الثلاثاء، 23 فبراير 2016

علاء الديب.. آخر النبلاء




محمد بغدادي

عندما التحقت بمجلة صباح الخير فى نهاية السبعينيات، كنت حريصا على أن أقترب من بعض رموزها، إذ كان من أعز أحلامى أن التقى بهم بعد أن قرأت لهم، وكان الأستاذ علاء الديب من أهم الكتاب الذين كان الاقتراب منهم أمنية عزيزة على النفس، فقد تعرفت عليه منذ السنوات الأولى لصدور مجلة صباح الخير عبر قراءاتى لقصصه القصيرة التى كان ينشرها تباعا، إلى أن نشر روايته الأولى عام 1964 (الحصان الأجوف) التى أحدثت زلزلاً عنيفًا بداخلى، إذ وجدت عنده عذوبة واختزالاً وكثافة فى المعنى هى أقرب للشعر منها إلى السرديات التى اعتدت عليها عند نجيب محفوظ ويوسف إدريس وطه حسن ويحيى حقى وتوفيق الحكيم إلى آخر هذه القائمة من الرعيل الأول للأجيال التى سبقت جيل الأستاذ علاء.

فقد كان يمتلك رقة وعذوبة يحيى حقى ولكنه لا يشبهه، ولديه جرأة وحداثة يوسف إدريس، ولكنه ذا مذاق خاص به، وله عمق وأحكام البناء عند نجيب محفوظ ولكنه بعيد عن عالمه تماما، لذا بحثت عن عم علاء منذ اليوم الأول إلى أن التقيته وهو يسلم أوراق بابه الأسبوعى «عصير الكتب»، وبعد عدة جلسات معه أعلنت عشقى له وأخبرته بما أحدثته فىَّ رواية «الحصان الأجوف» وأسعده أن ذكرته بها فقد كان هذا الحوار عام 1978 أى بعد نشرها مسلسلة على صفحات صباح الخير بحوالى 14 سنة، وراح يناقشنى فيما أعجبنى فى هذه الرواية ولماذا أعجبني، ورحت أعدد له جوانب تفرد هذه الرواية وتميزها عما عاداها من الروايات التى قرأتها، ومنذ تلك اللحظة صرنا أصدقاء، وتعددت جلساتنا وانتقلت جلساتنا من شارع قصر العينى إلى منزله بالمعادى، ومن منزله إلى منزل الفنان حجازى رسام الكاريكاتير، إلى منزل الفنان بهجت عثمان، وهكذا توطدت العلاقة بيننا، وعندما أصدرت مجموعتى القصصية الأولى «وقائع مصرية» أهديته نسخة ففرح بها، وفوجئت بعد أسبوع بأنه كتب عنها كلامًا طيبًا فى عصير الكتب.

ومازلنا نعمق صداقتنا بأشكال متعددة من المودة حين كنا نلتقى فى الصباح الباكر مع حجازى والأستاذ محمد قناوى رحمهم الله جميعا ثم ننتقل إلى مقاهى وسط البلد، وعندما بدأ فى نشر سلسلة مقالاته (وقفة قبل المنحدر، من أوراق مثقف مصري، 1952 – 1982)، وكنت فى ذلك الوقت المدير الفنى لمجلة صباح الخير وكنت استدعى كل ما امتلك من رؤى فنية لأخرج صفحات هذه الحلقات بما يليق بها، إذ كنت التهم سطورها التهاما قبل أن أرسلها لقسم الجمع والتصحيح، وكنت أحس بأنه يتحدث عن جيلى وجيله وكل الأجيال التى أصابتها النكسة فى مقتل، وقد بهرتنى الصياغة البديعة، وكأنه جوهرجى ينتقى حروفه من صندوق الألماس والعقيق والزمرد والمرجان، فقد كتبها بشجن حزين، وحزن شفيف، ورؤية سياسية واعية لما حدث عشية نكسة 1967 وأحسست يومها أنه يصفى حساباته مع الحلم الذى حلمنا بها جميعًا، وأنها سيرة ذاتية عميق الحزن، وبعدها لن يكتب عم علاء أى حرف آخر، فهى أكثر السير الذاتية عذوبة وصدقا، إذ يقول فى سطورها الأولى:
«هذه أوراق حقيقية، دم طازج ينزف من جرح جديد، كتابتها كانت بديلا للانتحار».

إذ كان علاء الديب من أكثر المثقفين المصريين تأثرًا بهذه النكسة النكبة، وكان انهيار الحلم بقدر انهيار جيل وأمة بأكملها، وبقدر ما كان عبد الناصر يجسد آمال وأحلام وطموحات الملايين من المحيط إلى الخليج، فقد راح علاء الديب الذى أحس بالضياع بعد هذه النكسة يحاسب نفسه بقسوة على نكسة أفاقت الجميع من نوبة شموخ واعتزاز لحلم تهاوى، فقد أحب علاء الديب الرئيس عبد الناصر مثلما أحبه كل العرب، فراح الديب يحاسب نفسه على هذا الحب، ولكن يبدو أنها كانت لحظة مكاشفة ضرورية وملحة إذ انطلق بعدها الأستاذ علاء فأمتعنا بعد ذلك بروايته البديعة «زهر الليمون»، وأتبعها بثلاثيته الرائعة «أطفال بلا دموع / قمر على المستنقع / عيون البنفسج»، ثم اتبعها بروايته الأخيرة «أيام وردية».


وعندما انتهى الأستاذ علاء الديب من نشر سيرته الذاتية «وقفة قبل المنحدر»، طلبت منه أن أكون أول ناشر لها، وكنت قد افتتحت مشروعا للطباعة والنشر، ووافق الأستاذ علاء على الفور وصدرت الطبعة الأولى عن دار المركز المصرى للطباعة والنشر، وبعد عام تقدمت بها لمكتبة الأسرة باعتبارى الناشر، فتحمس لها د.سمير سرحان بشدة، فطبع منها مائة ألف نسخة، وأعتقد أنها نفدت هى الأخرى، إنه آخر الكتاب النبلاء، فقد كان متواضعًا فى عزة وشموخ ينأى بنفسه عن كل ضجيج وصخب إعلامى، فهو لم يهو الثرثرة، أو التزيد، فأعماله القلية كانت محكمة البناء، اختار كل حروفها بعناية الجوهرجى، وعاش كريمًا ورحل فارسًا ونبيلاً، رحم الله الأستاذ علاء برحمته الواسعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى جريدة روزاليوسف بتاريخ 23 فبراير 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق