السبت، 30 مارس 2013

اكتب حزن المدينة






«إسطنبول»: أكثر كتب «أورهان باموق» تمثيلاً لخصوصيته وموهبته.

 الكاتب التركى الذى ولد فى إسطنبول 1952 وحصل على جائزة نوبل 2006 وصنع لنفسه مكاناً خاصاً فى الرواية الحديثة بعد أن ترجمت رواياته إلى أغلب اللغات الحية، وحققت أرقاماً ضخمة فى التوزيع.


كان نقاد أوروبا يقولون:
«من يقرأ أدباً مكتوباً بالتركية؟»
 لكن أورهان الموهوب والمثقف استطاع أن يشق طريقاً متميزاً فريداً فى وسط غابة الرواية الحديثة، بكل مدارسها، واتجاهاتها الحداثية وما بعد الحداثية، والواقعية السحرية وكل الموجات القادمة من الشرق والغرب، كرر مرة أخرى المعادلة السحرية وهى إيجاد الحقيقة الإنسانية العامة من قلب خصوصية ومحلية المكان.

 وهى معادلة: نجيب محفوظ التى قادته فى النهاية إلى أعمال تجريدية فريدة «الأحلام وأصداء السيرة الذاتية».

                ■

إسطنبول ليست رواية، وليست سيرة ذاتية، إنها سرد أدبى محكم مشوق، يروى صعود كاتب وأحزان مدينة يقول فى الصفحات الأولى:
«حين ولدت كانت مكانة إسطنبول بالنسبة إلى العالم تشهد أيامها الأضعف والأنقى والأجود.


 إن ما بلور إسطنبول طوال حياتى: الشعور بانهيار الإمبراطورية العثمانية، والحزن الناجم عن الفقر والخراب الذى غطى إسطنبول، كل من يحاول أن يبحث لحياته عن معنى: يسائل نفسه ولو مرة:
 ما معنى أن أولد فى هذا المكان من العالم؟ وفى هذا التاريخ؟»
السياح والدراما التركية يرون فى إسطنبول وفى شاطئ البسفور مكاناً مرجاً مزدهراً غارقاً فى البهجة والألوان:
باموق يراه من الداخل. أبيض وأسود.


يرى الأزقة الداخلية، والعشوائيات، والقذارة، وقطعان الكلاب، ورغم ذلك يحب المكان ويتوحد معه، ويرى فيه التاريخ والمعنى أنه يبحث عن الذات الضائعة: فى ذلك الصراع المشتعل بين الشرق والغرب. بين انهزام الإمبراطورية العثمانية وسعى تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبى.


 بين مذابح الأرمن وقتال الأكراد وديمقراطية تركيا، ودعاوى الحرية والتحرر، بين أتاتورك «أبو الأتراك» وانقلابات الجيش ثم صعود وسيطرة الحركات الإسلامية.


 «عندما أتكلم عن المدينة فإننى أتكلم عن نفسى، وعندما أتكلم عن نفسى فإننى أتكلم عنها».

 فى فقرة طويلة من أجمل فقرات الكتاب وأكثرها شاعرية وخصوبة يقول برهان باموق «باموق بالتركية تعنى: قطن».
أتحدث عن المساء الذى يحل باكراً، وعن الآباء العائدين إلى بيوتهم حاملين «أكياساً تحت مصابيح أزقة الأحياء الخلفية.


 أتحدث عن باعة الكتب المسنين المنتظرين زبوناً طوال اليوم وهم يرتجفون برداً فى دكاكينهم إثر أزمة اقتصادية، عن الحلاقين المشتكين من قلة حلاقة الناس ذقونهم، عن البحارة الذين يحملون دلاء وهم يغسلون سفن البسفور المربوطة إلى أرصفة فارغة. عن الأولاد الذين يلعبون كرة القدم فى الطرقات الضيقة المبلطة بين السيارات، عن المقاهى المملوءة بالعاطلين عن العمل، عن القوادين الذين يزرعون الأرصفة فى أكبر ساحات المدينة فى أمسيات الصيف على أمل إيجاد سائح سكران، عن المسنين المعتمرين طاقيات يبيعون كتباً دينية صغيرة وسبحات وزيوت الحجاج فى ساحات الجوامع، عن أحصنة التوازن الخاوية، وعن زمامير السفن وسط الضباب.


عن «حزن الخرابات»، عن الازدواجية والكذب، عن الثقافة الميتة والإمبراطورية الغارقة، عن الثلج والطين.

.. لا يمكن للحياة أن تكون بهذا السوء، مهما يكن: يمكن للإنسان فى النهاية أن يخرج ليمشى على شاطئ البسفور!».

               ■

لم ينشأ أورهان فى بيت متدين.
 كان يفكر بأن الله يهتم فقط بالفقراء، وبأن الإسلام السياسى بعيد عن الدين، وأن الخطر هو من المتشددين الذين يستعملون الدين لتهديد الآخرين.


كان يرى وهو غارق فى مكتبة الجامعة الأمريكية يقرأ كل ما يقع تحت يده: أن العالم مكان كبير جداً، ومن الصعب اللحاق به. وهو غارق فى ألم وحزن التاريخ الذى فقده والفقر الذى يعيشه بالمقارنة بأوروبا المجاورة. فى ذلك الوقت كان يرسم باستمرار وكان الحلم المسيطر هو أن يكون رساماً، ليس من هؤلاء الذين يرسمون المناظر الطبيعية والكروت السياحية، ولكنه راح إلى المنمنمات الإيرانية القديمة وإلى نقوش الحضارة الإسلامية، كما راح إلى رسامى القرن السابع عشر «أنطونيو ميلنغ 1763- 1831» الرسام الذى التحق ببلاط السلاطين ورسم إسطنبول القديمة فى لوحات رائعة.


بعد تجربة غرام قصيرة انتهت بالفشل لأنه لا مستقبل معتبراً لرسام فى المجتمع التركى، قرر احتراف الكتابة سنة 1974،
 استمر منذ ذلك الحين يعمل:
 أولاً صدرت: رواية «جودت بك وأولاده» - الرواية السادسة: اسمى أحمر حملته إلى آفاق بعيدة فقد أكدت خصوصية وتميز موضوعه وأسلوبه.

                ■

رغم مواقفه الحادة من تطهير العرق التركى وما يعرف بمذابح الأرمن، ومواقفه من الحرب ضد حزب العمال الكردستانى فإنه يعلن دائماً أنه لا يشتغل بالسياسة.

وأن لا عمل له سوى كتابة الروايات وأن «كتبه هى حياته».
ولكنه يقول: إنه يكتب لأنه غاضب.. غاضب منكم.. وحزين.

الكتاب: إسطنبول «الذكريات والمدينة»
المؤلف: أورهان باموق
ترجمة: عبدالقادر عبداللى
الناشر: المدى:2007 دمشق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 30 مارس 2013

السبت، 23 مارس 2013

كن هناك.. حتى أقول لك


  
                    
          
يتناول الكتاب فترة صعبة فى تاريخ مصر. فترة دخول وانتشار المسيحية:
 من القرن الأول الميلادى إلى الخامس فترة قليلة المصادر التاريخية، مرتبكة، تختلط فيها الأفكار والأساطير والفلسفات بالحقائق الاجتماعية والاقتصادية.


تمثل زيارة السيد المسيح الطفل والعائلة المقدسة إلى مصر ملمحاً أساسياً فى هذه الفترة، وهى تمثل اهتماماً رئيسياً بالنسبة للكنيسة الشرقية والمصرية بصفة خاصة، فى حين أن هذه الزيارة تشغل مكاناً ثانوياً- أو غير موجود- بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية.


ما ورد فى «إنجيل متى» عن هذه الزيارة يقول: «وبعد أن انصرفوا إذا ملاك الرب قد ظهر ليوسف فى حلم قائلاً: قم وخذ الصبى وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك، لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبى ليهلكه فقام وأخذ الصبى وأمه ليلاً وانصرف إلى مصر، وكان هناك إلى وفاة هيرودس».


«فلما مات هيرودس إذا ملاك الرب قد ظهر فى حلم يوسف فى مصر قائلاً:
 قم وخذ الصبى وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل لأنه قد مات الذين كانوا يطلبون نفس الصبى. فقام وأخذ الصبى وأمه وجاء إلى أرض إسرائيل» «متى2: 19-21».

المصدر الوحيد هو إنجيل متى والمواقع المشار إلى أن العائلة المقدسة قد نزلت بها حوالى 22 موقعاً «من رفح.. إلى سخا.. إلى المعادى وجبل الطير- دير المحرق وجبل درنكة» إلا أن الدليل الأثرى الوحيد موجود فى دير أبى حنس «تل أتريب قرب سوهاج»، ومن المعروف أن فى هذه الفترة لم يكن فى مصر فرعون. لأن مصر كانت ولاية رومانية، ومقر الحكم لم يكن فى منف، بل كان فى الإسكندرية.


ويناقش الكتاب بتوسع هذه الزيارة المقدسة فى مراجعها الدينية والتاريخية، وما نسج حولها من أساطير ليقول:
«إن مضمون تلك الموضوعات المتصلة بزيارة العائلة المقدسة إلى مصر، يمكن أن يندرج فى ركب التراث المصرى، الذى يعيد للأذهان أسطورة حورس الطفل المخلص، ويعبر فى الوقت نفسه عن أصالة مسيحية محلية فى مصر، وهو طابع تميز به المصريون عموماً فى إعطاء سند أسطورى خيالى مفتوح قابل للتغيير والتعديل عبر العصور يتجلى، وينتشر تحت ظل الضغوط السياسية أو الاجتماعية المتلاحقة على المصريين والمسيحيين سواء تحت الحكم الرومانى- البيزنطى أو تحت الحكم الإسلامى بعد الفتح العربى».


يرصد الكتاب بتفاصيل تاريخية دقيقة أن ما كان يحدث فى مصر هو محاولة لتمصير فكر جديد، تمهيداً لطرحه شعبياً على المصريين فى ظل ظروف خاصة مثل الاحتلال والفقر والمعاناة الدينية والاجتماعية، وأن الصراع الذى كان قائماً بين الوثنية واليهودية والفنوسية «نظرية فى المعرفة مستمدة من الفلسفة اليونانية» كل ذلك جعل الشعب يرى فى الفكر الدينى المسيحى خلاصاً.


الاضطهاد الرومانى الذى كان من الطبيعى أن يقع على الفقراء دفع إلى موجات عالية من الرغبة فى الاستشهاد «عصر الشهداء»، كما أن المسيحية عرفت فى مصر: الرهبنة، خروجاً من صراعات المدينة فى الإسكندرية، وهروباً إلى الصحراء فى شكل فردى أو فى شكل جماعى.


هوس الاستشهاد، وتأصيل فكر ونظام الرهبنة كرد فعل لموجات الاضطهاد أسهم بصورة كبيرة فى تقريب وجهات النظر للمصريين من أجل قبول المسيحية ليس كديانة وافدة من فلسطين أجنبية الطابع، وليس كديانة متطورة من الناموس اليهودى، بل هى كيان دينى صنع فى مصر آنذاك وانتشر.


لعل أكثر ما يدل على التحولات الفكرية ومحاولات التطبيع، والتوطين هو ذلك الاكتشاف المتأخر الذى يعرف بـ«برديات نجع حمادى» ففى عام 1945 وبالقرب من قرية نجع حمادى اكتشف القروى محمد السمان الذى كان يبحث عن سماد لحقله جرة خزفية. فقام بكسر الجرة فوجد بداخلها أكثر من 12 مخطوط هى ما عرف لاحقاً بمخطوطات نجع حمادى.


 هذه المخطوطات تحتوى الأناجيل والكتابات الفنوسية، الأمر الذى يكشف عن أنواع وأعماق الصراع الفكرى الذى كان قائماً.
لعل من أهم أبطال الكنيسة أبطال الفكر المصرى- شخصية أسطورية بالغة الأهمية فى التاريخ الدينى والاجتماعى وهى: القديس أتناسيوس الرسولى،فهو إلى جانب أنه المفكر الدينى الذى صاغ «الإيمان النيقى» نسبة إلى اجتماع الكرادلة فى مجمع نيقية لكى يجرد المسيحية المصرية ويصل بها إلى مفهوم «... نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق مساوٍ للأب فى الجوهر الذى كل شىء به كان إلى جانب هذا الانتصار الدينى والفكرى الذى حققه أتناسيوس الرسولى، وأنه كان بطلا من أبطال المقاومة للنفوذ والسيطرة الرومانية بحيث أن الإمبراطور الرومانى نفاه أربع مرات وظل مطارداً مختبئاً فى وسط بيوت الفلاحين وقوارب الصيادين أكثر من عشر سنوات، وشعب الإسكندرية المسيحى متمسك به لا يقبل أن يحل أحد محله على كرسى البابوية، كما أن أتناسيوس قد ترك وصية لمن يخلفه بعد وفاته مليئة بالفلسفة الدينية الصافية وبحب خالص لمصر وشعبها.
إننى أعتقد أن الكنيسة المصرية، مطلوب منها أن تخرج هذه الشخصية الرائعة من جدران الكنيسة، ومن صفحات الكتب الدينية لكى تقدمها للناس كبطل من أبطال المقاومة، ومن الباحثين الأصلاء عن جوهر الروح المصرية.


الكتاب:المصريون والمسيحية، التاريخ وثقافة الصراع
المؤلف: أ.د. محمد عبدالفتاح سليمان
الناشر: آفاق للنشر والتوزيع
الكويت 2012- القاهرة 2013

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 23 مارس 2013