الأحد، 14 أغسطس 2016

عن علاء الديب ..وعنّا








رؤوف مسعد
تمنحك الظروف الغريبة  أحيانا قدرًا من التمهل وكما من التبصر.. لتتمعن  في "قدرك الممتزج بأقدار الأخرين " فتنفتح بصيرتك العمياء ؛ تنفتح على شهقة المعرفة بأن  بعضا من بشر يشبهونك وتستمع اليهم ينادونك : بأن تعال الينا ولا تخف فسوف نمنحك الامان والبصيرة المتقدة ؛كما سنولد  في روحك قلقا  لا شفاء منه ؛ رغبة حارقة في الاكتمال وحب المعرفة الاصدق.

غرفتك الضيقة بها كتبك ومكتبتك ..  تفسح قلبها للعالم  كله بأجناسه ولغاته وموسيقاه.

بها أقلامك وسجائرك  الكثيرة حينما كنت تدخن وبها – أيضا قبل رحيلك -  سيجارتك اليومية حينما يأتيك ضيف زائر تضّيفه من علبة  بعيدة عن يدك لا تطالها.
ما كتبته انت للآخرين من كتب ليقرؤوها علهم يعقلون ؛ قليلة .
ضنين انت بما تكتبه للناس عنك .
 وما  تكتبه انت عن كتب الآخرين لهو جزء من انفاسك اليومية حتى آخر نفس منها.. بحر زاخر  بالفهم  العميق لعناء انساني لا شفاء له ؛ فيض من التسامح  الذي تضفيه روحك على كتابات لآخرين "اعتيادية " فتضيئها بوهج من مودة صافية ؛  فتزهر كعباد شمس يميل اليك تستضيئ بحرارتك.
لم تطلب ذهبا من المعز ولم  تهب مسرورا سيافه .

حينما طبعتُ انا كتابي عن رحلة الحرب الاسرائيلية اللبنانية 1982 "صباح الخير يا وطن " اخذته وركبت من مكان قاهري لاخر ؛ انا الذي خرجت من القاهرة لاثنتي عشرة عاممتواصلة ؛ اضيع في شوارعها ولغاتها المستحدثة ؛ لكني ممسك ببوصلة تقودني الى مكتبك في صباح الخير ..لألتقي  بك وجلا فأنت علاء  وانا لم اكتب شيئا يستحق ان يوضع في الكفة الأخرى المقابلة لكفتك..

تعزمني على فنجال من القهوة واعزم نفسي على صداقتك.
وحينما كتبتُ بيضة النعامة اتيت هذ المرة الى بيتك بموعد مسبق ..صباح شتوي  في المعادي وفنجالا من القهوة تصنعه السيدة زوجتك " ام أحمد" كما تناديها معابثا .  لاستيقظ بعد ايام قليلة على رنين التليفون الارضي وصوتك العذب  الجاد واللاهي  لتقول لي رأيك في ما قرأته لي.

ساعتها اشعر اني بالفعل اقتربت من معبدك .
رأيك سشيجع الاخرين على قول ارائهم في روايتي  "الصادمة " لما  بها من جنس ودين وسفر  ..وبها أيضا قبس  من روحك المختبئة تحت اقنعة  الحياة الصارمة ومتطلباتها.

لنلتقي بعد ذلك على مائدتك الكريمة مع اصدقاء مشتركين ؛ ابراهيم منصور ومصطفى الحسيني اللذان سبقاك في الرحلة الى البر الغربي ؛ الى وادي الملوك ..

نجلس مع يحي مختار ومع آخرين في غرفتك؛ نستمع الى راجح داوود الذي  قلت له حينما التقيت به اول مرة بعد رحيلك،  وعرفت من هو " سمعتُ موسيقاك للمرة الاولى صافية ملهمة عند علاء الديب الذي علمني كيف اصغى لها "
 ليبتسم وهو ينظر الى افق بعيد  قائلا ؛" انه علاء العصي على التكرار"  او شيئا مشابها !

لماذا تكون انت هكذا عصي على التكرار في بلد يتكرر فيه اشباه الرجال يكتبون ما يشبههم ؟
لماذا تكون ابيا هكذا فتورطنا نحن تلاميذك  في إباء يوردنا موارد الفقر والمسبغة ؛ فنقبل عليهما بابتهاج لانها تقربنا منك انت؛  شيخنا ومريدنا وولينا. 

عشت يا علاء في عصر مخيف لكنك كنت تمسك بالدفة ..حتى لا يسقط محبوك في اليم ..كنت يا علاء رمانةالميزان.
 عاش محبوك ومريدوك في عصرك وزمنك وكان  وجودك  يلقي على وجونا ضوءا  كنور مصباح في مشكاة ؛ يقاوم العواصف؛ نحتمي بوجودك الروحي القوي وجسدك العليل من   غوايات السلاطين، كما حمانا وجودك المتواصل  من انكسار الظهر وانهيار النفس الابية.

اردد لك ولروحك الحائمة فوقنا وحولنا؛  ما قاله اسلافنا الاقدمون  عند الرحيل " انهض انك لم تمت ..انهض فأنت عائش لم تمت "
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
  أمستردام 12/8/2016

الأربعاء، 10 أغسطس 2016

في صحبة علاء الديب







بلال فضل

تشرفت بمعرفة العم علاء الديب في لحظة فارقة من حياتي التي لم تكن وقتها تسر الصديق ولا تغيظ العدا، فتغيرت بفضله حياتي وانقلبت رأسا على عقب، ومع ذلك ظل ذاك التغيير الجذري «أقل حاجة» عند علاء الديب، فما أهمية تغيير حياة شاب عابث مثلي لو قارنتها بروايات علاء الديب البديعة التي تتفجر بالشجن النبيل، أو بكتابه المعجز «وقفة قبل المنحدر» الذي جعله يستحق عن جدارة لقب «المكترث الأكبر» بحال البلاد وهم العباد، أو ببابه الصحافي الخالد «عصير الكتب» والذي بادرت دار الشروق مشكورة لنشر أهم مختاراته في كتاب، والغريب أن إصدار دار الشروق لكتاب (عصير الكتب) جاء بعد تردد طويل من علاء الديب نفسه الذي كان يظن - ويا للعجب - أن أحدا لن يهتم بهذا الكتاب، برغم رجاء مريديه له أن يحقق لهم هذا الحلم الذي سيساعد الأجيال الجديدة على أن تتعرف على أجمل الكتب التي قدمها علاء الديب للقارئ العربي في العصر الذهبي لمجلة «صباح الخير» قبل أن تفقد طيشها الجميل مع سيادة عصر «صباح الخير يا مصر».


ربما كان من المهم ـ نسبة إلى الأهمية والهم أيضا ـ أن تعرف أن ما تم نشره في الكتاب الصادر عن (دار الشروق) يشكل أقل من واحد في المئة من مجموع الكتب التي عصرها العم علاء في بابه منذ ورثه عن سلفه فتحي غانم، وحتى توقف عنه عام 2000 ليواصل منذ ذلك الوقت عصره للكتاب في صحيفة (القاهرة) الصادرة عن وزارة الثقافة على مدى سنوات في باب اختار له عنوان (كتاب في كلمة.. كلمة في كتاب)، حتى توقف عن كتابته بعد حملة تطهير قامت بها وزارة الثقافة للصحيفة من كل ما يمكن أن يدعو القراء إلى شرائها لتصبح لائقة بالمظهر العام الفاشل للوزارة، وللأسف فقد استمر غياب قلم علاء الديب عن قرائه لفترة طويلة حتى عاود منذ أشهر بابه المفضل (عصير الكتب) في صحيفة (المصري اليوم)، وما زالت مئات المقالات التي كتبها ويكتبها العم علاء متعه الله بالصحة والعافية تنتظر ناشرا ذكيا يبادر إلى جمعها في سلسلة كتب على غرار سلسلة (فيض الخاطر) الشهيرة للكاتب العظيم أحمد أمين، لتكون توثيقا رائعا، ليس فقط لكتابة علاء الديب الرائعة، ولمجهوده المدهش في خدمة الثقافة، بل لتكون أيضا توثيقا لأجمل الكتب وأهمها وأجدرها بالقراءة.


مع سبق الإصرار والترصد أضعت كل فرصة سنحت لكي أتعلم من علاء الديب أشياء مثل الوقار والحكمة أو الهدوء أو التأمل أو معرفة أسماء الأشجار، فالنباتات عندي كلها تحمل اسما واحدا هو «شجر»، لذلك اكتفيت بأن أغبط على الدوام صحوبية عم علاء الحميمة لكل أنواع الأشجار والثمار والزهور، وفضلت أن أظل كما أنا مكتفيا بصحبة علاء الديب ومستسلما ليقين أنني لن أصل أبدا إلى هذا القدر من الصفاء والعطاء ونكران الذات والانشغال بالعمل والمعرفة في تصوف وزهد حقيقين لم أر لهما مثيلا.


أحلى الأوقات عندي كانت ولا تزال أيام السبت المتفرقة التي أقضيها داخل مكتبة العم علاء فوق كنبات بيته الحميمة الحمولة وعلى ضفاف حديقته الصغيرة الغنَاء مستمتعا بصحبة العم علاء وزوجته السيدة عصمت صانعة البهجة والتي كانت تشاركنا فيها على مدى سنوات طويلة رفيقة عمرهما المرحومة الحاجة سعاد رضا إحدى بناة أمجاد روز اليوسف، وبرغم المباهج التي تحفل بها المائدة مما لذ طعمه وخف دسمه ـ وهو أمر لم يعد سهلا توفره في هذا الزمان ـ وبرغم التزامي الدائم بمهمة الإجهاز على كل ذلك مع ترك القليل لعم علاء والحاجة سعاد حرصا على صحتيهما، وبرغم المشروبات التي تتفنن السيدة عصمت في ابتكارها كل مرة من عصير خير حديقتها، وبرغم سبيل المعرفة الذي نذره عم علاء تكرما لسقاية العطاش من أمثالي، إلا أنني كل مرة أجد أن أعظم درس يمكن أن تتعلمه من علاء الديب هو أن المثقف يمكنه أن يعيش بسعادة وهناء، ويأكل بشهية مفتوحة، ويتحدى المرض، ويقرأ كأنه لن يكتب أبدا، ويتجرع عناء وبهجة البحث عن الكتابة كأنه لن ينشر أبدا، ويضحك من قلبه ويستمتع بصحبة الأصدقاء وإن رحلوا عن الدنيا، ويربي ولدا وبنتا يُفرحان القلب العليل، كل هذا دون أن يضطر لبيع شرفه وقلمه ومواقفه واستقلاليته، ودون أن يفقد قدرته على الاندهاش أو رغبته في مقاومة العفن المحيط به، دون أن يتخذ من سياسة «خالف تُعرف» سبيلا الى الشهرة، واخيرا دون أن يحفل ولو للحظة بأن يعرفه كل الناس ما دام قادرا على الاستمرار في محاولة التعرف على نفسه.


عاش علاء الديب عمره كله لا ينتظر شيئا من أحد، لم يتكئ على حكومة أو تنظيم أو جمهور، اكتفى بالقلم سندا، وبالسؤال طريقا، وبعدم الرضا الكامل عما يكتب ونيسا في رحلته السيزيفية نحو البحث عن كتابة أفضل. لم أر أحدا يحب بلاده حبا راقيا عاصفا أفلاطونيا ومن طرف واحد كما رأيت علاء الديب وهو يحب مصر، وعندما تعرض لمحنة مرض عاصفة قبل سنوات، وخذلته مصر الرسمية التي تستمتع بأكل أخلص أبنائها، لم أشاهده للحظة ساخطا أو شاكيا أو متباكيا على أحواله، تحمل الأزمة برجولة وعبرها في صمت جليل، ولم يتخذ مما حدث ذريعة لصب جام غضبه على البلد والعيشة والناس، وحتى عندما كنت أتطوع أنا وغيري للتعبير عن غضبنا كان يُخرج الحديث فورا من إطاره الشخصي إلى الحديث عن مصر وأحوالها ومستقبلها، قبل أن يجرجرنا بصنعة لطافة إلى الحديث عن أكثر ما يبهجه في الحياة، الكتب الجديدة والروايات الحلوة والمزيكة والسينما والأشجار وسيرة الولد أحمد والبنت سارة وقبل كل هذا وبعده الست عصمت ومشروباتها المدهشة.


أسعدني زماني بصحبة علاء الديب، فبالله يا دهر لا تنقضِ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريد السفير بتاريخ 10 يناير 2014

الجمعة، 29 أبريل 2016

علاء الديب.. ليس مجرد كاتب والسلام





   د. رضا البهات    


عشرون عاماً من الصلة الشخصية والأسرية جمعتنى به.. عنوانها الموضوعية، وإلا ما معنى أن يتصل بك كاتب كبير قائلاً إنه ينوى زيارتك، وفى الموعد تجده وزوجته فى بيتك، ثم تسعيان معاً تحت مطر يناير من شارع إلى حارة إلى منزل الفنان التشكيلى مجدى سرحان.. ولم يكن أقام معرضه الأول بدار الأوبرا بعد. بعدها يعاود المجىء إلى المنصورة.

ما إن أذكر هذا للقاصّ والروائى جار النبى الحلو حتى يقول بدوره إنه ذهب إليه مرتين فى مجلة «صباح الخير» ولم يجده فترك له كتاباً. تناوله علاء الديب فى صفحته «عصير الكتب» دون ذلك البعد الشخصى الذى يربط دائماً الكاتب بالناقد. ثم مرتين أخريين بجريدة القاهرة، لم يوفق فيهما أيضاً فى مقابلته. ليرى ما تركه منشوراً فى المرتين، من غير أن يلتقيا أبداً. حكيت لجار النبى حكاية كاتب قدم لى روايته، ولكى يحسم انشغالى عن الكتابة عنها سألنى: قريت اللى كتبه عنها علاء الديب؟ وكأنما يستمد المصداقية مما كتبه الراحل. فهل كان مجرد كاتب مجامل أم أسطى خبير يقلب القرط أو الدلاية ويقول: دى دهب عيار كذا، أو دى دهب قشرة بغريزة لا تخطئ. ضمن ما كتب فى جريدة «المصرى اليوم» عن روايتى «ساعة رملية» أنها منتج مصرى خالص، وكأى منتج مصرى تتسم بسوء التشطيب. ولم أكن حكيت له ولا لأى إنسان سر سوء التشطيب هذا، والذى له عنوان هو العجلة بطول انقطاعى عن الكتابة.


غير أنه يكون جاء إلى المنصورة هذه المرة ومعه هدايا مما يخص فناناً تشكيلياً وكاتباً. وعلى المقهى بجوار الفندق الذى نزل به يقول: بنات المنصورة حلوين فعلاً.. فأجيبه بأن هذا كان مثار تعليق زملائنا بالجيش وهم جميعاً يقولون إن ذلك بسبب اختلاط الفرنسيين بنا فى زمن الحملة الفرنسية.. لكن الأجيال الجديدة فى مصر كلها بقوا حلوين اليومين دول. يقول علاء الديب ضاحكاً: إيه العقل اللى جالك فجأة ده؟


ويتنقل الكلام بين السياسة وتلك العزلة التى ضربها حول نفسه.. فيقول: اسمع تلك الحكاية. ويحكى أنه ذهب لتسلّم المكافأة كرئيس للجنة القصة بالمجلس الأعلى للثقافة. سألته الصرّافة عن اسمه.. وراحت تتابع كشف الرواتب وهى تردد.. أستاذ علاء الدين.. علاء الدين، لسه مجاش- يضيف- صححت لها الاسم وقبضت الراتب قلت له مخففاً عنه: جيرانى يعرفوننى على أننى الطبيب الذى يداوى أطفالهم.. الناس مشغولون بالحياة لا بالثقافة، فيحكى من جديد عن واقعة دالة تخص المثقفين أنفسهم. يقول: تلوت على أعضاء اللجنة برقية من اتحاد كُتاب سوريا تفيد برغبته فى استضافة عدد من الكُتاب. وإذا بالخلافات تندلع فى القاعة.. ليه.. كل واحد عاوز يسافر.. ورأيت كاتباً شهيراً- شفاه الله- ينزوى باكياً بحرقة ولما سألته قال: والله أنا أحق واحد بالسفرية دى.. يضيف علاء الديب: لم نكمل مناقشة جدول الأعمال.. ووقفت كدهه- وضع قدمه على الكرسى مرتكزاً بذقنه على يده- زى مدرس الفصل. أتابع الخناقات. ثم استأذنتهم لدقائق، ولم أعد حتى اللحظة.. يضيف ضاحكاً: زمانهم لسه مجتمعين لحد دلوقت.


وفى منزلى يلاعب ابنتى وابنى الصغيرين وقتذاك. وتناكفه ابنتى بالقول: أصحاب بابا كلهم أسماؤهم وحشة.. اللى الديب، واللى القرش- تقصد سعد القرش- واللى ضبيع- طبيب الأمراض النفسية أحمد ضبيع- حتى اللى فيهم اسمه حلو زى محمد مستجاب شكله بيخوف- وكان يزورنى بجلبابه الشهير وصوته وضحكاته العالية- فيقول لها الرجل: اسمى أصلاً علاء حب الله.. فتجيب ذات الثمانى سنوات: بس فى الآخر الديب.

أما بعد أن فاز بجائزة الدولة التقديرية فى الآداب يسألنى الولد الأصغر عن معنى جائزة الدولة.. وأشرح له.. فيقول للضيف (وش): مادام حضرتك مثقف كده، ما تروح برنامج من سيربح المليون وهتكسب على طول.. ولّا أنت زى بابا.

وأُبدى له حسرتى على هذه الأجيال التى ستكبر فى عهد مبارك ولم تتعلم شيئاً، يقول من هو أخبر بالحياة والبشر: هو ده الجيل اللى محدش هيقدر عليه، ده جيل يعبر عن نفسه بجرأة ووضوح.. وهو اللى هيغير الدنيا.

أعيد له ملاحظته تلك عقب ثورة يناير ٢٠١١ التى تتجاوز كونها صحوة للمصريين، وأذكّره بقولة أ. صلاح عيسى لى: «الثورة حزب ثورى ونظرية ثورية».. وبأن الشباب يقولون لى: ده كلام قديم. يقول علاء الديب باقتضاب: عموماً الوقت مبكر جداً لتقييم أى أحداث- كنا فى مارس ٢٠١١.

عامة ما اجتمع رجلان إلا وانتقل حديثهما بين السياسة والنساء.. ومن غير سعاد حسنى- وكانت لاتزال بيننا- تفتح الشهية للكلام عن النساء. فثمة قرابة أسرية بعيدة أتمحك فيها، وتربطنى إليها. وأنها قالت لى: بحب أطلبك فى التليفون عشان مامتك تقولى يا بنتى.. هى سنها أد إيه؟ غير أن أمى تخاطب أى صوت رجالى (يا بنى) وأى صوت نسائى (يا بنتى)- يقول علاء الديب مبتسماً: تعرف أنها قعدت على رجلى- يقصد سعاد حسنى- بس ما تكتبش الكلام ده.. خلال عملى بـ«صباح الخير» كنا سنقضى الليل عند فتحى غانم. والوحيد الذى لديه سيارة كحيانة كان محمود السعدنى، تسع أربعة وكنا خمسة. ركبنا وبقيت سعاد حسنى على الأرض تسأل: وأنا هركب كده إزاى!. فقال لها عم محمود: اقعدى على رجلين أى حد.. لأ.. على رجلين الواد ده، ده مؤدب- يضيف علاء الديب- وحدث نفس الشىء فى المرواح.. عموماً مراتى عارفة الحكاية دى.. ويزداد يقينى فى أنهما كانا علامة على زمن عنوانه حب الحياة.

إحنا بقينا فى زمن صعب.. قالها حين ألمّت به أزمة صحية، جىء له فى المستشفى الشهير بخبير فرنسى استأصل له ضلعين وصار قلبه تحت الجلد مباشرة. حتى أننى حين احتضنته قال: حاسب، أنا بقيت زى الحيوانات الرخوة، باحس القلب بإيدى. وحكى لى حكاية أنسولين منتهى الصلاحية منذ سنتين يعالج به فى المستشفى الكبير. وكيف انتهى به إلى سوس فى العظام.. «بنتى سارة هى اللى اكتشفت الموضوع ده».

إحنا بقينا فى زمن صعب. قالها ثانية، حين أيقظنى من النوم- لم تكن هناك موبايلات- سائلاً: تفتكر إمتى الإنسان سُمى إنسان؟.. طبعاً قلت كل الإجابات الشهيرة. لكنه قال: أصل أنا بترجم كتاب والمؤلف قايل سمى إنسان لما ابتدا يشعر بمعاناة إنسان غيره. بدا فرحاً بالاكتشاف.. وأسمعنى موسيقى تشبه موسيقى يثودراكس فى فيلم زوربا- وكان المخرج عماد البهات أعطانى شرائطها ليحرضنى على الكتابة- وسألنى: تفتكر إمتى هنعمل موسيقى زيها.. لتنتهى مكالمة طويلة من كاتب مشغول بأمر أمته، وليس مجرد كاتب قصص وروايات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت فى جريدة المصري اليوم بتاريخ 29 ابريل 2013

الثلاثاء، 5 أبريل 2016

علاء الديب .. شجن الوحدة والاغتراب






د. أحمد الخميسي

لو أن الظروف كانت قد أسعدتك بالتعرف إلي شخص علاء الديب والتردد عليه في الفيلا الصغيرة التي يسكنها في المعادي، والجلوس معه في شرفته المطلة على حديقة صغيرة هادئة، لرأيت كيف يختلس الديب وهو يشرب قهوته نظرات محبة سريعة إلي الحديقة فتبدو لك كأنها امتداد أخضر هامس لروحه العذبة، ولكنت قد لمحت الشجن المهذب الصامت في نظرته.

تتطلع إليه وتحتار أيهما الأعز فيه: الكاتب؟أم الإنسان؟ أم هي حقول الروح مترامية يفضي كل منها للآخر؟. الشجن المهذب في استسلام طائر أسقطته رصاصة، والحزن على مصائر البشر، والتشبث رغم ذلك بالأمل، من ذلك كله يقوم عالم علاء الديب القصصي والروائي.

 الديب من مواليد 1939، لكن إبداعه بدأ في الظهور في الستينات مع حلقة من الكتاب شكلوا جسرا ما بين جيلي الخمسينات والستينات، منهم بهاء طاهر وأبو المعاطي أبو النجا وسليمان فياض وإدوار الخراط وغالب هلسا. كلهم من مواليد الأربعينات لكن ظهورهم وإبداعهم تقاطع مع أبناء الستينات. نشر الديب أول قصة له " الشيخة" في 1962وصدرت مجموعته الأولى"القاهرة" في 1964، وصدرت مجموعته الثانية " صباح الجمعة " في1970.

فكريا ينتمى الديب إلي قيم الوطنية المصرية التي تشكلت قبل ثورة يوليو ثم رسختها الثورة: الاستقلال. التصنيع. العدالة الاجتماعية. العداء للاستعمار ودعم حركات التحرر وفي المقدمة منها فلسطين التي تشغل مكانة خاصة لدي شخصيات علاء الديب في تأملاتها وأحاديثها. وعند أمين الألفي بطل " أيام وردية " فإن فلسطين هي:" فكرة مسيطرة يقيس بها مواقع الناس، وعامل مساعد يكشف به الصدق من الكذب"، بل وفلسطين لديه"دائما تسد حلقه، كأنما هو الذي باع، والذي خان، هو الذي مات وصمد مثل الشجر، هو الذي انفجر واستشهد، هو الذي تشرد وحوصر وقاتل وقتل".

ومع أن الديب لا يهمل تأثير الشروط الموضوعية التي تساهم في خلق الوعي وتشكيل البشر، إلا أنه يميل بقوة للاعتقاد بأن بوسع الانسان، بل وواجبه، أن يتجاوز كل الظروف وأن يتحكم في حياته في مواجهة كل شيء، تلك هي القضية الأخلاقية الأولى في إبداع الديب كله: المسئولية الشخصية، الأخلاقية والانسانية، عن مواجهة المنظومة السياسية والفكرية المنهارة، هذا أو أن يلقى الانسان عقابه فينزلق إلي الخواء،والوحدة، وتقديس المعايير الاجتماعية التي تمجد الثروة والنفاق والكذب.

 هكذا تتصدر مسئولية الانسان الأخلاقية المشهد الأدبي لدي علاء الديب، وتكاد أن تكون عقدة العمل الأدبي وجوهره. لهذا فإن كل شخصيات علاء الديب من دون استثناء تكابد الوحدة والاغتراب المرير بعمق، ومعظمها من مثقفي الطبقة الوسطى التي تشتبك بدرجات متفاوتة مع الابداع. يلوح قدر الوحدة والاغتراب لدي الديب منذ روايته الأولى" القاهرة" 1968، إذ يطالعنا الديب بشخصية"فتحي" التي تجسد الخواء الروحي القاسي. موظف شاب يحيا مع امرأة تراه"شخص مترهل تعس.. لكنه فرصتها الأخيرة"ويراها هو مجرد "إطار كاوتش لم يعد صالحا للاستعمال"، وحينما تفاجئه المرأة بأنها حامل فإنه يرتبط بها لكنه يقوم بخنقها في الليلة الأولى من الزواج. ويقول في دفاعه في المحكمة:" لم أقتلها لأنها بغي.. لم أكن اريد لابني أن يولد.. كنت أريد أن أتأكد من أن حياتي لن تلوث الجيل القادم.. وأن الدنيا لن تشهد فتحي آخر".
يأتي دفاع فتحي أقرب ما يكو إلي بيان بانسحاب المثقف، وهزيمته، بل وانتحاره بعد نكسة 1967، مدركا – سواء أكان على حق أم لا- أنه لم يترك أثرا، والأقسى أنه لا يود أن يترك أثرا، بعد أن انزوى حسب اعتقاده" كل وجه نبيل وكل قيمة شريفة"، فلم يبق سوى أن يعيش وحده " هذا الخواء المرعب".

 ويظل بيان موت المثقف الذي أعلنه الديب في روايته الصادرة بعد النكسة مباشرة يحكم وينتظم كل أعماله اللاحقة من دون استثناء حتى روايته الأخيرة "أيام وردية" الصادرة عام ألفين، مرورا بثلاثية الديب :" أطفال بلا دموع" 1989، و" قمر على مستنقع"1993، و"عيون البنفسج" 1999.

 في كل أعمال الديب اللاحقة على " القاهرة" نرى ثمار النكسة – بعد حوالي ربع قرن من وقوعها- وقد تجسدت وأصبحت جزءا من التكوين النفسي والفكري للبشر الذين تشبعوا بالمرارة واليأس والانتهازية والهروب من كل مواجهة والتطلع إلي النقود ، والشعور بأنه ما من مخرج وما من ضوء في نهاية النفق. وبينما يشير الديب إلي الظروف التاريخية التي خلقت كل ذلك، فإنه لايكف في الوقت ذاته عن تحميل الانسان مسئولية شخصية أخلاقية عما آل إليه وجوده.

 في ثلاثية الديب يتناول الكاتب حياة أسرة تتألف من الزوج د. منير في " أطفال بلا دموع"، ثم زوجته د. سناء في " قمر على مستنقع" وأخيرا ابنهما تامر في" عيون البنفسج". في الروايات الثلاث القصيرة نقرأ القصة على لسان الراوي، الشخصية الرئيسية، لننتهي إلي تأمل أسرة يعيش كل فرد منها بمعزل عن الآخر بل وعن الآخرين، ويعاني بمفرده من الوحدة والخواء، قدر شخصيات علاء الديب المرير. لايلي الديب في أعماله اهتماما جماليا خاصا للغة بحد ذاتها، ويعتمد البناء الفني لديه أساسا على"المونولوج الداخلي" للراوي، و"الفلاش باك"، ونثار أحداث صغيرة متفرقة يومية،أما أفعال الشخصيات فلا تأتي استجابة لأحداث محددة لكنها تنبع من الداخل، أقرب لحوار مع النفس، ويكاد العالم الخارجي لديه أن يكون تكئة لحديث النفس، لهذا يلقي الشعر بظلاله وعطره على الروايات، ولا يعوض شحوب العالم الخارجي الواقعي سوى ذلك الصدق المرير والأمل الخافت الذي يتنهد بروح الكاتب في الروايات.

في"أطفال بلا دموع" يقدم لنا علاء الديب دكتور منير أستاذ الأدب العربي بإحدى الجامعات الخليجية، المفكر العربي، الذي هجر كل آماله أو هجرته هي، وهاجر متفرغا لجمع الأموال بكتابة أبحاث في قضايا قتلت بحثا مثل غزل المعلقات. ينفصل عن زوجته د. سناء ويتذكرها بصفتها" بنت مصر الجديدة والنادي.. لا تعرف إلا المرحاض الأفرنجي والاستلقاء عارية في البانيو الفاخر وتدليك فخذيها ويديها بالكريم". يقول د. منير لنفسه : " كنت وحيدا. ومتى لم أكن وحيدا؟". وفي وحدته يشتاق لبلدته في الصعيد، وللشجرة التي يتكرر ظهورها في أعمال الديب رمزا للطبيعة، لكن أشواقه تلك تحوم حول قرية لم يعد لها وجود، مثل الفردوس المفقود. أما الحقيقة الصلبة فهي أنه يعيش على كتابة المقالات الجوفاء، وتدريس قشور العلم، ويتجرع مرارة الافتراق عن ولديه اللذين انتزعتهما منه زوجته بعد الانفصال. يتذكر الولدين في حلم:" يصرخان في وجهه بلا صوت، عيونهما من حجارة مليئة بدموع لا تنحدر.. أمسك وجهيهما. أهز الوجه. لا أسمع لهما صوتا ولا الدموع تنهمر". كيف أطبقت الوحدة والغربة والنهم إلي المال قدر إنسان كان يوما مشغولا بأحلام كبري؟. في الجزء الثاني " قمر على مستنقع" تحكي د. سناء زوجته القصة من وجهة نظرها، وتقدم لنا حياتها معه على أنها كانت" جحيما في جحيم"، وأن د. منير لم يكن سوى" ماكينة بشعة للأكل والجنس والنقود"أما عن علاقته بالثقافة فتقول إنه كان" يغلق على نفسه حجرة المكتب.. يغيب ساعة أو ساعتين، يخرج منتصرا يحمل كومة أوراق، يلقي بها أمامي، يقول: خمسمائة دولار ياهانم.. مقال رهيب عن التصوف الإسلامي"! أما السنوات التي قضتها معه في الخليج فلم تكن إلا غرقا في " مستنقع الغباء والأنانية والنفط".

 وخلافا لحكاية د. منير فإن قصة سناء تكاد أن تخلو من ضغط الهموم العامة، ما عدا إشارتها العابرة لاختلاف أحوال مصر بعد وفاة عبد الناصر، وإلي تبدل البشر، وهجرة أخيها أمين الذي كان يتحدث عن:" طب الريف، وخدمة الفقراء، وتبسيط العلاج والمصاريف.. كيف انسحب؟".

 ومثل كل شخصيات الديب تعاني سناء كما تقول من:" الفشل والضعف والوحدة الحارقة". الجزء الثالث" عيون البنفسج" يصل فيه المؤلف إلي حالة جديدة مجسدة في شخصية " تامر" ابن منير وسناء، فإذا كان الوطن قد تعرض من قبل لهزة ونكسة لكنه بقى ملاذا ، فإن ذلك الوطن يتلاشى تماما لدي ابنهما تامر الذي تحاصره – مثل كل شخصيات الديب- " أحزان الوحدة الخانقة".

 تامر رمز لجيل آخر مختلف، حيث لم يعد لشيء أي شيء معنى أو قيمة. يشعر تامر بأنه " بلا جذور، معلق في الهواء"، ولم تعد هموم الوطن هي سؤاله، فقد انقلب السؤال إلي: هل ثمت وطن أصلا؟. إنه يسأل صديقه حسين كاظم " أنا لم أعد أعرف ماذا يعني أن أكون مصريا؟ هل تستطيع أن تقدم لي تعريفا للوطن؟!".

وينتهى الجزء الأخير من الثلاثية بهزيمة حسين كاظم صديق تامر الذي يقع هو الآخر في فخ الهجرة بعد أن ضاق بالفقر وقرر السفر إلي الخليج. بهذه الهزيمة الأخيرة، هزيمة حسين كاظم تنتهي عيون البنفسج، وتنتهى معها ثلاثية الغربة والوحدة، قدر المثقف المهزوم، وهو الموضوع الرئيسي لروايات وقصص علاء الديب، وإليه يعود في آخر رواياته " أيام وردية" فيقدم لنا أمين الألفى تجسيدا لكل ملامح بطل الستينات الذي حطمته النكسة وأطاحت أحلامه في التحرر، والعدل. أخلص من صميم قلبه لتلك الأحلام، لم يبدل جلده ، ولا تماشى مع التيار، فأخذ الواقع الجديد يطحنه على المستوى العام وعلى المستوى الشخصي في علاقته بزوجته شادن التي تعرف إليها ذات يوم بعد النكسة حين كانت : " تجرى في مكاتب الجرائد والمجلات، تكتب موضوعات لاعلاء كلمة اليسار وقوى الشعب العامل، مندفعة متحمسة" ، فإذا بها تقع بعد النكسة في قبضة " الحاجة زينب" التي عادت من الخليج مسلحة بكل قيم الرجعية، وإذا بزوجته تختلف، فلا يكاد يعرفها، إلي أن ينفصل عنها. وتحط الكآبة على روحه وتؤدي به لدخول مصحة نفسية. يقدم الديب بطله بصفته " مفكر عربي" ويقصد بذلك ما جاء لاحقا من أن فلسطين بالنسبة للألفي هي" النغمة الحزينة الممضة التي تربض تحت كل الأيام والساعات.. نغمة تتصاعد في القلب مستمرة ثابتة رغم طبول الأكاذيب". لكن أمين الألفي، المثقف، العربي، المصري، لايفلت من مصير د. منير، وسناء، وتامر، ومن قبلهم فتحي في " القاهرة". مجددا يعزف الديب على وتر الوحدة والضعف.

 أما الشخصيات التي تبشر بالأمل، أوتجرب الانتصار والتحدي، فإنها تلوح عند الكاتب من بعيد، شاحبة، كأنما لابد من الاعتراف بإمكانية وجودها نظريا لكن من دون حماسة المؤلف لها. إن الصدق مع النفس، والاعتراف بالهزيمة، هو السمة الايجابية العظيمة لشخصيات لا تخدع نفسها، ولاتكذب، ولا تداري حقيقة الهزيمة التي لحقت بها. شخصيات علاء الديب كما يصف إحداها "انتصاراتها مهزومة وهزائمها تنتحل رايات النصر". ويضيف الديب: " لكن أليست هذه هي قصة هذا الزمن الذي نعيش فيه؟"! . يقول علاء الديب في أوراقه إن والده كان: " ينقل إلي جليسه محبة وسكينة". 

هذا بالضبط هو الأثر الذي كان علاء الديب يتركه في أصدقائه ومحبيه" محبة وسكينة"، لكنها مشبعة بشجن عميق وأسى على العالم والبشر. ظل على مدى أربعين عاما يقدم في الصحافة باب" عصير الكتب" ويعرف القراء بالكتاب الجدد بدأب وصبر، مرورا بمجموعاته القصصية الخمس، ورواياته الخمس، وترجماته التي تنوعت ما بين القصة والمسرح. كنت أجلس معه ساعة أو ساعتين فلا أسمع منه أبدا كلمة " أنا " ولا أية إشارة عابرة لأعماله. يحدق بك باهتمام ويسأل:" كتبت حاجة جديدة؟". أو يتناول كتابا ويدفع به إليك قائلا:"اقرأ قصص هذا الشاب، ممتاز". لم أسمعه مرة يغتاب أحدا أو يقلل من شأن أحد.

رحل علاء الديب عن عالمنا في 18 فبراير هذا العام. فارقنا إنسان تمتع بموهبة حب الناس الفريدة، وكاتب تجاوز دائما النقص في محاولات الآخرين وفيهم أنفسهم متطلعا إلي أبعد من ذلك: ربما يحل يوم يصبح فيه أولئك البشر أفضل، وذلك الأدب أجمل؟ ولأجل يوم كهذا يمكن التشبث حتى النهاية بحب الناس والأمل. لاشي يقال عند الوداع سوى أن كل كلمات الوداع مرة، والموت مر، وكل شيء يسرق الإنسان من إنسان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت في مجلة المجلة – عدد أبريل 2016

الأحد، 27 مارس 2016

40 يومًا على صمت علاء الديب


   








أحمد صوان

40 يومًا مرت على رحيل الكاتب الكبير علاء الديب، الرجل الذي عاش صامتًا، بينما يتحدث قلمه. حكى لنا طيلة عقود عن الفن وهو منخرط حتى النخاع بين الأوراق والحكايات، ينتقي منها ما يقوم بعصره وتقديمه للقارئ. هكذا كانت حياة الديب، صانع الضوء لا الواقف أمامه، كان يكتب ليصنع حالة تجمع بين الكتاب والقارئ، فيُغرق قارئه معه في بحر التأملات.


استهل الديب حياته المهنية مع بداية الستينيات، عندما التحق بالعمل في مجلة "صباح الخير"، لم يبدِ حينها صحفياً تقليدياً يلهث وراء الخبر، بل خرجت منه على الفور روح الأديب ليُمارس بها صحافة التحقيقات، وكانت مقدمة أولى أعماله "مخدرات الطلبة"، دليلاً على أن من سطر هذا التحقيق أديب يرسم الحالة قبل أن يخوض حكايته، فبدأ موضوعه بـ"كثير من النوافذ هذه الأيام تظل مضاءة حتى الفجر وكثير من الوجوه الشابة المرهقة، يبدو عليها الإجهاد والإعياء، ذقونهم نابتة وعيونهم حمراء وأعصابهم متوترة، إنهم الطلبة الذين تعصرهم الامتحانات هذه الأيام، الشوارع في الليل فارغة، والكورنيش يمشي عليه السجائر والسواح، والطلبة في البيوت يحاولون تعويض الوقت الذي راح".


كانت "صباح الخير" منبراً انطلق منه الديب ليطل على قُرائه، فبدأ مقالاته التي كانت تُنشر أسبوعيًا لعقود بعنوان "عصير الكتب" -والتي جمعها فيما بعد في كتاب يحمل الاسم ذاته- وجاء تقديم الكتاب من اثنين، أحدهما صديق عمره الأديب الراحل إبراهيم أصلان، والثاني تلميذه الكاتب بلال فضل، فكتب أصلان "هذه كلمات لا تنفع، طبعًا، إلا أن تكون في محبة علاء الديب، الصديق والأستاذ، وأحد الأخيار القدامى في هذا الواقع الثقافي الذي صار مسخرة، ومفخرة، أو أي شيء من هذا القبيل"، بينما كتب فضل "مع سبق الإصرار والترصد أضعت كل فرصة سنحت لي لكي أتعلم من علاء الديب أشياء مثل الحكمة أو الهدوء أو التأمل أو معرفة الأشجار، فالنباتات عندي كلها تحمل اسمًا واحدًا هو شجر، ولذلك اكتفيت بأن أغبط على الدوام صحوبية عم علاء الحميمة لجميع أنواع الأشجار والثمار والزهور"، بينما كتب هو "ماذا قدمت لي الكتب سوى الحيرة وتلك الحزمة من الأشجان الرومانتيكية اليابسة؟ هل تقف الكتب ضد الحياة أو بديلًا عنها؟ كلا، هم أصدقاء، من حسن الحظ أن مهنتي هي هوايتي، هي حياتي تلك الخطوط السحرية التي تنقل معاني وتهز النفوس والجبال وتغير العالم".

على مدى أربع عقود كتب الديب الكثير، وأطل برؤيته عن الجميع وعليهم، تنوعت اختياراته فقدّم عصيرًا استمتعت به عقول مُتابعيه، ورغم أن الكتابة عن كاتب كبير ومتحقق بالفعل أشبه بالمأزق، فإن الديب قد نجا من هذا عندما كتب عن الأديب الراحل نجيب محفوظ، فاستعاض عن القوالب بإحساسه وانطباعه الشخصي، وفي الوقت نفسه لم يخش مكانة أديب فتدفقت كلماته في لغة مبهرة "فُتحت النوافذ لنسمات الحكمة، وخرج علينا الكاتب بأصداء السيرة الذاتية، أصداء، لأنها أوسع وأرحب من سيرة ذاتية، لأنها ترن في الماضي القديم، وفى الأفق المأمول البعيد، لم يشهد الأدب الحديث مثل هذه البلاغة، ولا القدرة على الإفصاح والوصول".


تنبأ الديب بصعود العديد ممن كان يصفهم فيها بـ"الكاتب الشاب"، وصاروا فيما بعد نجومًا، منهم كتاب بعنوان "الذي اقترب ورأى"، ألفه طبيب شاب -آنذاك- يُدعى علاء الأسواني، وصفه الديب قائلًا "علاء طبيب جديد يقتحم بجرأة ميدان الأدب، يدفعه غضب جامح، وتراث من الفن والبلاغة، والقدرة على الإفصاح"، فيما بعد صار الشاب صاحب سُمعة عالمية كبيرة، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من لغة، ونشر مقالاته في الصحف الفرنسية، وتحول أشهر أعماله، "عمارة يعقوبيان"، إلى فيلم سينمائي.



كان علاء الديب موسوعيًا، جمع الكثير من مجالات الثقافة المختلفة مع الأدب، منها الموسيقى، الفن التشكيلي، والسينما، وهذا ما استخدمه عندما كتب عن رواية "بحيرة المساء" لصديقه الراحل إبراهيم أصلان، عندما كتب يقول إنها ذكرته بأعمال الموسيقار العظيم "يوهان باخ"، وأسهب في الربيط بقوله "تعلمت من الموسيقى الكلاسيك وخاصة من باخ.. إن أروع ما في العمل الموسيقى هي الثواني التي تنتهي فيها الجملة الموسيقية أو اللحن، وتبدأ فيها جملة جديدة، أو لحن جديد، في هذه الثواني يتركز كل تركيب العمل، يضع فيها المؤلف أسرار الكمال الفني القائم في ذهنه دون إفصاح أو مباشرة"، رابطًا هذه النظرية بتجربة جيل الستينيات كله، موضحًا بهذه الرؤية أنه جيل استطاع صياغة هذه الحالة في كلمات، عبر تمكُنهم من مقاليد الجملة القصيرة التي تخرج وكأنها طلقة صائبة، وتساءل عن انبهار أصلان بهذه اللعبة، وعن حبه للبريق الذي يصدر من تلميع الجملة وصياغتها بدقة، كذلك وصف يحيى الطاهر عبدالله بأنه "واحد من الذين رافقوا حركة القصة الجديدة، بل وصاغوا كثيرا من معالمها"، وعاد حول أعماله وطبيعتها ليقول "من الذين يتردد البعض في تقويم أعمالهم، ويقفون من كتابته الدقيقة الصعبة موقفًا متحفظًا، ويرون في رؤيته الخاصة وتناوله المميز للأحداث والشخصيات استمرارًا لموجة الغموض والعبث".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في البوابة نيوز بتاريخ 27 مارس 2016

الجمعة، 25 مارس 2016

"حوار خاص" مع علاء الديب













محمد رياض

لن أتعاملَ مع موتك، فأنا، بوضوحٍ وارتياحٍ وبساطة، لا أعرفه.

أعرف "علاء" الحيّ.

ينتظرني في نفس المكان، على نفس الطاولة، هناك أفرغ هواجسي كاملةً، بابتسامةٍ يربّت على روحي، فأودّعه بقبلةٍ على الجبين.

انفضّ السامر يا أبي، واحتفلوا بموتك أكثرَ من حياتك، فهل كان نهر الكتابات التي ترثيك، قادرًا على استبقائك في يوم من الأيام؟ لا أعتقد، أنت الذي قررتَ المغادرة بإرادتك.

وتركتني.

تحدثوا عن منحة رئاسية لإنقاذك، وكنتَ وقتها تتأرجح بين ساعات انعدام الوعي ولحظات الإفاقة، لكنك رفضتَ المنحة بموتك، وكنتَ قادرًا على الحياةِ من دونها، لستُ أشك في ذلك.

تركتني.

وأهملتَ روايتين ناقصتين لتكتبَ عني، تكتبَ من أجل ثورتي وكرامتي ودمي، من أجل الحياة التي أعيشها الآن، بينما أدرتَ ظهركَ لي لأكملَ الطريقَ وحدي، ولم تترك لي وقتًا لألتقطَ الأنفاس، أو أبكي مع الآخرين عند شاهدك.

فاجأني موتك.. أعترف. لكنني لم أعترف بانهزامك. كنتُ هناك بينما يلقنونكَ وصيةَ الانتقال: "إذا سألك المَلَكان من ربك، وما دينك، ومن نبيك..."، أنتَ الذي اعتدتَ أن تشيرَ على الجميع، وتأمر، وتقولَ الكلمةَ الأخيرة، بهدوءٍ وكبرياءٍ واكتفاء.

إذا كان غيابُك مؤكدًا كما يقولون، فدعني أصفُ لك المشهد:

في يومِك، شيّعوا شهيدًا آخر، قتيل الدرب الأحمر، مات بطلقةٍ واحدةٍ من سلاح ميري، ربما في الوقت الذي قررت المغادرة أنتَ أيضًا، طلقة واحدة في الرأس، لأنه رفض المساومة على عرقه، هؤلاء من اخترتَ أن تدافعَ عنهم وتحمّلتَ المرارةَ والعارَ والانكسار.. وقتًا هادئًا يا سيدي مع رفقائك الدائمين.

- "يحصل الواحد منا، نحن أبناء الطبقة المتوسطة، على أكثر من حقه، انظر إلى العارقين الكادحين حولك، هل تعرف كم يقبضون في آخر النهار؟ كيف ينامون؟ وكيف تنام أنت؟ فكّر في المزايا المجانية الكثيرة التي تحصل عليها بجهد قليل أو بلا جهد على الإطلاق".

مهلاً، إليكَ بقية المشهد: في جنازتك، رأيتُ القتلة يقفون وسط المصلين، ويتلقون التعازيَ والتصاوير، ورأيتني مقتولاً للمرةِ الألف، وكنتَ تقرأ أفكاري وتحاصرني، لكنكَ لم تمدد لي يدك، كنتُ أشك بكل شيءٍ حتى بجثمانك: من الذي يحملونه الآن فوق أكتافهم؟ وما الذي أتى بي إلى هنا؟ ومن أين يخرج كل هذا الحزن، وهذه الدموع؟ لو كنت واعيًا بموتك، لرفعتُ عقيرتي بالقصائد، وأطلعتُ الباكين على وصيتك الأخيرة، قلت لي وأنت على سرير البداية:

- احترس.

- من أي شيء؟.

- من كل شيء.

كنتَ تخافُ من غروري وكبريائي ورعونتي، من فرحي، ومن يأس البلاد من الفرح.

كنتَ تقاومني وتأسى لأجلي، تدفعني وتشدني للوراء، وتشفق علىّ من سجني وحريتي، كنت ندّي، وما زلتَ حتى الآن قادرًا على إدهاشي وتعنيفي وتحذيري ومؤازرتي.

ساعدني لأعثر على وجهي، مثلما عثرتَ عليّ وأنتَ في مكانك، قل لي كيف أثق في مبادئ لم تعد تعني أحدًا، ولا تدل عليها لافتةٌ أو أثر، كيف أعيش مؤمنًا بالحياة فوق بركان، وكيف أموتُ بنفس اليقين الذي تطلق به دخانك؟.

- "كل ما أريده في النهاية أن أكون رجلاً صالحًا بجد، وأن أشن حربيَ الخاصة التي لا هوادة فيها ضد:

الكذب والنفاق.. أبشع خصائص الطبقة المتوسطة".

لقد خضتَ حربَك الخاصة، وظللت شهرين أسير "العناية المركزة"، لكنني لستُ أنتَ في نهاية المطاف، فلديّ أيضًا حربيَ التي لا هوادة فيها، ولديّ ثأريَ المؤكد، بالدمِ والشواهدِ والعاهات المستديمة، ولديّ مأساةٌ لا أرى حدودها من مكاني، ولن أدعهم يضحكون مجددًا من براءتي وضياعي ومراهقتي، لن أتركهم يقيمون المآتم للمجرمين، أو يقبلون التعازي فيمن سآكلهم يومًا بأسناني.

في المرة القادمة، سأحضر معي حبًا جديدًا، وورودًا كثيرة، ونهرًا من قصائدَ ورسومٍ ومدوّنات، عائلة من الشهداء سوف تأتي برفقتي، وسنقرأ حدَّ الانهيار، سأغني أنا وأنتَ وكلُّ الفقراء الذين أصادفهم في الطريق، سنقفُ جميعًا مع الأشجار والبيوت والشواهد، الحجر والتماثيل والأطفال والأمهات، من سيبقون في النهاية وإلى الأبد، معهم لن نتعذبَ من جديد، لن نشعرَ بالنصر أو الهزيمة، ولن نرى الأمسَ والحاضرَ والمآل.


إلى أن نلتقي يا أعز الرفاق.. طابت أيامك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة الوطن بتاريخ 25 مارس 2016

الاثنين، 21 مارس 2016

سريعًا مر شهر على رحيله فمتى يكف القلب عن الحنين ؟.


 مقتطف من سيرة علاء الديب
سريعًا مر شهر على رحيله فمتى يكف القلب عن الحنين ؟.




 حمدي عبدالرحيم

ليل السبت على الأحد ( عشرون فبراير 2016) أجلس في مسجد الثائر القديم عمر مكرم لتلقي العزاء في شيخي علاء الديب ، يقع المسجد على الشاطئ الشرقي لنيل القاهرة ، يحده شمالًا مبني جامعة الدول العربية ، ومن الجنوب ذلك الكيان الخرافي المسمى بمجمع التحرير ، ومن الشرق ميدان التحرير حيث بائعة الجرائد وهتافات ما تزال مقيمة في القلب تنادي بأن الشعب يريد إسقاط النظام .

لن أعلو فوق المشهد وأخاطب روح شيخي :" الساعة الآن العاشرة ، الجرائد في السوق الآن يا شيخي هل أتيك بالمصري اليوم لنقرأ مقالك الجديد ؟ ".
سأترك نفسي لصوت المقرئ وهو يرتل :" ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة ".
إنه القرآن يا شيخي وقد سألتني مرة :" كيف هو الكلام عندك ؟ ".

أجبتك متسرعًا :" هو عندي كما عند الناس ، نثر وشعر ".
يومها رميتني بنظرة إشفاق وقلت :" لو كنتَ تريثتَ  لكنت قلت إن الكلام هو نثر وشعر وقرآن ، القرآن ليس نوعًا من أنواع الكلام ، إنه جنس قائم بذاته ، هو ليس شعرًا وليس نثرًا هو القرآن وحسب ، وإن لم تدرك هذا بقلبك عشتَ كالببغاء " .

ثم ستمر السنون ويقول لي :" صحح ما قلته لك في زمن مضى ، الكلام نثر وشعر وقرآن وأصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ ".

هذان التصريحان سيكشفان لي ما أظنه كان خافيًا من شخصية وعالم علاء الديب .
الرجل تعليمه كان مدنيًا ولم يلتحق يومًا بمعهد ديني أو مدرسة شرعية ، فمن مدارس الحكومة المدنية إلى جامعة القاهرة التي غادرها حاصلًا على ليسانس الحقوق إلى مجلة صباح الخير وشعارها " للقلوب الشابة والعقول المتحررة ".

فمن أين جاءه الشغف بالقرآن وبعالم المشايخ ؟
ثم أن الرجل على صعيد الانتماء السياسي كان يقف راسخًا غير متحسر ولا مهزوم على أرضية اليسار الرحبة ، يجمعه بكل فصيل يساري جامع ، ثم هو علاء الديب المتفرد الذي لا هو قطيع ، كما هو ليس من محترفي دسائس القيادة والزعامة .
 وعلى ما سبق فلا يجمع الرجل جامع بالذائقة " الدينية " الصاخبة والعنيفة.

أدخل عليه غرفة مكتبه فأجده دائمًا يقرأ منكبًا على الكتاب الذي بين يديه كأنه كنز الكنوز ، ولا أجده يسمع سوى لنشرات أخبار البي بي سي ، وقرآن يرتله الشيخ مصطفي إسماعيل ، ومقطوعات لكمان عبده داغر .
متى يكتب هذا الرجل ؟.

ثم عندما يكتب أو يتحدث لماذا يبدو لي كأنه عالم الفقه وقد حيرته مسألة فراح يفحصها ويمحصها من كل وجه وجانب .
 أسأله عن هذه الرواية أو تلك فيقول بصوت خافت واثق :" لم تقع في يدي بعد ".
ثم لا يضيف حرفًا .
أعود وأسأله عن هذا الكتاب أو ذاك فيقول :" قرأته وهو عندي كذا وكذا ".
ثم يضيف :" أنا أرى أنه كذا ".
ثم يواصل :" هناك جمهرة تقول إنه كذا ، أما أنا فأقول إنه كذا ".
مفرداته السابقة قد تبدو هينة بسيطة ، ولكنها عندي ثمينة للغاية ، لماذا ؟.


في الزمان البعيد كان الأزهر كيانًا محترمًا وكان رجاله هم بحق حاملو رايات التنوير ، راجع قائمة تبدأ في العصر الحديث بسعد زغلول وتصل إلى الشيخ زكريا أحمد بل والشيخ مدحت صالح ، في كل فن كان رجال الأزهر يضربون بسهم من تفسير الآيات الكريمة إلى السياسية إلى الموسيقي ومن العروض إلى الرياضيات ومن علم الجرح والتعديل إلى الجغرافيا ، كانوا كما وصفهم أمير الشعراء أحمد بك شوقي :" كانوا أجلّ من الملوك جلالة / وأعز سلطانًا وأفخم  مظهرًا ".
تلك الجلالة كان التواضع  شعارها وكان الإتقان سداها ولحمتها .

كان الواحد منهم إذا جلس مجلس العلم يقول :" الرأي عندي ، أنا أرى ، أنا أقول ".
تلك الأنا لم تكن أنا الأنانية أو أنا التفاخر والتباهي والتبجح ، بل كانت " أنا " التواضع ، والمسئولية وفتح الباب أمام أراء أخري واجتهاد آخر وكلام جديد .

من النظر في سير الرجال الذين كانوا رجالًا  بحق ، ومن التلمذة على أيدي " أمين الخولي " و" محمد أبو زهرة " جاءت المسئولية التي حمل علاء الديب عبئها وأدى حقها ، لم يكن مشايخه القدامى يتبجحون ويقولون  :" أنت تسأل والإسلام يجيب !!!" بل كان الواحد منهم يعرف قدر نفسه ويتحمّل مسئولية كلامه فيجيب بلسانه عن المسألة المعروضة عليه ولا يسد باب الاجتهاد ولا ينفي رأي الآخر أيًا كان الآخر ورأيه .

كذلك كان شيخي علاء الديب ، يقرأ الكتاب ويقرأ حوله ثم يتركه فترة يعيد فيها تأمله ، ثم يشتبك معه في حوار ، وذلكم الحوار كان هو المنهج النقدي لعلاء الديب ، إنه يحاور الكتاب وكاتبه وقارئه ويقول رأيه المتضمن للمحاسن والعيوب والمصحح لما يراه هو خطًأ ، والكاشف عن الذي بين السطور والمظهر لما أراد الكاتب أن يجعله رسالة سرية مشفرة .

كان هذا منهجه وشريعته في الكتابة النقدية ، أما في الكتابة الإبداعية فكان هو الكاتب والمكتوب ، علاء الديب يكتب علاء الديب ، والأمر هنا أبعد وأعمق وأعقد من تسميته بالسيرة الذاتية الروائية ، إنه على صعيد من الأصعدة علمية تشريح قاسية جدًا ومؤلمة للغاية لخفايا النفس ومكنونات القلب .

في إبداعه ( كان لا يستخدم  مصطلح إبداع  ويفضل عليه مصطلح كتابة ) يعلن كلمته التي هي ضد التزوير والكذب ، وهذان هما المرضان اللذان كان يري أنهما مقتل أمة العرب ، بل مقتل الإنسانية ، كان يتقصى عروق المواجع الحقيقية كأنه جيولوجي يبحث عن عروق المعادن في قلب الجبال الصماء والصحراء المجهولة ، كان يصبر على مشهده ولا يتركه لآخر إلا إذا رضى عنه وسلّط عليه شمس الحقيقة الكاشفة .

أشهد وقد تكرّم عليّ وأهدىني مسودة روايته الأخيرة " أيام وردية " أنه أعاد كتابة مشهد بين البطل وشجرة طريق عشر مرات ، كان يريد لقارئه أن يشعر بمشاعر البطل تجاه شجرة الطريق .

وأشهد أنني قد قرأت له قصة قصيرة عن حب جارف عميق يجمع بين شاب له قلب حكيم وشابة لها جمال الكون كله ، ولكن قلقًا ما كان ينغص على الشاب حلاوة الحب ، ثم في لقاء له مع حبيبته شاهدها وهي تسارع ملتاعة لالتقاط وردة ندية داستها الأقدام ، ورآها وهي تنفض عن الوردة برقة ما نالها من أذى ، ثم رآها وهي تضم الوردة وتقبلّها كأنها طفلها الرضيع .
تأتي كلمة النهاية في القصة بانصراف الحبيب عن الحبيبة .
قلت له  في تبرير قلق الحبيب وفي شرح انصرافه :" الحبيبة كانت مزورة مفتعلة ".
قال :" نعم " .
قلت :" وأنت الشاب ذو القلب الحكيم ".
قال :" بل أنا العجوز الذي يبحث عن لحظة صدق ".
أما وقد أتاك اليقين يا شيخي قبل شهر من الآن  فلتطب ميتًا كما طبت حيًا  وليبارك الخالق بحثك عن صدقك وخلاصك من دنيا الافتعال والتزوير والكذب .

هامش
في السنوات الأخيرة من حياة علاء الديب كتب مئات المقالات عن مئات الكتب في جريدتي الأهرام والمصري اليوم ، خصص مقالات الأهرام لتناول الكتابات الجديدة لشباب الكُتَاب  ، وجعل مقالات المصري اليوم لأصحاب التجارب ، هل تسارع دار نشر وتجمع المقالات بين دفتي كتاب قبل أن يطمسها تعاقب الأيام ؟ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في جريدة المقال بتاريخ 21 مارس 2016