الأحد، 20 ديسمبر 2015

أضواء "علاء الديب"


   





عبر تاريخ طويل امتد لأكثر من أربعة عقود.. لم يهتم الكاتب والناقد والذائق الكبير علاء الديب بالأضواء، حتى زحفت هي الآن لتُتابع رقاده في مستشفى المعادي العسكري، بدا انشغاله عنها بالانخراط في بحور الكلمات التي لا تنتهي، أو كما قال عنه الكاتب علاء الأسواني "رأيت في الأستاذ علاء نموذجًا للكاتب الحقيقي الذي لا يسعى إطلاقًا إلى الشهرة أو الثروة"، فكانت الأضواء تخرج منه لا عليه، يكتب ليصنع حالة تجمع بين الكتاب والجمهور، فكان ينقل ملاحظاته عن الكتب، في شيء أشبه بالعرض وليس النقد، فلم يستخدم لغة المتخصصين المعقدة، بل جذب الكثير من الشباب بأسلوبه الذي دومًا ما يجذب المتلقي إلى الحكاية.


بدأ الديب من خلال بداياته في أول حقبة الستينيات في مجلة "صباح الخير" ليس كصحفي يلهث وراء الخبر، بل برزت على التو روح الأديب التي مارس بها صحافة التحقيقات، وكانت أول تحقيقاته عن "مخدرات الطلبة"، ورغم جدية الموضوع وحبكته، جاءت المقدمة التي سطرها- والتي كتب عنها فيما بعد الناقد شعبان يوسف في إحدى مقالاته- لتؤكد أن الباب مفتوح أمام أديب شاب كان يرسم الحالة قبل أن يحكي حكايته، فقال "كثير من النوافذ هذه الأيام تظل مضاءة حتى الفجر وكثير من الوجوه الشابة المرهقة، يبدو عليها الإجهاد والإعياء، ذقونهم نابتة وعيونهم حمراء وأعصابهم متوترة، إنهم الطلبة الذين تعصرهم الامتحانات هذه الأيام، الشوارع في الليل فارغة، والكورنيش يمشي عليه السجائر والسواح، والطلبة في البيوت يحاولون تعويض الوقت الذي راح".


ومن "صباح الخير" كذلك جاءت أهم نافذة أطل الديب بها على قُرائه، وهي مقالاته التي كانت تُنشر أسبوعيًا لعقود بعنوان "عصير الكتب"، والتي جمعها فيما بعد في كتاب يحمل الاسم ذاته، وجاء تقديم الكتاب من اثنين، أحدهما صديق عمره الأديب الراحل إبراهيم أصلان، والثاني تلميذه الكاتب بلال فضل، وجاء تقديم أصلان له "هذه كلمات لا تنفع، طبعًا، إلا أن تكون في محبة علاء الديب، الصديق والأستاذ، وأحد الأخيار القدامى في هذا الواقع الثقافي الذي صار مسخرة، ومفخرة، أو أي شيء من هذا القبيل"، بينما كتب فضل "مع سبق الإصرار والترصد أضعت كل فرصة سنحت لي لكي أتعلم من علاء الديب أشياء مثل الحكمة أو الهدوء أو التأمل أو معرفة الأشجار، فالنباتات عندي كلها تحمل اسمًا واحدًا هو شجر، ولذلك اكتفيت بأن أغبط على الدوام صحوبية عم علاء الحميمة لجميع أنواع الأشجار والثمار والزهور"، بينما كتب هو في تقديمته "ماذا قدمت لي الكتب سوى الحيرة وتلك الحزمة من الأشجان الرومانتيكية اليابسة؟ هل تقف الكتب ضد الحياة أو بديلًا عنها؟ كلا هم أصدقاء.. من حسن الحظ أن مهنتي هي هوايتي، هي حياتي تلك الخطوط السحرية التي تنقل معاني وتهز النفوس والجبال وتغير العالم".


عبر هذه النافذة كتب الديب الكثير، وأطل برؤيته عن الجميع وعليهم، تنوعت اختياراته فقدّم عصيرًا غذّى عقول مُتابعيه، ورغم أنه دومًا تكون الكتابة عن كاتب كبير ومتحقق بالفعل أشبه بالمأزق- لأن هذا الكاتب يكون غالبًا قد تم تناوله، ويجب البحث عن كلمات غير مستهلكة، أو زوايا جديدة- فإن الديب قد نجا منه عندما كتب عن العالمي الراحل نجيب محفوظ، فاستعاض عن القوالب بإحساسه وانطباعه الشخصي دون ادعاء أو تحذلق، وفي الوقت نفسه لم تُكبله رهبة أديب نوبل إلى أدنى قدر من التقعر، بل انسابت كلماته في لغة مبهرة "فُتحت النوافذ لنسمات الحكمة، وخرج علينا الكاتب بأصداء السيرة الذاتية، أصداء، لأنها أوسع وأرحب من سيرة ذاتية، لأنها ترن في الماضى القديم، وفى الأفق المأمول البعيد، لم يشهد الأدب الحديث مثل هذه البلاغة، ولا القدرة على الإفصاح والوصول".


تنبأ الديب كذلك بالعديد ممن كان يصفهم فيها بـ"الكاتب الشاب"، وصاروا فيما بعد نجومًا، منهم عندما كتب عن كتاب-جديد- بعنوان "الذي اقترب ورأى"، ألفه طبيب شاب اسمه علاء الأسواني، وصفه الديب قائلًا "علاء طبيب جديد يقتحم بجرأة ميدان الأدب، يدفعه غضب جامح، وتراث من الفن والبلاغة، والقدرة على الإفصاح"، فيما بعد صار الشاب صاحب سُمعة عالمية كبيرة، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من لغة، ونشر مقالاته في الصحف الفرنسية، وتحول أحد أعماله، عمارة يعقوبيان، إلى فيلم سينمائي.



وكان الديب موسوعيًا، صاحب علاقات واسعة بمجالات الثقافة المختلفة مع الأدب، منها الموسيقى، الفن التشكيلي، السينما، وهذا ما استخدمه عندما كتب عن رواية "بحيرة المساء" لصديقه الراحل إبراهيم أصلان، فقال إنها ذكرته بأعمال الموسيقار العظيم "يوهان باخ"، وأسهب في الربيط بقوله "تعلمت من الموسيقى الكلاسيك وخاصة من باخ.. إن أروع ما في العمل الموسيقى هي الثواني التي تنتهي فيها الجملة الموسيقية أو اللحن، وتبدأ فيها جملة جديدة، أو لحن جديد، في هذه الثواني يتركز كل تركيب العمل، يضع فيها المؤلف أسرار الكمال الفني القائم في ذهنه دون إفصاح أو مباشرة"، رابطًا بهذه النظرية وتجربة جيل الستينيات بكامله، موضحًا بهذه الرؤية أنه جيل استطاع صياغة هذه الحالة في كلمات، عبر تمكُنهم من مقاليد الجملة القصيرة التي تخرج وكأنها طلقة صائبة، وتساءل عن انبهار أصلان بهذه اللعبة، وعن حبه للبريق الذي يصدر من تلميع الجملة وصياغتها بدقة، كذلك وصف يحيى الطاهر عبدالله بأنه "واحد من الذين رافقوا حركة القصة الجديدة، بل وصاغوا كثيرا من معالمها"، وعاد حول أعماله وطبيعتها ليقول "من الذين يتردد البعض في تقويم أعمالهم، ويقفون من كتابته الدقيقة الصعبة موقفًا متحفظًا، ويرون في رؤيته الخاصة وتناوله المميز للأحداث والشخصيات استمرارًا لموجة الغموض والعبث".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 أحمد صوان
نشر في البوابة نيوز بتاريخ 20 ديسمبر 2015

السبت، 19 ديسمبر 2015

علاء الديب.. ذواق الأدب





رنا الجميعي
بمنتصف الخمسينيات بمجلة صباح الخير، ظهر باب جديد باسم "عصير الكتب"، توافد على الباب المُقدّم لقراء المجلة عدد من الأسماء، أوّلها فوزية مهران، ثم أحمد عباس صلاح وصلاح عبدالصبور، غير أن علاء الديب التي اصطبغ العمود بروحه بعدهم، حمل الباب اسمه لزمن، عرض فيها الديب العديد من المقالات الأدبية، تحكي عن أعمال لكُتّاب قدامى أو شباب، وهو الفن الأدبي الذي تمسّك به الكاتب حتى الآن.


"ماذا قدمت لي الكتب سوى الحيرة وتلك الحزمة من الأشجان الرومانتيكية اليابسة؟ هل تقف الكتب ضد الحياة أو بديلًا عنها؟ كلا هم أصدقاء.. من حسن الحظ أن مهنتي هي هوايتي، هي حياتي تلك الخطوط السحرية التي تنقل معاني وتهز النفوس والجبال وتغير العالم".. هل يُفكر الديب في خواطره عن الكتب تلك الآن، و هو تحت مجهر الأطباء بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي، تلك الخواطر التي كتبها بمقدمة الكتاب المُجمع لمقالات، الذي يحمل نفس اسم الباب بمجلة "صباح الخير".

لم ينضم الديب لجوقة تنشد لكاتب ما، ولا يغض الطرف عن أحدهم لأنه شاب، لذا حملت مقالاته للعديد من الأسماء الجديدة في الوسط الثقافي، اكتشف الديب ابراهيم أصلان، وكتب عن المجموعة القصصية "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، العمل القصصي الأشهر لجمال الغيطاني، وخاض بين دفات قصص أريج جمال، الكاتبة الشابة في عملها الأول "مائدة واحدة للمحبة".

بعيني قارئ غيور يُمكن أن يُقال أن الديب هو دودة قراءة، لم يترك كتاب جديد أو قديم، إلا وقرأه، ليس ذلك فحسب بل وفنّده أيضًا، من الأماكن التي حلّ بها الديب، كانت جريدة "القاهرة الثقافية"، في عمود أنيق بنفس الاسم الشهير، كتب الديب أيضًا، قبل الثورة بأشهر قليلة، عن انعام كجة كجي، الكاتبة العراقية التي حكت عن "الحفيدة الأمريكية"، وبحروف مضبوطة بدأ الديب بمقولة تخللت الرواية الصغيرة "كل العودات مرحبُ بها إلا هذا الإياب، إنه يكوي الحشا"، كما التفت الديب لهموم الوطن المتمثل في الأعمال الأدبية، كتب عن أزمات الوطن الكبير والقارة الأفريقية، لم يتقوقع داخل أزمنة أو أمكنة بعينها، لكن الكتابة شملت معاناة الإنسان بأي مكان.

بقلم قارئ شغوف ينقل الديب ملاحظاته عن الكتب، في شيء أشبه بـالـ"ريفيو" وليس النقد، لم يستخدم لغة المتخصصين المعقدة، بل جذب الكثير من الشباب بأسلوبه، ذلك ما ظهر في تعليقات القراء على الكتاب المُجمع لمقالاته.
ظل الديب بمؤسسة روز اليوسف حتى المعاش، بأواخر التسعينيات، حلّ بمجلة صباح الخير، إحدى اصدرات المؤسسة التي عُرفت حينها بـ"مدرسة الهواء الطلق"، منذ الستينيات، أظهر من خلال بداياته، روح الأديب، قبل كتابته لعصير الكتب اشتغل بالتحقيقات، أول تحقيقاته كانت عن "مخدرات الطلبة"، ورغم جدية الموضوع غير أن المقدمة، التي أشار إليها شعبان يوسف في إحدى مقالاته، كانت تمهيد لطريق أديب شاب "كثير من النوافذ هذه الأيام تظل مضاءة حتي الفجر وكثير من الوجوه الشابة المرهقة، يبدو عليها الإجهاد والإعياء، ذقونهم نابتة وعيونهم حمراء وأعصابهم متوترة، إنهم الطلبة الذين تعصرهم الامتحانات هذه الأيام، الشوارع في الليل فارغة، والكورنيش يمشي عليه السجائر والسواح، والطلبة في البيوت يحاولون تعويض الوقت الذي راح".

جاءت النكسة لتحمل طعم المرارة بفم الديب، قرر ألا يعود للعمل الصحفي منذ تلك الأيام الحزينة وحتى الآن، جعل تركيزه ينصب فقط حول الكتابة عن الكتب، وبجانب عمود عصير الكتب، كتب العديد من الروايات والقصص، من بينها الثلاثية "أطفال بلا دموع، قمر على المستنقع، وعيون البنفسج"، أصدر العمل الأول له "القاهرة"، لكنه كان من بين جيل الستينيات المقل في انتاجه، "أيام وردية" هي آخر عمل روائي له، نشر بدار الهلال عام 2002، من أشهر ما كتبه الديب هو "وقفة قبل المنحدر"، وهي ترنيمة حزينة لوضع مثقف مع عهد عبدالناصر.

كتب الديب حوار فيلم "المومياء"، بالاشتراك مع شادي عبدالسلام، رغب مخرج الفيلم في الاعتماد على الأدب، وهنا كانت لغة الديب ما يوُصل الإحساس بذلك الزمن البعيد، حيث تدور أحداث الفيلم في القرن التاسع عشر، عن قبيلة الحربات التي تقوم على سرقة الآثار المصرية.


أنهى سعد عبدالرحمن، رئيس قصور الثقافة، عام 2012، علاقة الديب بجريدة القاهرة، التي كان يعمل بها مستشار أدبي، مبررًا ذلك بأنه لا يعرف ماهية وظيفة المستشار الأدبي التي يشغلها، لم يُعلق الكاتب على القرار، وانتقل بعدها إلى الأهرام والمصري اليوم، التي يكتب بهما الآن، لم يترك الديب ذواقة الأدب، على مدار ستة عقود، انكبّ صاحب "زهر الليمون" على الروايات، القصص ودواوين الشعر، كملاحظ أو مبارك لكل عمل جديد وقديم، يفنّد الأعمال ويستخلص منها الأرواح الحسنة، لعلّها الآن تقف بجانبه في طريقه للشفاء من المرض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في موقع مصراوي بتاريخ 19 ديسمبر 2015

علاء الديب.. ذواق الأدب










بمنتصف الخمسينيات بمجلة صباح الخير، ظهر باب جديد باسم "عصير الكتب"، توافد على الباب المُقدّم لقراء المجلة عدد من الأسماء، أوّلها فوزية مهران، ثم أحمد عباس صلاح وصلاح عبدالصبور، غير أن علاء الديب التي اصطبغ العمود بروحه بعدهم، حمل الباب اسمه لزمن، عرض فيها الديب العديد من المقالات الأدبية، تحكي عن أعمال لكُتّاب قدامى أو شباب، وهو الفن الأدبي الذي تمسّك به الكاتب حتى الآن.


"ماذا قدمت لي الكتب سوى الحيرة وتلك الحزمة من الأشجان الرومانتيكية اليابسة؟ هل تقف الكتب ضد الحياة أو بديلًا عنها؟ كلا هم أصدقاء.. من حسن الحظ أن مهنتي هي هوايتي، هي حياتي تلك الخطوط السحرية التي تنقل معاني وتهز النفوس والجبال وتغير العالم".. هل يُفكر الديب في خواطره عن الكتب تلك الآن، و هو تحت مجهر الأطباء بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي، تلك الخواطر التي كتبها بمقدمة الكتاب المُجمع لمقالات، الذي يحمل نفس اسم الباب بمجلة "صباح الخير".

لم ينضم الديب لجوقة تنشد لكاتب ما، ولا يغض الطرف عن أحدهم لأنه شاب، لذا حملت مقالاته للعديد من الأسماء الجديدة في الوسط الثقافي، اكتشف الديب ابراهيم أصلان، وكتب عن المجموعة القصصية "أوراق شاب عاش منذ ألف عام"، العمل القصصي الأشهر لجمال الغيطاني، وخاض بين دفات قصص أريج جمال، الكاتبة الشابة في عملها الأول "مائدة واحدة للمحبة".

بعيني قارئ غيور يُمكن أن يُقال أن الديب هو دودة قراءة، لم يترك كتاب جديد أو قديم، إلا وقرأه، ليس ذلك فحسب بل وفنّده أيضًا، من الأماكن التي حلّ بها الديب، كانت جريدة "القاهرة الثقافية"، في عمود أنيق بنفس الاسم الشهير، كتب الديب أيضًا، قبل الثورة بأشهر قليلة، عن انعام كجة كجي، الكاتبة العراقية التي حكت عن "الحفيدة الأمريكية"، وبحروف مضبوطة بدأ الديب بمقولة تخللت الرواية الصغيرة "كل العودات مرحبُ بها إلا هذا الإياب، إنه يكوي الحشا"، كما التفت الديب لهموم الوطن المتمثل في الأعمال الأدبية، كتب عن أزمات الوطن الكبير والقارة الأفريقية، لم يتقوقع داخل أزمنة أو أمكنة بعينها، لكن الكتابة شملت معاناة الإنسان بأي مكان.


بقلم قارئ شغوف ينقل الديب ملاحظاته عن الكتب، في شيء أشبه بـالـ"ريفيو" وليس النقد، لم يستخدم لغة المتخصصين المعقدة، بل جذب الكثير من الشباب بأسلوبه، ذلك ما ظهر في تعليقات القراء على الكتاب المُجمع لمقالاته.

ظلّ الديب بمؤسسة روز اليوسف حتى المعاش، بأواخر التسعينيات، حلّ بمجلة صباح الخير، إحدى اصدارات المؤسسة التي عُرفت حينها بـ"مدرسة الهواء الطلق"، منذ الستينيات، أظهر من خلال بداياته، روح الأديب، قبل كتابته لعصير الكتب اشتغل بالتحقيقات، أول تحقيقاته كانت عن "مخدرات الطلبة"، ورغم جدية الموضوع غير أن المقدمة، التي أشار إليها شعبان يوسف في إحدى مقالاته، كانت تمهيد لطريق أديب شاب "كثير من النوافذ هذه الأيام تظل مضاءة حتي الفجر وكثير من الوجوه الشابة المرهقة، يبدو عليها الإجهاد والإعياء، ذقونهم نابتة وعيونهم حمراء وأعصابهم متوترة، إنهم الطلبة الذين تعصرهم الامتحانات هذه الأيام، الشوارع في الليل فارغة، والكورنيش يمشي عليه السجائر والسواح، والطلبة في البيوت يحاولون تعويض الوقت الذي راح".


جاءت النكسة لتحمل طعم المرارة بفم الديب، قرر ألا يعود للعمل الصحفي منذ تلك الأيام الحزينة وحتى الآن، جعل تركيزه ينصب فقط حول الكتابة عن الكتب، وبجانب عمود عصير الكتب، كتب العديد من الروايات والقصص، من بينها الثلاثية "أطفال بلا دموع، قمر على المستنقع، وعيون البنفسج"، أصدر العمل الأول له "القاهرة"، لكنه كان من بين جيل الستينيات المقل في انتاجه، "أيام وردية" هي آخر عمل روائي له، نشر بدار الهلال عام 2002، من أشهر ما كتبه الديب هو "وقفة قبل المنحدر"، وهي ترنيمة حزينة لوضع مثقف مع عهد عبدالناصر.


كتب الديب حوار فيلم "المومياء"، بالاشتراك مع شادي عبدالسلام، رغب مخرج الفيلم في الاعتماد على الأدب، وهنا كانت لغة الديب ما يوُصل الإحساس بذلك الزمن البعيد، حيث تدور أحداث الفيلم في القرن التاسع عشر، عن قبيلة الحربات التي تقوم على سرقة الآثار المصرية.

أنهى سعد عبدالرحمن، رئيس قصور الثقافة، عام 2012، علاقة الديب بجريدة القاهرة، التي كان يعمل بها مستشار أدبي، مبررًا ذلك بأنه لا يعرف ماهية وظيفة المستشار الأدبي التي يشغلها، لم يُعلق الكاتب على القرار، وانتقل بعدها إلى الأهرام ثم المصري اليوم، التي يكتب بها الآن، لم يترك الديب ذواقة الأدب، على مدار ستة عقود، انكبّ صاحب "زهر الليمون" على الروايات، القصص ودواوين الشعر، كملاحظ أو مبارك لكل عمل جديد وقديم، يفنّد الأعمال ويستخلص منها الأرواح الحسنة، لعلّها الآن تقف بجانبه في طريقه للشفاء من المرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 رنا الجميعي
نشر في موقع  مصراوي بتاريخ 19 ديسمبر 2015

ناصر عراق يكتب: على ضفاف الفتنة اللغوية






عندما طُلب منى أن أكتب كلمة موجزة عن الأديب الكبير علاء الديب، تذكرت على الفور روايته المدهشة «زهرالليمون» الصادرة فى عام 1978، التى استولت على مخيلتى فترة من الزمن فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى، فالرجل تمكن فى هذه الرواية الآسرة من أن يرصد بحصافة أحزان المثقف وتحولاته وانتهازيته أحيانا، فى زمن السادات الذى عصف بكل شىء جميل حققه المصريون فى عهد عبدالناصر، ورغم أن الرواية صغيرة الحجم فإنها بدت لى فى ذلك الزمن البعيد بالغة الضخامة، لما تحتشد به من قدرات مدهشة على رسم عوالم الحب وخساراته الفادحة والصراع الاجتماعى وضرائبه الباهظة. 



أذكر أيضا أن الناقد الراحل فاروق عبدالقادر كتب دراسة عميقة وممتعة عن هذه الرواية واصفًا إياها بأنها «عمل منضبط ومنضغط»، فلا ثرثرة فيها ولا إطناب، ولا ركاكة فى التعبير أو فذلكة فى الوصف.


إنها رواية تخترق المحظور بذكاء، رواية تبوح وتؤلم وتكشف كم هو صغير هذا الإنسان أمام بطش الكبار ودراما القدر ومكائد الزمن.


أجل، رصيد علاء الديب فى فن القص قليل بالقياس إلى أبناء جيله «هو من مواليد 1939»، غير أن هذا الرصيد عامر بكل ما يستلزمه فن الرواية أو القصة القصيرة من جماليات رفيعة تثير الأسئلة وتمتع الوجدان، ولعل روايته الفاتنة «أطفال بلا دموع»، خير نموذج يوضح قدرة «الديب» على الإمساك بفن الرواية الحديثة، تلك التى ظهرت معالمها عقب استقرار التجربة العريضة لنجيب محفوظ ورسوخها.


فى ظنى أن أبرز سمات علاء الديب تتلخص فى قدرته على قراءة العصر قراءة سليمة، إنه عصر السرعة، عصر الكتابة الدقيقة المحكمة، عصر ضياع الأحلام النبيلة، عصر الإنسان الوحيد الحائر فى دروب المجتمع وتناقضاته، وفى الوقت نفسه، فإن علاء الديب يمتلك لغة خاصة به، لغة بالغة الرشاقة، تومض فيها العبارة مكللة بالحلاوة، وتشرق فيها الجملة على ضفاف الفتنة اللغوية.


كلى أمل أن يجتاز كاتبنا الجليل محنته الصحية الطارئة، ويسترد عافيته ليظل يمتعنا بإبداعه وقراءاته العميقة فى أدب الآخرين التى يكتبها بانتظام فى الصحف.


قلبى معك أستاذ علاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ناصر عراق
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 ديسمبر 2015

«المسافر الأبدى» بين ثورتين









بحب أفلاطونى لوطنه، واستقلال فى الموقف بعيدًا عن السلطة، والحفاظ على شرف قلمه، ومقاومته لـ«عفن الوسط الثقافى»، وانحيازه الدائم للثورة، حاز علاء الديب لقب «ضمير الثقافة المصرية».


تفتح وعى «الديب» أحد أبناء الطبقة المتوسطة، فى عام الثورة «1952»، كان وقتها فى الثالثة عشرة من عمره، كانت الثورة تزرع فى الواقع نبضًا جديدًا حوله، حسبما يقول فى كتابه الأشهر «وقفة قبل المنحدر: من أوراق مثقف مصرى»، تحوّل اللواء محمد نجيب فى ذهنه إلى تجسيد صادق لوحدة مصر والسودان، اختفى الباشوات من أمامه، وذهبت معه خطاباتهم البليغة، تحلّ محلها كلمات عامية للضباط الأحرار، مُحاطة بهتافات جديدة.


تنقل الكاتب الكبير بين جماعة الإخوان والتنظيمات اليسارية، آمن بـ«حركة يوليو» التى كانت- من وجهة نظره- انقلاب تحوّل لـ«ثورة شعبية» على يد جمال عبدالناصر، وصف إجراءاتها بـ«النصر الكبير»، قبل أن يستيقظ على «كارثة 67»، ليحمّل نفسه مسؤولية الهزيمة، باعتبار أنه كان عضوًا فى التنظيم الطليعى الذى أسسه «ناصر» فى بداية الستينيات داخل الاتحاد الاشتراكى: «سألنى شاب عزيز يصدّق كلماتى ويتأمل فيها: ماذا فعلت فى 67 وماذا فعلت بك؟ قلت من دون تدبر: قتلتنى ومن يومها أنا ميت».

 لم يفقد مؤلف «المسافر الأبدى» إعجابه بـ«ناصر» بعد النكسة، بل زادت وحدته مع وفاته: «كان يكفينا النظر إلى عينيه لنرى فيهما التحدى والإصرار، وتأثيره كان ساحرًا وخارقًا وكبيرًا، هناك شىء ما خطأ وتصاعد هذا الخطأ إلى أن حدثت النكسة»، فقد حلم القومية العربية والكرامة ليواجّه العولمة والفساد فى عهد أنور السادات الذى أصابه بـ«أول صدمة كهربائية فى حياته»، على حد وصفه، بزيارته لإسرائيل.


استمرّ ابتعاد «الديب» فى عهد السادات ومبارك، لم يتكئ على الدولة فى أى شىء، مكث فى منزله، رافضًا النزول إلى الشوارع: «لا أستطيع نزول الشارع حتى لا أرى غياب الكرامة فى عيون الناس»، (حوار صحفى فى 2010)، إلى أن عادت الروح إليه بثورة 25 يناير، التى اعتبرها امتدادًا لثورة 1919، انحاز لها دون أن يشارك، لظروفه الصحية، وحذر من سرقتها من قبل المتأسلمين والقوى الفاشية، أشاد بالشباب، وقال إنهم «تخلصوا من كل أمراض المثقفين السابقة، ومتصلون بالعالم اتصالًا مباشرًا، كان لدى إحساس قوى أن النظام سيسقط، لكننى لم أكن أتصور قدرة الشباب على إيقاظ روح خلتها ذبلت وماتت»، (حوار فى 2011).



جاء «الإخوان» إلى السلطة، أرجع السبب فى ذلك إلى تناثر قوى الثورة، عارض حكم محمد مرسى، وقال إن العام الذى قضاه نكسة: «لم أعرف فى حياتى أثقل منه أو أشد ظلامًا ومهانة»، رحب بـ«30 يونيو»: «كشفت المؤامرة التى ساقت المنطقة إليها سياسة التبعية والفوضى الخلاقة التى خلقت مصائب الإرهاب والإسلام السياسى وأحلام الخلافة والانقسامات، وتفتيت الشعوب والأوطان»، أبدى استياءه من إدارة النظام الحالى: «لا أحد يُعلّم الناس السياسة، لا أحد يدعو الناس إلى الاشتراك فى الحكم، إننا نعلمهم من جديد: انتظار الأوامر وطلب المنح والحوافز، نعلمهم من جديد الرخص والنفاق، وندعوهم للرشوة ومد اليد وطلب الواسطة وعدم تحمل المسؤولية».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رضا غنيم
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 19 ديسمبر 2015

وعدتنا أن تنهض.. وليس عهدك خذلان الناس








للأبنودى قصيدة جميلة قال فيها: «الحياة عايزة الجسارة.. عاوزة أبطالها فى عز البرد مشحونة حرارة». هذا صحيح، لكن إنسانية علاء الديب الفريدة اقتطفت حكمة أخرى: «الحياة عاوزة أبطالها فى عز الكراهية مشحونة بالحب».


استطاع علاء الديب بتكوينه النادر أن ينقلنى بهزة فكرية من أن شرط الحياة هو «الجسارة»، إلى التفكير فى أن «المحبة» شرط الحياة. عطر هذه الحكمة لم يفارق علاء الديب، وكل ما قدمه لنا كان مشبعًا بهذه الرؤية، بالمحبة، والتسامح، ومد يد العون، بدءا من مقالاته الشهيرة تحت عنوان «عصير الكتب»، التى شرع فى نشرها منذ 1975، مرورًا بمجموعاته القصصية الخمس، ورواياته الخمس، وترجماته التى تنوعت ما بين القصة والمسرح.


معظم مقالاته كانت اكتشافًا لمواهب أدبية، وفتح طريق لكتاب جدد لم يسمع بهم أحد، ومعظم ساعات يومه كانت مبذولة بدأب وصبر وتعب فى قراءة نصوص مئات الأدباء، وإبداء الملاحظات الدقيقة التى لا تصدر إلا عن كاتب ومثقف متمكن بشكل مذهل. بعض الأدباء عندنا شغلوا مواقعهم بفضل إبداعهم، بعضهم بفضل مواقفهم، والبعض بفضل تأثيره الشخصى والفكرى كظاهرة اجتماعية ثقافية، لكن لكى تكون علاء الديب لا بد لك، فوق كل ما سبق من موهبة، الشعور العميق بحب الناس.


علاء الديب، روائى، قاص، ناقد، مترجم، لكنه قبل وبعد كل ذلك: محب للناس. وكان الكاتب الروسى العظيم أنطون تشيخوف، يقول: «هناك موهبة أهم من الأدب هى المحبة». والذين التقوا بعلاء الديب ودخلوا بيته فى المعادى، فيللا قديمة ورثها عن والده واسمه «حب الله»، ستطالعهم حديقة صغيرة تناثرت فيها الأشجار كأنها امتداد أخضر صامت لروح ذلك الكاتب الكبير.


وعندما تجلس إليه، فإنك لا تسمع منه أبدا كلمة «أنا»، ولا ترد على لسانه إشارة إلى رواياته، أو مقالاته، أو حتى مشاكله الصحية وهمومه الشخصية، لكنه يحدق بك باهتمام شديد، ويسألك: «كتبت حاجة جديدة؟» أو «إذا لم تكن قرأت ذلك الكاتب الشاب فاقرأه. ممتاز».


ويدفع إليك بكتاب لم تسمع عنه. وطوال الجلسة يحافظ علاء الديب على هدوئه وإنصاته المهتم بك. لا يغتاب أحدا بكلمة. لا يقلل من شأن أحد. لا يشير لمرارة الأحداث التى تمسه. مع ذلك كانت له طريقته الخاصة فى الكتابة التى يعبر بها بدقة عن عدم رضاه عن عمل أو آخر، لكن بحيث لا يجرح، ولا يهين.


يظل «الديب» ساكنًا هادئًا إلى أن تدحرج له تعليقًا طريفًا فتلمع عيناه وينقلب وجهه القمحى إلى وجه طفل يضحك ملء شدقيه. تنظر إليه وتحتار فجأة أيهما أعز عندك فى الاثنين: الكاتب أم الإنسان؟ أم أنها حقول الروح يقودك كل درب منها لخضرة الدرب الآخر؟.


فى الفترة الأخيرة، كان على وجه علاء الديب أسى طفيف، يخفيه كبرياؤه الرفيعة، ومحاولته التهوين من شأن المرض بضحكة، أو كلمة، إلى أن دخل المستشفى وغرفة العناية المركزة.



فى كتابه «وقفة قبل المنحدر» يقول علاء الديب: «تستطيع الأذن البسيطة من بين آلاف الأصوات تبين الصوت الصادق من الصوت الزائف». ولقد استطعنا أن نسمع بقوة ووضوح صوتك الجميل الخافت، واستطعنا أن نتبين صوتك الصادق، وأن ننصت للحكمة التى اقتطفتها وحدك: «الحياة عاوزة أبطالها فى عز الكراهية مشحونة بالحب». لقد وعدتنا أن تشفى، وأن تنهض، وأن تعود لقرائك وإبداعك وحياتك المثمرة، وليس عهدك أن تخذل الناس والمحبة. ليس عهدك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د. أحمد الخميسي
نشر في المصري اليوم بتاريخ 19 ديسمبر 2015

ثلاث حكايات «قبل المنحدر»







الحكاية الأولى:

قبل المنحدر، كنت صبيا محترفا فى تدخين الشيشة، والزوغان من الحصص، والقفز فوق الأسوار العالية، أكتب شعرا لا يعجبنى، أمزقه بمنتهى البساطة، ولا أحاول من جديد، كان شعورى بالزمن منعدما، وساعات القراءة الطويلة، والسير فوق الجسور وفى الشوارع يبدو بلا نهاية ككل أشياء الحياة.


قروشى القليلة لم تكن تسمح سوى بكتاب علاء الديب «وقفة قبل المنحدر»، صدرت طبعة من الكتاب عن «مكتبة الأسرة» فى أواخر التسعينات على ما أذكر، أقف مترددا أمام فرشة الجرائد، لكننى لا أعرف من هو علاء الديب، إذا لم يعجبنى سأبدد نقودى الضئيلة بلا مقابل، أحسم قرارى: سنرى إن كان يستحق المجازفة.


فى البيت، أنهى الكتاب الصغير فى ساعتين أو أقل، وأسأل: كيف اختصر الرجل ثلاثين عاما من الثورة والأحلام والحروب والهزائم فى هذه الصفحات القليلة، إنها «أوراق مثقف مصرى»، كما يشير العنوان الفرعى، برجوازى صغير، مثقل بوطأة الطبقة المتوسطة، أحلامها وأمراضها ومخاوفها، يرفض الانتماء إليها، متمرد على الدوام، يراقب التحولات الكبيرة من الهامش، ينتفض ويتألم ويحب وينتصر وينكسر فى الحارات، والمقابر، وبيوت المهاجرين من القنال أيام الحرب، يتعلم ويقرأ ويكتشف وسط اللصوص، وفى قاعات الجامعة، يتنقل من الفلسفة إلى القانون إلى الأدب إلى الشوارع، من الثورة إلى النكبة إلى المنفى، من الإخوان المسلمين إلى اليسار، يكفر بالجميع.


عرفت وقتها كيف يجب أن أعيش، وإلى من أنحاز من البشر والأفكار، وعلى أى شىء يجب أن أتمرد وأثور، والأهم أننى لن أنكر صوتى فى يوم من الأيام، سأقول كل شىء عن قضيتى، بالكتابة أو بالصراخ، بالدم إذا أصبح الدم فرضا وواجبا، لكننى فى الحقيقة كنت بلا قضية، وكنت أيضا ابن هذه الطبقة المتوسطة، أحمل جميع أحلامها وأمراضها ومخاوفها، لكن الزمان اختلف: سلطة تمعن فى التجريف، أجيال بلا وعى ولا ذاكرة ولا هدف، السياسة محظورة إلا فى حدود التضامن التاريخى مع قضية فلسطين، أفلام السبكى، وبروسلى، وفيفى عبده، ونادية الجندى، لا معنى للضمير، القيمة، المعرفة، الثورة، الشعر بعيد عن معادلة الحياة، والحياة راكدة بلا تجربة أو خطأ، حاضر طويل بلا مستقبل، لكننى كنت حرا، دائم الزوغان من الحصص، أصعد الأسوار العالية، أمزق القصائد التى لا تعجبنى، وأحلم.


الحكاية الثانية:

فى مكتبة «الشروق» بميدان طلعت حرب، يواجهنى «وقفة قبل المنحدر»، لكننى هذه المرة لم أعد صبيا، صرت شاعرا، وصحفيا، وشاهدا على الكثير من المذابح، داخل المدن وعلى الحدود، وعرفت روائح الغاز والبارود والحريق والموت، هذه المرة لن أقف مترددا أمام بائع الكتب، بل سأدفع الثمن بالفيزا كارد، وأوقّع فاتورة الشراء، أتنقل بين المقاهى، أقطع الوقت فى القراءة، نفس الكتاب الذى قرأته منذ خمسة عشر عاما، لكنه لم يخلّف وقتها هذا الشعور العميق بالانهيار، أصبحت الصفحات القليلة هموما لا أستطيع حملها بمفردى، أدخل السينما، يعرضون فيلما جديدا، «ماكبث»، نفس التراجيديا القديمة الدامية، مستنقع الخيانة والنبوءات الكاذبة والانحطاط البشرى، أشعر أننى ملوثٌ بالدم، تحاصرنى الشكوك والاتهامات، لست قاتلا، أهرب من السينما إلى المترو، فى غرفتى أسمع السيمفونية التاسعة لبتهوفين، أستحضر الشوارع والدخان والثورة، أستحضر الحب والهزيمة والموت بالرصاص الحى.


السيمفونية التاسعة.

لماذا لم أعد أحلم، أرتجف، أواصل المسير، وحتى الموسيقى لم تعد كما هى؟.

الحكاية الثالثة

يرويها علاء الديب: «أعلن عبدالناصر الهزيمة على شاشة التليفزيون وانسحب، تفرق كل من فى البيت دون أن نتبادل الكلمات، نزلنا إلى الشارع نبحث عن طريق، وأجهش البعض بالبكاء، المحلات مغلقة، صرخات النسوة الملتاعة هى الصوت المسموع، الصوت كأنه يأتى من السماء، كأنها خرائب، صراخ النسوة القادمات من عابدين، ومن معروف، تحيط بى، تزيحنى من الطريق، وتدفعنى كى أستند بظهرى إلى جدار عمارة كبيرة، سجائرى كادت تنفد، وفى حلقى جفاف شديد.


اندفعت فى شارع سليمان باشا، كان الليل قد هبط مبكرا جدا، وثقيلا جدا، وجماعات من الناس تجرى بلا اتجاه، مخلفة وراءها صمتا شديدا.



فى وسط الشارع وجدت رجلا مخبولا يرتدى جلبابا قديما، وقد شمره إلى منتصف جسده، يحمل فى يده جردل ماء، وخرقة كبيرة، ينشر الماء حوله ويصيح صيحات غير مفهومة وهو يجرى وكأنه يطفئ حريقا لا وجود له».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد رياض
نشر في المصري اليوم بتاريخ 19 ديسمبر 2015

الأربعاء، 9 ديسمبر 2015

ركن صغير في غرفة علاء الديب








إذا أردت أن ترى الحياة في غرفة فهي ولا شك غرفة علاء الديب في بيته بالمعادي.


مكتبة متوسطة الحجم (لاشك أنها لا تضم إلا القليل مما يقتنيه هذا الرجل). كنبة متوسطة الحجم يقولون عنها في البيئات الشعبية "اسطنبولي" أو بـ"صحارة". مكتب صغير. وكرسي خشبي. "فوتيه" للراحة وأوراق كثيرة منظمة. أقلام رخيصة الثمن مريحة في الكتابة. السقف العالي يعطي براحا في التأمل والتفكير. أرضية خشبية و"كليمات" مريحة للعين.


هدوء الحي العتيق يتناسب مع شخصية الرجل. فهو يتحدث بهدوء وسكينة، تجعلك منصتا مخلصا في الإنصات.


لا تملك إلا أن تحترمه وتقدره أديبا كبيرا وناقدًا عظيمًا، ولا تملك إلا أن توقره وتعشقه إنسانا محترمًا ونفسا طيبة. هو بالتأكيد ليس نجما من نجوم المؤتمرات الثقافية، ولم يكن عضوًا في الحظيرة المقربة للوزارات المتتابعة.


رأيناه شامخا في كل الأوقات، حتى في المحنة الكبري، وهو على فراش المرض، وفي غرفة العمليات يجري الجراحة الكبري في القلب.


كثيرون من يتحدثون عن الماضي والتاريخ، وكثيرون من يتحدثون عن المستقبل، هو لا ينكر أحدا، يظل محتفظا بأولئك وهؤلاء، يظل محتفظا بذاكرة لا تنضب من المواقف والأعمال الإبداعية، ويظل مبصرًا لواقع مصر، حاضرا ومستقبلا، لا يصادر الحلم عنا، ولا يهتم كثيرا بواقعية الأشياء وسوادها إذا كانت كذلك، هو فقط قال لي إن من حقي أن أحلم بمستقبل أعظم لي ولوطني وقت أن هاتفته بعيد الثورة.


كنت مشتاقا لأن أعرف رأيه فيما يحدث بميدان التحرير، كان مقتضبا في كلامه، وأنهي المكالمة بـ "ربنا معاكو.. استمروا في الحلم". لكنه بعد شهور من الثورة، قال إنّ الثورات موجات، فنحن نعيش إحدى هذه الموجات، والموجات القادمة ستكون أقوى وأكثر حسماً.


ظل منذ تأسيس جريدة "القاهرة" - التي انتميت إليها، قارئا، قبل أن أكون مشرفا على القسم الثقافي والأدبي في أواخر العشرية الأولى من الألفية الجديدة وحتى بعد ثورة يناير بشهور - وطوال عشر سنوات مستشاراً أدبياً يقرأ المواد الأدبية التي ترسلها له الصحيفة. كان أيضا يكتب مقالا فيها بعنوان "كتاب في كلمة، وكلمة في كتاب"، قبل أن يخذله هواة مناطحة القامات، فأخرجوه منها على مهل.


كان ملهما لأجيال من النقاد والمبدعين، لعشرات السنين يقدم لهم عصيرا للكتب، الذي كان أحد أهم الأبواب الثقافية في تاريخ الأدب والثقافة المصرية، في مجلة صباح الخير.


له من القصص القصيرة، مجموعة "القاهرة" التي كتبها العام 1964، وكذلك "صباح الجمعة" 1970، و"المسافر الأبدي" 1999، و"الشيخة"، و"الحصان الأجوف"، فيما له من الروايات خمس، هي "زهرة الليمون"، التي كتبها العام 1978، و"أطفال بلا دموع" 1989، و"قمر علي المستنقع" 1993، و"عيون البنفسج" 1999، و"أيام وردية".


كما ترجم مسرحية صمويل بيكيت، "لعبة النهاية" في العام 1961، و"امرأة في الثلاثين"، ومجموعة قصص مختارة من كتابات هنري ميلر عام 1980 فيما كتب الحوار العربي لفيلم المومياء، الذي أخرجه شادي عبدالسلام، في العام 1965.


أما عن "وقفة قبل المنحدر"، فيطول الحديث، ولكن المقام لا يتسع لذلك، تماما مثل عمله العظيم "عصير الكتب" الذي طبعته دار الشروق منذ أعوام، ويقدم نبذة عن مائة وأحد عشر كتابا في الرواية والقصة والرواية والشعر والسياسة والاجتماع والموسيقي والتاريخ.


كل ذلك وأكثر تذكرته معه في ركن صغير في غرفته.

علاء الديب الآن ترك هذا الركن، وترك غرفته كلها، ليسجى على سرير برعاية مستشفى المعادي العسكري.


يقولون أن أزمات صحية متتابعة هي السبب. لكنه سيقوم بنفس القوة والبأس. سيقوم طالما يلازمنا الشهيق والزفير. سيقوم إلى أجيال علمها وأجيال سيعلمها مهنة الإبداع. سيقوم من أجل الحياة التي رآها كل من دخل غرفته، وجلس في ذلك الركن العجيب.


أستاذ علاء. سأنتظرك تهاتفني فجأة بعد أن تعود إلى الركن الصغير في غرفتك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد الشماع
نشر في موقع الحكاية اللي ورا الخبر بتاريخ 9 ديسمبر 2015

الثلاثاء، 8 ديسمبر 2015

حديث «العناية المركزة» ..إلى علاء الديب








إنه وقتٌ بلا فائدة، ولا هدف، لا يمكثُ في الروح، وقتٌ يمكن حذفه بلا أسى، لنسترد كل ما سقط منا، وكل ما فقدناه عمدا. وقتٌ لا يليقُ بك. وقتُ العناية المركزة، وقتُ الخديعة الكبيرة.


لم أحمل إليك مشاعر منسقة، ملفوفةً بعناية، وعلى صدرها بطاقة، كنتُ أكتب سيرة المعارك، منهكا من الدوران حول ذاتى، وفى الشوارع، كنتُ بريئا أكثر من اللازم، وكنتَ تنتظرُ في مكان ما، وها أنا أقف أمامك، مجردًا من براءتى الأولى.


سأتحدث عن حيرتي، عن حريّةٍ تسبح في متاهة، سأتحدث إليك وحدك.


فالكل ينأى بعيدًا، سعيدًا بالابتعاد، ورافضًا الشىء المحتوم، وأنا وأنت حائران بين الوجه والقناع، بين هزيمة الثورة، وانتفاضة الروح.


لن أتحدث هذه المرة عن الفراشات، ولا عن الشعر، ولا عن كل ما نريده أنا وأنت، كل ما نحلم به معًا في الحياة والكتابة، أصارحُك، إننى غريبٌ عن معادلة الأفكار والواقع الحىّ، أهدرُ حياتى في قصيدة، ولا أعرف متى سينتهى الحلم الذي يشنقنى.


مؤامرةٌ تلتهم رأسي، ووجودى، وذاكرتى، مؤامرةٌ هائلة بلا بداية ولا نهاية، الشعر محضُ خيانة كما تقول، وأنا لم أعد أملك الشوارع، أنا مهددٌ بالاستيقاف، محكومٌ بالشبهة، محاصرٌ في العمل والمقهى وسيارة الأجرة وصالة المترو، مرشحٌ للإبعاد والزج في خندق الخائنين، ولا أملك أن أحيا يوما واحدا أبعد من الآن، بلا نزفٍ جديد، وخسائرَ جديدة.


كيف وضعوا حولى كل هذه المتاريس دون أن أقاوم، دون أن أحتج؟ كانت قنابل الغاز وهمًا، والقتال وهمًا، والانتصار والبطولة وهمًا، وبيانات القيادة، والصلوات، والغناء، والرصاص، وخطاب التنحى، والحرائق، ولجان التفتيش، ولجان التصويت، والمدرعات، وبطاقات الهوية، وزعيق النضال، والعاهات، والمطالب، والقوانين، والأسلحة البيضاء، والعصابات، والفوضى.


أريد أن أتوقف، فلا أثير الشبهة، أن أتسكع في الشوارع، فلا يفتشون في حقيبتى عن قنبلة محتملة، وفى ملابسى عن علامة إدانة، يبحثون في ضميرى عن نشيد، قضية، كلمة واحدة تدل على هوية غير ثابتة في السجلات، هو عصر المساواة بلا عدالة، عصر زحام الميادين، والمواصلات العامة، والأيديولوجيات، عصرٌ بالغُ السيولة، متواطئٌ، لا يريد أن يلقى نظرة للوراء، إلا لكى يطلق لعنة، وَقِحٌ إلى حد التشهير بالذين قضوا نحبهم.


هذه تركتى التي ورثتها، وهذه هداياى، وهذا دمى لم يخرج بعد للنهار.


كل ما أريده هو أن تغفرَ هزيمتى، فأنا لم أصحب الثورة معى كما وعدتك، لكى تضع قبلة على رأسك، أو تحمل الورود إلى سريرك، ما زلت أبحث عنها في وجوه الناس، رغم أن أثرها باقٍ على جسدى، وفوضاها تملأ روحى كالخطيئة.


سألتك أن تأخذ بيدي لأعبر الطريق، وأعلم أنه لا شىء هناك في الجهة المقابلة، السؤال هو الهدف، الحاجة لأن نتوصّل إلى إنسانيتنا، إلى الأشياء القليلة الباقية، الحرارة التي تؤكد أننا لسنا وحيدين في هذه الحياة، وأن هناك بشرا بإمكانهم أن يساعدونا على العبور إلى الجهة الأخرى، ولو لم نجد أي شىء هناك.
انهضْ..


لنرتب العالم معا من جديد، فالماضى كله يهتز ويتصدع وينهار، حالةُ إجهاضٍ شاملة، في الشوارع وغرف الحجز، في الحقول والجامعات، في الأحزاب والمقاهى، في الاعتراف والضمير، في التردد والمواجهة، إنه زمن التحولات العصيّة، حيث الجنون يصل إلى حدوده القصوى، لكنه، بينما يحاول سحق ذاكرتنا، يضع أقدامنا فوق بداية جديدة، عندما تشبه صيحات الجوع هتافات الاحتجاج.


انهضْ..
بيننا قضية مشتركة، وأحلامٌ مؤجلة.


وسأدعي عليك بما كتبته أنت: «مع ذاكرتى أحارب.. آخر معاركى، وفيها لا أقبل الهزيمة»، «الذاكرة الحية.. قضيتى من البداية للنهاية، الذاكرة المشتركة لى ولك، ذاكرتنا معا». فإذا كانت البطولةُ خادعة، فالشهادة ليست كذلك، والدم لن يصبح وهمًا في يوم من الأيام، والفرح حتى بانتصارات صغيرة، قد يلهم جيلا كاملا لا نراه.


في سجون الصين الرهيبة، عندما كان العالم يخوض حربه العظمى الثانية، كتب شاعر من فيتنام في يومياته: «فى هذا العالم قد نصاب بألوف النكبات، لكن لا شىء أقسى من خسارة الحرية، حين لا يحق للإنسان بعدُ بكلمة، بإشارة نرضى بأن نساق كالخيول أو الماشية».


تنقل الشاعر بين ثلاثين سجنا، وقطع عشرات الكيلومترات ماشيا على قدميه، أربعة عشر شهرا مكبّل اليدين، يكتب بالصينية، لغة جلّاديه، لكى لا يثير ارتياب المراقبين والحرس، ساعات طويلة يتأمل وجوه المدمنين واللصوص، الشجر والزنازين والأمراض والقذارة، ويتعذب، بعيدا عن بلاده، لكنه لم يفقد أبدا ابتسامة الثقة في الحياة، يكتب: «حذائى مهترئ، والطريق الموحلة تلطخ قدمىّ، لكننى يجب، مهما يكن، أن أبقى سائرا»، إنه الشاعر الذي أصبح بعد ذلك رئيس جمهورية فيتنام الديمقراطية.


خطوة واحدة خارج هذه الغرفة، خطوة، ولو مرتعشة، بعيدًا عن أنابيب الأكسجين، ومؤشرات قياس الوجود، بعيدًا عن وهم العناية الفائقة، والأمان الذي يمكن التخلى عنه، خطوة حقيقية تخطوها على الأرض، هي خطوة كبيرة في الزمن، سنوات إلى الأمام..

إنها معركتك، وأعرف أنك لن تقبل الهزيمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد رياض
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 ديسمبر 2015