الأربعاء، 24 فبراير 2016

علاء الديب.. واحد من الآباء المؤسسين













 علاء خالد 
بوفاة الأستاذ علاء الديب يختفي أحد أعمدة جيل الآباء المؤسسين فى الثقافة المصرية. هذا الهواء الخاص الذى كان يضخه وجوده وكتاباته وترجماته ومواقفه فى غرفة هذه الثقافة المكتظة بالصراعات، على الأقل فى عقودها الثلاثة الأخيرة، والحسابات الصغيرة، والتنافسية المفرغة من الأفكار الحقيقية. 

كان وجود الأستاذ علاء عازلا بين عالمين، بمجرد الجلوس معه حتى يظهر هذا المثقف المتصوف ويسحبك معه إلى تلك الغرفة التى لا تصل إليها ضوضاء العالم وصراعاته غير المجدية، حتى ولو كان الحوار يدور عن ضوضاء هذا العالم وصراعاته غير المجدية، ولكنه يراها من جانب "الرائي" الذى يعرف تماما نهاية ومآل هذه الصراعات.


صفة "التأسيس" ليست ارتباطا فقط بالسن، أو الجيل، أو سبق وضع الطوبة الأولى فى النصب التذكارى لهذا البناء، أو بالمكانة الأدبية، بل بالروح الذكية الشجية التى كان يتسم ويتحرك بها ويفرضها. تلك الروح المتسعة ومتعددة الجوانب والاهتمامات والإضاءات، والمُثابِرة، بل والمُصِرة على الوصول لأهدافها عبر هذا الطريق الأبوي الصعب، فخصيصة من خصائص الصفة الأبوية عدم التنازل، لأنه يعرف أنه هناك أبناء يحبونه وينظرون له وينتظرون منه التضحية.


نوع خاص من الإحساس الأبوى كان يضفيه الأستاذ علاء على علاقاته الإنسانية والأدبية، أبوية بلا وصاية، إلا وصاية الجانب غير السلطوي من هذه الرابطة، وبرغبة حقيقية فى التواصل المكتافئ مع الآخرين، وبنزاهة ومتانة هذا التواصل المجرد إلا من تبادل الفكر والود، وبترفع صادق عن أى روح تنافسية. هذا الترفع لم يستمده من ثقة عمياء فى المكانة الأدبية التى وصل إليها. أعتقد أنه لآخر يوم فى حياته كان متسائلا عن هذه المكانة، وأحيانا شاكا فيها. لذا كان ترفُّعه يرجع لطبيعة وسماحة وعيه الإنسانى والأدبى أكثر منه تعاليًا على التنافس.

وأيضا تكوَّن هذا الإحساس الأبوى بالود. كتب لى مرة فى إحدى رسائله على التليفون المحمول "الوداد أصل المحبة!" وألحقها كما تبدو بعلامة تعجب. علامة التعجب هذه هى العتبة لفهم الجملة بالنسبة لى، يمكن أن تكون لوما مضمرا، عن نسياني لفترة طويلة السؤال عليه، ويمكن أن تكون طُرفة ذكية يدفعنى فيها لأن أتساءل عن مغزاها وأتوقف عندها لأسارع بالاتصال به وقطع حبل النسيان ووصل حبل الود. ويمكن أن تكون أيضا جملة خطرت على باله فى تلك اللحظة. هكذا كانت رسائله، لها دوامات من التفسير حولها، ولكن كلها تدور فى دائرة من التفهم وصفاء التفسير، والمحبة، ورغبته فى الإبقاء على دفء وود العلاقات والأفكار.


الأدب بالنسبة لهؤلاء الآباء المؤسسين، مثله مثل الأستاذ إبراهيم منصور من جيله، رسالة: تتم عبر نقل العلم وفى الوقت نفسه التَّعلم. كان الأستاذ علاء بارعا فى الاثنين، سواء فى عرض أفكاره عبر كتاباته وحواراته، وأيضا عبر منهجه الإنساني في تثقيف ذاته. أرى أنه صاغ نفسه وأفكاره عبر رحلة طويلة من التعلُّم وتلقى العلم من كتَّاب ومواقف وسير، وتعدد وتغيير خطط الحياة. وقد وصلت تلك الرحلة، عندما عرفته عن قرب، فى بداية الألفية؛ لدرجة عالية من النضج سمحت بمساحات كبيرة من الحوار وتبادل الآراء والود الإنسانى بيننا.

هؤلاء الآباء المؤسسون يستمدون سلطتهم من نوع خاص من المعرفة الحدسية التى تعتمد على صفاء النية والسريرة، والثقة فى الآخرين.

كان هناك أيضا "تلاميذ الروح"، المتحلقون حوله، والذين يتلقون هذا "العلم الإنسانى"، بل ويتناسخ من خلالهم، حتى يظل هذا النوع  الخاص من المعرفة مستمرا ومتناسخا عبر أجيال وأجيال، وعبر حلقات متنامية من الناس. أحيانا كان يتحول إلى تلميذ عبر إنصاته الجم لأحد تلاميذه. هذا التواضع الحقيقى وغير المبالغ فيه، وإعجابه بأفكار وتجارب الآخرين، مجايلين وأصغر منه سنا؛ من أهم سماته وسمات الآباء المؤسسين، ودليل أن حاسة التعلم ما زالت يقظة وتحتاج للمزيد من الأفكار.

أتذكر أننى أرسلت له مخطوط أول رواية قبل نشرها لآخذ رأيه. رواية طويلة ومتشابكة وكثيرة الأسماء وحالات الموت والميلاد. بعدها بأيام قليلة رن جرس هاتفى الجوال فى السادسة صباحا، كان الأستاذ علاء هو المتصل، وكان يريد أن يهنئنى على الرواية، ويبلغنى أنه لم يقدر على الصبر والانتظار لمجىء الصباح العادى، وليس الاستثنائى، وأصر ألا ينام قبل أن يتحدث معى. كان ميعاد المكالمة الاستثنائي، والذى لا تتلقى فيه إلا الأخبار الاستثنائية، بمثابة التهنئة الكبرى بالنسبة لي، وجسدت أمامي لهفته الأثيرية فى احتضان الغير.

أحيانا كان ينهي الحوارات أو جلسة الإنصات الممتعة مع أحد ممن يقدرهم بهذه الجملة " الله يفتح عليك". هى ختم هذا "العلم اللدنى" الذى حازه هذا "الشيخ" فى فترة ما. هذا الفتح السماوى للمعرفة، والذى يثق فيه الأستاذ علاء جدا، سواء فى نفسه أو فى مصادره عند الآخرين، واعتقد توفُّره هو من أحد الشروط غير المعلنة لعهد صداقته مع الآخرين. لذا كانت قراءته لطالع سمائه النفسية من الأشياء الهامة لضبط مسيرته الشخصية ومسيرة علاقاته.

خلال السنوات الأخيرة كان ينوى كتابة رواية، لا أعرف أين وصل فيها. يذهب معها وتذهب معه لمطروح للإسكندرية لأسوان، جاهدًا أن تجذبه وتخرجه من حالة التوقف عن الكتابة الإبداعية، وهى تأبى هذا. ربما هذا كان أحد مؤشراته على انغلاق باب هذا الفتح السماوى. عاشت هذه الرواية، التى لم تكتمل، وربما يكون بدأ فقط صفحاتها الأولى، وربما أيضا كانت فقط مجموعة من الشخصيات التى لم تغادر سماء الخيال؛ وكبرت فقط داخل حواراتنا. دائما ما كنت أسأله عنها كحافز للدخول لمنطقة الفتح أو الإبداع الذى جافاه لسنوات طويلة، ربما منذ صدور آخر رواياته "أيام وردية" عام 2002. طوال هذه السنوات كان ينتظر هذا "الفتح" ليكتب، وهو "الفتح" الذى رافقه ربما فى كل أعماله. هنا مكان الإلهام للأستاذ علاء، الذى يأتي على شكل فتح مبين، أو مدد سماوي، علوي متسام، يأتى من مكان عميق بالقلب أو بالسماء، التى كان واثقا فيها أيضا.

من النقطة السابقة أحدد أيضا إحدى سمات جيل الآباء المؤسسين أن لهم إيمانا وتدينا خاصين: خليط من التدين الشعبى، المخلوط بليبرالية أخلاقية، وأفكار من الثقافات الروحية فى العالم القديم، لشعرية النظر للحياة كأنها قصيدة أو كتاب للتعاليم الرمزية، المصحوب بالتزام صارم بالحقيقة والصدق كأحد التزامات الطبقة المتوسطة فى النصف الأول من القرن العشرين (وهو بالمناسبة من الأشياء الجميلة فى هذه الطبقة). بالإضافة لمرجع سماوي له مسحة صوفية تتربع فيه "الإنسانية"، وليس الإنسان، على عرش الوجود تحت الله مباشرة.

كتب لى فى إحدى رسائله على التليفون المحمول، ردا على سؤالى المستفسر عن أخبار روايته المستقبلية؛ رد بإحساس يائس قليلا: الرواية عنقاء. بمعنى أنها أسطورة وليست حقيقة، لها احتراق وتجدد ذاتيين للأبد، وهذا يعنى دخولها فى دوامات من التجدد والتناسخ الدائمين دون أن يكون لها شكل مادى متماسك محدد، له قالب الرواية كما يعرفه.

 كانت صفحاتها تتشكل فى مخيلته، ثم سرعان ما تذوب وتحترق، وهكذا. هذا التجدد، الوهم، الأسطورة اتخذ بالنسبة له ولعالمه رمز العنقاء، وهى بلاغة صائبة تشرح صيرورة الرواية فى خياله. كانت هذه الجملة صادرة من هذا الروائى الرائى الذى فقد الخيط المادى الذى يصله بعالمه الروائى، وتحول هذا العالم إلى أحد أساطير المخيلة التى لن تتحق، أو بمعنى آخر، إلى إحدى خدع الذات.

كان الأستاذ علاء يفضل دائما أن يعيش فى المناخ الساجى الظليل المناسب لهذه المعرفة الإنسانية التى يراهن عليها. اختيار الظل وليس للشمس، والمعرفة والحب اللذين يتكونان فى الظل. تسامح وتغاضي الظل وليس مواجهة الشمس. 

الغموض المعرفى وليس الوضوح الجذرى. كلها كانت من مميزات هذا المناخ الساجى الذى أراد أن يعيش فيه طوال حياته. وأعتقد أن أبطاله أيضا أصابتهم عدوى هذا الاختيار، وهذا الطريق، الذى لن يفضى إلى مواجهة الموت، أو رفض الحياة، بل إلى العيش بشجن وحيرة وتساؤل، أو العيش "بيأس مشجون"، ذلك اليأس الأبيض الرهيف المعجون بالشجن. كان زهد الأستاذ علاء فى سنواته الأخيرة أنيقا وغير مترهل، ويقظا.

فى أبريل الماضى كتب رسالة من مطروح: "من مطروح أبعث لكم أشواقا ومحبة". كانت هذه الرحلة بعد رحلة أخرى سبقتها فى أسوان. رددت عليه "صباح قفز الحواجز والأماكن والتعب الذاتى.. سلامنا لمدام عصمت".

كان هذا القفز ورغبته فى تجاوز تعبه والسفر من مكان لآخر، حتى لا يشعر بأى حاجز يقف أمام استمتاعه. بالتأكيد السيدة عصمت زوجته كانت هى أيضا تقفز الحواجز قبله من أجل توفير أقصى راحة وخبرة واستفادة له. كانت هى التى تفسح له الطريق ليعبر ويستمتع. كان لها دور مضاعف خاصة فى سنواته الأخيرة التى كان يصعب عليه فيها المشى، والحركة بشكل عام. كانت هى القائد المجهول لهذه المسيرة التى لم تتوقف إلا قبل وفاته بشهور قليلة.

فى إحدى المرات أصر على أن يحضر معرض سلوى زوجتى للفوتوغرافيا. كان مُقاما فى أحد الأماكن الفنية بالمنشية فى الطابق الثانى فى واحدة من العمارات القديمة ذات السلالم الرخامية الكبيرة. ولكنه أصر على حضور المعرض، والصعود بإصرار وصبر وجهد.

كانت جِلستنا أمام الشباك الكبير الذى يطل على البحر فى جناحه الخاص رقم 202 بفندق كريون بالإسكندرية؛ من المناسبات الموسمية، ونادرًا ما تتكرر المناسبة لأكثر من مرة. حوار طويل لم ينقطع بينى وبين الأستاذ علاء. عندما زرته فى المستشفى وسُمح لى بدخولى العناية المركزة، طلب ورقة وكتب فيها "فراشة سكندرية شكرًا". كان يقصدنى بهذا الوصف. ثلاث كلمات فوق بعض، وسأل أيضا عن سلوى زوجتى فى نفس الورقة؟ فى المستشقى بعد أن تم إدخال أنبوب التنفس الصناعى فى فمه، وعجزه عن الكلام كان يكتب رسائله لزواره وعائلته على أوراق A4 جهزتها له زوجته مدام عصمت. كانت هذه الرسائل بمثابة شيكات تسدد لحاملها فى المستقبل.

كتبت له فى 27 سبتمبر الماضي: "قريبا نلتقى أمام بحر إسكندرية الواسع" فيرد  شارحا خطة المستقبل التى لم تتم "فى مطروح عند منتصف أكتوبر لو سمح الزمان، هناك ثقل غير مفهوم على القلب".
مع السلامة يا أستاذ علاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة التحرير بتاريخ 24 فبراير 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق