يعيش خارج الواقع العربى المر. تقدم لينه كريديه رواية عربية ممتعة. تجمع بين الشعر والفكر والفلسفة فى إطار التشويق الذكى الجذاب وتخلق شخصية لا منتمى عربيا جديدا لا يبحث عن حريته وحده ولكن يقلقه كابوس الجهل والتخلف والتعصب والطائفية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 3 يونيو 2015