الجمعة، 19 فبراير 2016

علاء الديب.. الكتابة كبديل للانتحار.. وحكاية جيل أجّله الموت فلم يفرح




محمد فايز جاد

"افرح بأقصى ما استطعت من الهدوء
لأن موتًا طائشًا
ضل الطريق إليك من فرط الزحام
وأجّلك"

ربما لم يكن الروائي والقاص علاء الديب، الذي رحل عن عالمنا مساء أمس الخميس، عن عمر يناهز 77 عامًا، ربما لم يكن ليفرح كما يفرح متلقي هذه الرسالة، التي وجهها الشاعر الراحل محمود درويش لرجل بلغ الستين في قصيدته "الآن في المنفى"، ربما لأن الموت أجله، ولم يؤجله.

المقربون من الديب من أبناء جيله، وتلاميذه، يعرفونه شخصًا حزينًا دائمًا، أقرب ما يكون إلى الانطواء والعزلة، يقضي حياته في هدوء حزين، وسكون، كأنما هو في انتظار الموت الذي آثر، على غير عادته أن يجيء مرتين.

علاء الديب ليس مجرد كاتب اختاره الموت بعد فترة من الإنذارات والألاعيب، إنما هو حكاية جيل كامل، خبر في فترة قصيرة من الشعور بقرب الانتصار، والصدمة بالهزيمة، والمفاجأة بخذلان الرفاق، ما لم يخبره غيره في عقود طويلة، هو جيل السبعينيات، ومن لحق بهم.

في مقال له حول رواية "تغريدة البجعة" لمكاوي سعيد قال الناقد د.جابر عصفور إن "تغريدة البجعة"، التي شبهها بجدارية درويش وثلاثية محفوظ، هي سيرة ذاتية مقنعة في شكل رواية، تروي قصة جيل السبعينيات، مفسرا العنوان بأنه مقتبس من حياة البجع، الذي ما إن يشعر بدنو الأجل حتى يهرول إلى البحيرة، وينظر لصورته التي يعكسها سطح الماء، ويغرد، وكأنه ينعى نفسه.

في كتابه "وقفة قبل المنحدر" آثر الديب ألا ينعى نفسه نعيا مقنعا، إنما نعى نفسه، وجيله، بكتابات تقطر حزنا، لم يكن قادرا على أن يصفها بالسيرة الذتية، لتشتتها وتنقلها بين فترات شتى من حياته، إنما كتبها "بديلا للانتحار".

في "وقفة قبل المنحدر" يروي الديب حكاية جيل عرف ثورة يوليو وآمن بها وتحمس لها، ووهب نفسه للتبشير بها، والدفاع عنها، ورغم أنه كان يراها تحيد رويدا رويدا عن الطريق فإن إيمانه لم يتزحزح قيد أنملة، حتى صحا على هزيمة مدوية كشفت خواء الحلم الذي ناضل من أجله، وعرت جسد الثورة الذي اكتشفوا أنه بدأ يتحلل.

ويموت الزعيم، ويأتي من يوجه الدفة وجهة أخرى، فيفتح البلاد على مصراعيها أمام كل ريح سعيا لإزالة قديم، وتثبيت جديد سرعان ما بدأ يتضح شيئا.

الرحلة لأوروبا، والعمل في الخليج، بلاد النفط، حيث تقتل أحلامك، التي ماتت في الأصل وأزكمت رائحة الموت فيها أنفك حتى خنقتك، تقتل هذه الأحلام لتدور في ساقية البترو دولار، سنوات لا ملامح لها، وشعور بالوحشة والغربة، هرب إليه الديب ورفاقه من شعور أقسى عانوه في بلادهم.

ربما لذلك كان صاحب "عصير الكتب" أشد قربا للشباب من أبناء جيله، الذين راحوا يكتبون ما كتب، ولكن بصيغة اجتماعية بحتة، في حين راح علاء الديب يشرح نفسه حيا، دون تخدير، ليخرج آثار هذه الجراح التي خلفها التشتت بين النصر والهزيمة.

ولم لا يقترب الديب من جيل الشباب، وقد كان لسان حالهم، فقد عاشوا ما عاش، وخبروا ما خبر، من اقتراب للنصر في ثورة أعادت الروح التي كانت قد فقدت لعقود، ثم شعور بالهزيمة بعد تبدد هذه الثورة وضياعها أدراج الريح.

والخذلان هو الخذلان، فكما اختار رفاق الديب الطريق السهل، اختار الرفاق الجدد الطريق نفسه، ارتموا في أحضان إحدى القوتين المهيمنتين، الدولة أو الإسلام السياسي، في حين يبقى من رفضوا الاختيار السهل في حيرة من أمرهم، حتى تتحول هذه الحيرة إلى موت مفاجئ، موت يؤجل ولا يؤجل.


هكذا عاش علاء الديب الباقي من حياته يصارع منحدرا سقط فيه بالفعل، فإما أنه توهم أنه لم يسقط، وإما أنه أراد أن يحذر القادمين من سقوط جديد، في منحدر يبدو محتوما، وهكذا لم يفرح الديب لأن موتًا طائشا ضل الطريق إليه من فرط الزحام، وأجله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في بوابة الأهرام بتاريخ 19 فبراير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق