الخميس، 11 نوفمبر 1999

"عيون البنفسج" للكاتب المصري علاء الديب . عزلة الذات أمام انهيار... الوطن








استطاع علاء الديب ان يقدم تأريخاً لوعي ووجدان جيل عاش مراحل دقيقة من تاريخ الوطن وعاصر تحولات هزت أبنية القيم. هذا ما نجده في اعماله كلها في مجموعاته القصصية "القاهرة" 1964، و"صباح الجمعة" 1968، وكذلك رواياته "زهر الليمون"، و"اطفال بلا دموع" ، و"قمر على المستنقع"، و"عيون البنفسج" 1999، ولعل كتابه النقدي الاخير "وقفه قبل المنحدر: اوراق مثقف مصري 1952- 1983".

بدا وكأنه شهادة، او كتابة بديلة عن الموت، او الانتحار حين يرى المرء وطنه يهبط في منحدر سياسي واجتماعي وثقافي، فتصبح الكتابة صرخة في مواجهة هذا السرطان الذي يقتل الهوية وملامح الوطن. وفي روايته الأخيرة "عيون البنفسج" يتأمل البطل تامر فكار علاقته بزوجته كارين، ويتساءل كيف تمزقت؟.

هي تعرف ما تريد، وتعمل من دون كلل او شكوى، وتجمع الملاحظات وتجري المقابلات، وتسجل افكارها حتى ساعة متأخرة من الليل. اما هو فيقتله الفراغ، وتقوده الشوارع الى تيه، وينقله الاصدقاء الى سجن الفاقه المادي والجنسي والوجداني، فلا يعرف الى اين تقوده حياته، بينما هي تعرف الطريق او الوسيلة في الحياة. وكانت تزوجته لأنها وجدت فيه ومضات اصيلة، وعناصر نادرة للانسان في عالم اليوم، لكنه لا يفعل شيئاً، فصار حملاً ثقيلاً لا تقوى على حمله او دفعه نحو الحياة، فنجت بنفسها وسافرت الى بلدها، وهي تودعه بالدموع.


صورة تامر فكار الشخصية الرئيسية في الرواية هي جزء من الصورة التي يقدمها علاء الديب في "وقفة قبل المنحدر"، وهي ملمح رئيسي للزمان العربي الراهن، حيث لا يدري أحد كيف يمكن مقاومة انحدار الشخصية والامة والوطن! هل لأن ما يحدث اكبر من الفرد، ولا يستطيع اي فرد ان يوقف انهياره، او انحدار الوطن، حتى لو اغلق على نفسه باب البيت كما فعل تامر فكار حين ضاق بفضائح زوج امه فأغلق على نفسه باب الشقة، ليكتفي بنفسه عن العالم، فتسرب اليه كل ما يخشاه.


إن اعمال علاء الدين يفسر بعضها بعضاً، او هي تترابط، وتكمل أبعاد الصورة التي آل اليها الانسان والوطن، فهو في هذه الرواية يكمل ما بدأه في روايتبه السابقتين: "اطفال بلا دموع" و"قمر على المستنقع" وهو يتناول في الاولى الدكتور فكار الذي سافر الى الخليج في السبعينات ومع نزوح الهجرة الجماعي لحل المشكلات الفردية، اذ لم يعد الفرد مشغولاً بهموم الوطن في ظل صيغة سياسية لا تتيح المشاركة في صنع القرار السياسي الا بالموافقة، وأصبح الفرد مشغولاً بمكافحة الفقر المميت في ظل مجتمع "انفتاحي"، وعرف الطريق الى الاقتصاد الطفيلي، وظهرت فئات جديدة تؤثر في السلطة، لأنها تمتلك الثروة، وتفتقر الى القيم التي تبني الأوطان.

 تغير الحال وأصبح معنى الحياة وصورتها مرتبطين بامتلاك ادوات استهلاكية، هذه الادوات سيطرت على الحياة في مصر لدرجة جعلت الصور الممكنة للعيش مرتبطة بها: السيارة، الغسالة، التلفزيون، التلفون، وما تجلبه هذه الادوات من تبعات في السلوك اليومي. وغاب تحقيق الانسان، او تقديره حسب اقترابه او ابتعاده من وعن الثروة بمفهومها السلطوي.. وتغيرت طبيعة العلاقات بين البشر، تبعا لذلك، حتى بين الزوج وزوجته وبين الاب وابنه، وكل له مبرراته في البحث عن مردوده وهدفه. ونشأ التعارض الكياني بين الدكتور فكار وزوجته: هو يبحث عن المال الذي أذله، ودفع عمره ثمناً للحصول عليه، وهي تبحث عن معنى الحياة والصدق بعيدا عن النفاق السياسي والاجتماعي. هذه التحولات التي رصدتها الرواية، وشخصت النماذج الانسانية التي تولدت عنها خلقت مجتمعاً مريضاً، يستهلك كل شيء حتى هويته من اجل المال. وصورة التاريخ والبناء الاصيل للقيم تبهت في الخلفية.

 وهذا الفصام السياسي والاجتماعي جعل كتاباً يهجرون القص ويلجأون الى المقالات المباشرة مثل يوسف ادريس حين كتب "فقر الفكر وفكر الفقر"، ليتحدث عن هذا الانفصام بين وعي الامة وسلوكها الاستهلاكي المدمر، الذي يطال كل شيء حتى انفسنا... وكل انسان وسط هذه الصورة الاستهلاكية، قادر على تقديم مبرراته. فحين تقرأ أي رواية من الروايات الثلاث لعلاء الدين، "اطفال بلاد موع"، و"قمر على المستنقع" و"عيون البنفسج" لا تملك الا ان تتعاطف مع ابطال الرواية، او الشخصيات الرئيسية، فكل منهم يرمي بنفسه الى الهاوية التي تأكل الروح، لأنه لا يرى البديل الآخر، او يقوى على تجاوزه. فالدكتور فكار بعدما عرف ان الحصول على المال قد استغله واستنفد كل طاقاته، لم يغير طريقه ولم يعد من العمل في الخليج الا بعدما صار مثل الحصان المريض. كذلك زوجته وابنته توجهتا الى الجنس والمخدرات، بعد ان اصبحتا لا ترىان بديلاً آخر، وتركتا كلتاهما اولادهما لمربية تدفعان لها أجرها.


وبعدما تعرض علاء الديب لملامح الجيل الذي عاصر ثورة 1952 وما تبعها من تحولات سياسية واجتماعية، ومن فشل لهذا الجيل في ان يربط حياته بمستقبل الوطن، أراد لنفسه الانفلات من أسر مصير الانحدار الذي يؤول اليه كل شيء في الوطن، فسافر او انكفأ على نفسه في بلدته من خلال مشروع تجاري، او كما فعلت الزوجة التي تزوجت من "القبطان" وعاشت في مكان ما بعيدا عن اولادها وعن البشر، لا يشعر بها احد، ولا تشعر بالتحولات التي تواجه الناس حتى لو كانوا أقرب ما يكونون اليها.


ثم ينتقل الى الجيل الجديد الذي ولد في الغربة عام 1975، وهو يتمثل في صورة تامر فكار، ليبحث من خلاله عن مستقبل الوطن عبر هذه الشريحة الاجتماعية، ويستكمل العناصر التي تساهم في صنع الحياة. فهو لا يتعرض لتامر فقط، وإنما للحياة اليومية من خلال كل صورها. فقد تمكنت قيم الاستهلاك في تربة الواقع، ولا تزال المبررات للسفر والهروب كما هي، ولم يعد الوطن مكاناً للحلم او تحقيق الذات، فصديق تامر يفرح بفوزه بعقد عمل للـــسفر للخلـــيج، فيرى تامر ان هذا يشير الى إمكـــانية متاحة له، ان يعود الى مسقط رأسه، على رغم انه يعي انه طريق مرعب، "وأن من يستطيع ان يهرب من السير فيه فقد فاز بنفسه وبحظ عظيم".


يعتمد علاء الديب في بناء رواياته على فكرة "النمط" او النموذج الأصلي، فهو يختار شخصية تجسد مناخاً بكامله، وهذه الشخصية ليست متوسطاً حسابياً للبشر، وإنما هي حالة فريدة، نجد فيها السمات التي تميز الوطن والتاريخ والحياة اليومية. انها الجزء يجسد سمات الكل، فالدكتور فكار وهو يعبر عن نفسه، يعبر في الوقت نفسه عن جيل بل عن هموم جيل بكامله، وعن حقبة تاريخية من الوطن، اذ خرج ابناء الوطن الى البلدان الأخرى، بحثاً عن الرزق، وهرباً من الفقر، وتراجع المشروع الشخصي الي فكره دفينة في الأعماق مـــثل: المشروع الادبي للدكــتور فكار الذي لم ينجز بعد. 

والدكــتور فكار هنا هو حالة كل انسان اتيحت له فرصة السفر والخروج من الوطـــن بعد النكــسة. ويستوي في ذلك المثقف والحرفي والمدرس واستاذ الجامعة والمزارع.

وتامر فكار في الرواية الجديدة هو تعبير عن جيل بكامله، تخرج في الجامعة، ممتلكاً احساساً طيباً بالحياة، لكنه لا يملك مشروعاً للحياة، ولا يرى نفسه ضمن الوطن، وإنما خارجه في عزلة فريدة، ليس عن الوطن فحسب، وإنما عن جيل الآباء، والامهات، وجيل الاساتذة الذين تاهوا في النفاق السياسي والاجتماعي ويلعبون ادوارهم برداءة.

واعتمد الروائي على تقنية ضمير المتكلم في رواياته، لينقل صورة العالم كما تراها الشخصية، وكما تدركها من خلال وعيها الذي يتجسد في لغة فيها قدر كبير من العذوبة والشاعرية والقسوة. وآلية السرد تقوم على فكرة الأوراق الشخصية او المذكرات، حيث تمثل الكتابة إعادة بناء للتجربة التي تعرضها لنا الشخصية.

 وهو - اي المؤلف - يوصي بأن هذه الأوراق حقيقية، وأنه اضاف اليها القليل، وهذه الصيغة تساهم في تواصل القاريء مع نصه، حيث لا نجد عوائق تحول من دون ذلك.. لأن موهبة الكاتب الاخاذة، تجعل الرواية اشبه بالموسيقى التي تنساب داخل النفس من دون عناء، حتى إن نص الرواية ينتهي بأشعار للمؤلف ولشعراء آخرين مثل علي منصور وهو من جيل المؤلف، ولشاعر من الجيل الجديد الذي احدث ضجة بتجربته الشعرية وهو عماد ابو صالح.. كأن ايقاع الرواية يتصاعد لتتضافر خيوط الألحان في هذه الأشعار.


تتكون رواية "عيون البنفسج" من مقدمة وأربعة وعشرين مقطعاً وحاشية ختامية. وفي المقدمة يربط بين الرواية الجديدة وبين روايتيه السابقتين، وفي الحاشية يشير الى اوراق متبقية في حقيبة جلدية جديدة مغطاة بالتراب وفيها بعض قصائد تامر فكار وآخرين.

وينحو الكاتب طريقاً مختلفاً في بناء سرده القصصي، فليس من تتابع زمني، وإنما اعادة بناء للزمان حسب تطور الشخصية في وعيها بمصيرها، وفي إدراكها لما يحيط بها. فالمقطعان الاول والثاني صورة لمشهد تامر بين اصدقائه، يقرأون الشعر، وانتهى الامر بتمزيق حسين قصيدته وحرقها. وفي المقطع الثالث يرجع الى زمن مضى، حين عاد من الخليج وبدأ حياته في مصر، ثم ينتقل الى شقة صديقه شوقي عامر التي تعرف فيها على كارين من خلال الأصدقاء الذين يجتمعون لديه، ثم ينتقل الى شقته، ويعود الى زمن دراسته في الجامعة. وهكذا فإن الزمن في الرواية يقوم على التردد بين زمن الاستبصار الآني الذي يعيد فيه بناء احداث حياته حين يخلو الى نفسه، وبين العودة الى زمن ماضٍ يبحث فيه عن جذوره وملامحه. 

يعود الى الخليج مسقط رأسه، والى والدته، والى والده، والى اخته لمياء، وكارين. وهذه هي الدوائر التي يدور فيها بحثاً عن نفسه، بالاضافة الى علاقته بالاصدقاء حسين كاظم، وجماعة الشعر.

اما سبب تسمية الرواية بـ"عيون البنفسج" فهي اشارة الى كارين زوجته الاجنبية تمتلك عينين بنفسجيتين، وهي ضوء يمثل له المحبة والاتساق مع النفس ومحاولة تبين الطريق، فهي قيمة ورمز اكثر منها حضوراً جسدياً، هي ثقافة اخرى تظهر على نحو جلي ثقافة الأنا وتناقضاتها.


"عيون البنفسج" هي مرآة رأى فيها تامر فكار مدى ألمه وحزنه، وعمق مأساته.. ولم يجد طريقاً يصل بين حياته وحياتها... وهو يبين في نهاية الرواية ان التفرد الحزين هو ما يميز الشخصية المصرية، وهو حالة من حالات التوجد والعزلة.. لا تميز جيلاً بعينه، وإنما تميز كل الأجيال، ولهذا فهو يجمع بين اشعار على منصور وعماد ابو صالح ليؤكد هذا المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 رمضان بسطاويسي محمد
نشرت في 11 نوفمبر 1999