الثلاثاء، 16 فبراير 2016

وقفة قبل المنحدر.. رحلة المشى على صراط الاعتراف الأليم








حمدى عبد الرحيم  

الكتابة الحقيقية مثل المرأة تماما لها مفاتيحها السرية الغامضة متى عثرت عليها تفتحت لك جنات الخالق الوهاب وإن ضاعت منك عشت تائهًا فى صحراوات العطش والجوع. وما أسعد من عثر على مفاتيح كتابات علاء الديب، قسما سترتوى روحه من ينبوع الفن المصفى حيث لا ذرة من ادعاء أو زيف أو كذب أو سطحية.. أنت مع علاء الديب فى حضرة الفن المحض الذى هو سياحة الصوفى بحثا عن السر الأقدس.

لن أكون أنانيًا وسأرشدك إلى مفاتيح علاء الديب كما تخيلتها:

1- كن صادقا.

2- كن وحيدا.

3- كن خائفا.

أنت الآن فى حبة قلب الفن، فقل تعالى الله الأكرم الذى علم بالقلم، ورتل «الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان».

«وقفه قبل المنحدر» من أوراق مثقف مصري.. هذا هو اسم الكتاب الذى «نزفه» علاء الديب وهو إن شئت الدقة ليس كتابًا من حروف وكلمات ولكنه دماء قدم مشت على شوك صراط الاعتراف الأليم بحثا عن إجابات ما زالت تقلق الروح.

الكتاب يبحر فى بحر السنوات الثلاثين الواقعة بين عامى 1952 و1982 يبدأ علاء الديب فيصف كتابه بأنه أوراق حقيقية.. دم طازج ينزف من جرح جديد.. كتابته كانت بديلا للانتحار.

هذا هو وصف الكاتب لكتابه وأنت إن سألته لماذا تكتبها الآن؟ لسمعته يجيبك قائلا: هذا هو وصف الكاتب لكتابه، وأنت إن سألته لماذا تكتبها الآن؟ لسمعته يجيبك قائلا: «لأفهم ماذا حدث لنا فى تلك السنوات من «52 إلى 82».. ماذا حدث للناس وللبلد؟

يقول الناس «كل يوم له شيطان» وشيطان تلك الأيام كان يعمل بجد واجتهاد لكى لا تكتمل الأعمال ولا تتحقق الأحلام يعمل لكى يسود صراع دام بين الناس، وأن تصل إلى نهاية يومك منهكًا مهدودا وأنت فى الحقيقة لم تحقق شيئًا.

فجأة رأى علاء أنه كاد أن يفقد ذاكرته ففر إلى الكتابة وذلك لأن ذاكرته هى حياته ومن أجلها يحارب آخر معاركه التى لا يقبل فيها الهزيمة. أحس بالرعب وهو «يرى شرخ الزجاج الذى بدأ دقيقا ثم اتسع الشرخ الذى لا يرتق ولا يجبر رآه وهو يتكون فى نفسه» ولذا لم يعد هناك مفر من المشى مرة للأمام وأخرى للخلف وثالثة لأعلى ورابعة لأسفل وخامسة للغوص داخل دم متخثر يسمونه الذاكرة.. فعلها علاء وعاد طفلا بريئا ولامعا لم تشوه المواجع جلد وجهه ولا اقتربت من غلاف روحه الشفاف.

من البداية يعترف علاء بأنه عاش كل التجارب للمثقف البرجوازى الصغير إلا السجن وأنه كان يقول لنفسه أحيانا «السجن أحب إلى مما… «يقول علاء كان على أن أعيش السجن فى بيتى وشارعى وعملي، كان على أن أضاجع كل ليلة جسد الحلم الميت والآمال المحبطة.. قضيتى لم تكن سياسية فقط كنت عضوًا فى شعبة الإخوان المسلمين فى الحى الذى أسكن فيه وكنت رفيقًا فى تنظيم شيوعى قديم وكنت عضوًا فى هيئة التحرير وفى تنظيم عبد الناصر الطليعى كنت فى كل تلك التنظيمات موجودًا.. كرقم اسم فقط لم أشعر أبدا أنى أفعل شيئًا أو أننى أقوم بعمل حقيقى مؤثر».

يقول علاء رأيت أكثر – بكثير – من أن أكون بريئا، لا لم أعد بريئًا. مذنب ومشارك وضالع فى الإثم.. أرى الأشياء وهى تتفتت تفقد حقيقتها ومعناها أراها وأعيشها وأسلك فى دروبها وآكل فى أطباقها البلاستيكة القذرة، تطاردنى دائمًا فكرة القرون الوسطى، حيث المتناقضات متجاورة لم تتصارع بعد لم تتحدد بعد أو تختلف متجاورة فى قسوة وفجاجة، أراها غنية شيقة حبلى بالأمل والطين.

ألقاك فى عصف الذهول المرجع

تجتاز الفجاج السود مخبولا شقيا

ما الذى سدد فى قلبك سكينا

وبعينيك سؤال أخرس الدمعة

وحزنا أبديا

تلك كانت أبيات فاروق شوشة التى افتتح بها علاء حديثه عن وطنه الضائع يوم أبعدوه عن مجلته لسبب لن يعرفه أبدا، تركت تجربة النفى هذه جرحا لم يندمل يكفى أنه من بعدها لم يعد يشعر بالأمان.. أما يوم مات عبد الناصر فقد كان هناك فى المجر يعيش فى قرية صغيرة على شاطئ الدانوب ويعمل فى ترجمة رواية عنوانها «كن وفيا حتى الموت» فى ذات صباح دق مدير البيت العجوز باب غرفته ودفع فى وجهه جريدة إقليمية وصرخ ناصر كابوت.. كابوت وهى كلمة مجرية تعنى مات أو انتهى.. اندفع العجوز خارجا وظل علاء بمفرده.. لم يعد يتذكر حرقة دموعه كل ما يتذكره أن حبالا قوية كانت تربطه بالشاطئ قد قطعت.

وتستمر الرحلة هادئة مرة وصاخبة مرة أخرى ولكنها حقيقة فى كل المرات، إنها رحلة البحث عن الذاكرة ومطاردة خيط الزجاج الذى بدأ ينشرخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن جريدة القاهرة العدد الورقي رقم 815 بتاريخ 16 فبراير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق