الجمعة، 19 فبراير 2016

علاء الديب.. الأُستاذ بلا ادعاء













إيهاب الملاح


لم ألتق به مرة واحدة. كنت أُحبه وأهابه، رغم أنه كان حريصًا على كسر أي مسافات يمكن أن تفصله عن الناس، عن جمهور عاشق للقراءة، عن كاتب خجول يتعثر في كلماته، لم ألتق به أبدًا، أحبه من بعيد لبعيد، أخبرني صديقي سيف سلماوي ذات صباح بأن الأستاذ علاء الديب قرأ ما كتبتُه عن المرحوم جمال الغيطاني وأشاد به وسأل عني. فرحتُ جدًا، ابتسمت، قلتُ في نفسي "اليوم صرتُ كاتبا". رحمه الله، نبله كان يشمل البعيد والقريب، الكبير والصغير، الخجول والعاشق للشهرة، أسس مدرسة حقيقية في الكتابة الثقافية، عنوانها "عصير الكتب"، هي بحق "عصير" وخلاصة مقطرة، تقوم على القراءة الواعية المستوعبة، والكتابة السهلة اللماحة الذكية.


مثلما تعرفت على معظم أعمال كتاب الستينيات من مشروع مكتبة الأسرة، تعرفت على كتابة علاء الديب، في العام 1996 قرأت له ثلاثة أعمال قصيرة؛ «الشيخة»، «القاهرة»، و«الحصان الأجوف»، وضمها كتاب واحد لا تتجاوز صفحاته 150 صفحة من القطع الصغير، بغلاف جميل أحببته للفنان جمال قطب، كان غلافا مثيرا لامرأة انحسرت عنها ثيابها، تجلس على طرف فراش في وضعية مغوية، في ذلك الوقت كان هذا الغلاف كفيلا باقتناء نسخة من الكتاب فورًا، تصورت أنني سأحظى بلحظات من متعة مختلسة وإثارة مسروقة.


فوجئت بأنني أمام شيء آخر، تماما، كتابة مختلفة أتعرف عليها للمرة الأولى، كتابة شجية ومؤثرة وادعة جدا وناعمة للغاية، لكنها موجعة وتتركك في حالة غريبة من الشجن والبؤس، حقيقي هذا ما شعرت به عندما قرأت هذا الكتاب للمرة الأولى.

كانت المحطة التالية قراءة ثلاثيته الروائية البديعة، البديعة (التكرار هنا ليس سهوا)، «أطفال بلا دموع»، و«قمر على المستنقع»، و«عيون البنفسج».. يا إلهي! هذه رواية واحدة عابرة للأزمان، تجسيد جمالي فذ لحياة وغربة أسرة مصرية أصيلة، الأب أستاذ أدب عربي، اسمه منير فكار (أول ما طالعت عيني هذا الاسم أثناء قراءة الرواية تذكرت فورا الدكتور رشدي فكار المتخصص في العلوم الإسلامية الذي كان يظهر على شاشة التليفزيون في حلقات برنامج دعوي قبل نشرة التاسعة).

«أطفال بلا دموع» الرواية الأولى تدور كلها عن منير فكار، ذلك الأستاذ والمثقف المغترب المتمزق بين وعي مثقل وواقع بائس، كيف ينظر فكار للعالم ولذاته، لزوجته وابنه، لتناقضاته التي هي في ذات الوقت تناقضات مجتمعه وأبناء طبقته. من رشدي فكار إلى زوجته سناء فرج، تدور أحداث «قمر على المستنقع». وعن ثمرة هذا الزواج ونتاجه الهجين، تدور «عيون البنفسج» عن الابن تامر فكار الذي صار شاعرا تسعينيا كئيبا.

الروايات الثلاث، مرثية سردية حزينة لجيل من المثقفين انكوى بالهزائم وتحطمت آماله على صخرة التحولات السبعينية وما تلاها، كتبها الديب بنفس روائي عذب، ولغة تحار في توصيفها، لغة سهلة لكنها لا تشبه غيرها، بسيطة وشاعرية، تنحت صفاءها وتخلق نقاءها وتطفو حمولاتها التأملية والفلسفية ببراعة وخفة على ضفاف المتن الروائي.

في «وقفة قبل المنحدر ـ من أوراق مثقف مصري (1952-1982)»، في طبعتها الشهيرة في مكتبة الأسرة عام 1999، ستجد هنا محاولة ماكرة لاستعمال السيرة الذاتية، من ناحية، وفي الناحية الأخرى "تجد أنني باستمرار لا أكتب غير عن نفسي ولا أقصد الكتابة عن نفسي بمعنى الأحداث والسيرة الذاتية، ولكن بمعنى المعرفة بالنفس وأنسب تكنيك لهذه الحالة هو ضمير المتكلم"، يقول الديب.

بالتأكيد كان علاء الديب من أسطوات الرواية الكبار، ومعلمي السرد الراسخين، نظراته في الكتابة الروائية خلاصة لمعايشة وذائقة رفيعة، خبير حقيقي، يقول الديب "يستطيع أي كاتب أن يكتب الرواية بضمير المتكلم، وهذا صحيح إلى حد ما ولكنها ليست الحقيقة الكاملة لأنها مسألة ليست سهلة، لكني أتصور أن الرواية المكتوبة بضمير المتكلم والتي لا تحتوي على بنية روائية لا تكون رواية".

ويقول أيضا "لأنه هناك بذرة للرواية إما أنه تجدها في بعض الأعمال أو لا تجدها، وتوجد أيضا رواية يتحقق فيها شيء مهم وخاص جدا بين السرد والواقع والزمن وتغيره ومجموعة أخرى من العناصر عندما تتوافر كلها تحدث حالة فريدة تسمى جنس الرواية، وتجد نفسك أمام جنس أدبي مختلف له نسيج خاص وواقع خاص بالنسبة للمتلقي".. هكذا، وبلا تقعر ولا تقعيد، يمارس الديب لونا من التنظير النقدي الرفيع، ويقدم دروسا ثمينة للمقبلين على الكتابة والباحثين عن الطريق.

من خلال جريدة القاهرة، التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، تابعت أسبوعيا ولسنوات متصلة، مقال علاء الديب الذي كان يكتبه تحت عنوان "عصير الكتب"، لم أكن أعلم أن هذه التسمية قديمة وتعود إلى الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي حينما كان يكتب علاء الديب زاوية بهذا الاسم في مجلة «صباح الخير».

أعترف بأنني تأثرت بشدة بكتابة الديب في هذا الاتجاه، ترسخ بداخلي يقين، أن متعة القراءة تتضاعف بالمشاركة والشيوع، إذا قرأت كتابا جميلا استثار خلاياك الجمالية ونشطها معرفيا أو إبداعيا يتولد بداخلك فورا شعور فياض بضرورة نقل هذه الحالة إلى آخرين. عدوى تنتقل بالحماسة والفرح، هكذا تمنيت وقتها أن أكتب عن الكتب مثلما يكتب، وأن أشارك الآخرين الكتابة عما قرأت وأمتعني وأفادني في آن.

في السنوات الأخيرة، كان بيت علاء الديب في المعادي، واحة هادئة لاستقبال المحبين وكل راغب في مجالسة الرجل والاستئناس بخبرته وآرائه وحسه الإنساني، عشرات من الكتاب والمثقفين، الشباب والراسخين، كانوا يتوافدون على الكاتب النبيل، الحزين، العزوف عن الشهرة والأضواء وكذلك عن الانغماس في حياة ثقافية قوامها النميمة وغذاؤها صراعات وأحقاد ومؤامرات وضغائن (عافانا الله). دائما ما كان يبدو حزينا، كان يقول "أضيق بالحزن الذي يغلف الأشياء من حولي، وأحيانا أتصارع معه لكي أخرج منه.. ورغم أن الشخص منا تدرب على معاشرته نوعا ما تبقى في النهاية مشكلة، وهي الشعور بأنك تثقل به على الآخرين وهذه هي العلاقة بين الحزن والعزلة، لذا أفضل ألا أجلس مع الآخرين وأنا حزين".

كتب الديب كثيرا عن عشرات وعشرات، كان أستاذا ومعلما مثاليا، متواضعا، واحد من أعظم ثمرات الأرض الطيبة، حياته رحلة كفاح وعمل وإخلاص لقيم ومعايير صاغها لنفسه، لم يخضع ولم يلن رغم كل الضغوط والإغراءات والمضايقات، انعزل في محرابه وبين كتبه وقرر المواجهة بالجمال والمقاومة بالفن، كتبه وأعماله ترسي قواعد فن وجمال ينفعان الناس. وتظل "الروح الساجية التى يمتلكها الأستاذ علاء الديب والتي تفرش ظلالها ومحبتها على الجميع، والتي جعلته ينظر لحياته الحالية وللآخرين من مكان ظليل، كأنه يسير في نزهة طويلة امتدت لعشرات من الأعوام".. يصفه بحق ومعرفة الشاعر السكندري والمثقف الأصيل، سَميّه علاء خالد.
يستحق علاء الديب كل الفيض المنهمر من المحبة والدموع، يستحق أكثر بكثير..
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في موقع اليوم الجديد بتاريخ 19 فبراير 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق