الثلاثاء، 23 فبراير 2016

علاء الديب.. عصير الصدق!

   



 رشاد كامل   

ما أصعب الكتابة عن الأستاذ الكبير والصديق الرائع «عمو علاء الديب» كما كنت أناديه طوال أربعين سنة مضت.. ما أصعب الكتابة عن مبدع حقيقى وكاتب صادق، وضمير حى لا يعرف النفاق والمداهنة والموالسة.


كتب المقال والتحقيق الصحفى والقصة القصيرة والرواية القصيرة وسيرته الذاتية البديعة و«قفة قبل المنحدر»، أبدع ذلك كله بقلم جسور، شجاع، بليغ، بسيط، عميق، دون سفسطة، أو فذلكة أو اللف والدوران حول الكلام والمعانى.
لا يوجد قارئ أو مثقف مصرى أو عربى ينسى له بابه الشهير «عصير الكتب» الذى يكتبه أسبوعيًا فى الصفحة الأخيرة من مجلة «صباح الخير».

فى هذا الباب كتب الأستاذ «علاء» وقدم مئات الأسماء فى عالم الكتابة سواء كانت مشهورة أو مغمورة، لم يكن يهمه اسم صاحب العمل بل قيمة العمل نفسه!!
وكان من حظى أن تناول فى بابه كتابين لى: «لغز السادات وضمير وطن»، فجاءت كلماته بمثابة شهادة ميلاد أعتز بها!
ولم أكن وحدى الذى حظى بمحبته ورعايته، كل قلم شاب أو شابة يعترف بالفضل له، وكان يستحق اللقب الذى أطلقوه عليه وهو «القديس النزيه».

يقول الأستاذ «علاء الديب»:
«محظوظ أنا جدًا، لم تؤهلنى درجات ليسانس الحقوق لأن التحق بسلك النيابة، الفارق كما يقول دائمًا نصف درجة، لكننى دخلت إلى بلاط صاحبة الجلالة، ودخلت إلى مجلة «صباح الخير» عندما كان يرأس تحريرها ساحر الشطرنج والرواية «فتحى غانم» صديق شقيق «بدر الديب» وهو بالنسبة لى شقيق وحبيب ومعلم وقدوة، وما شئت من صفات عاطفية وعقلية وأخلاقية كانت ومازالت كما بدأت حية».

• بدايتى
كنت قد كتبت قصة أو قصتين لم يقرأهما أحد سوى صديقى «فاروق الشريف»، ولكن الكاتب الكبير- فتحى غانم- عاملنى كأننى شخص مهم، كتبت بابًا صغيرًا متناثرًا فى صفحات المجلة تحت عنوان «جديد» أقدم فيه كتبًا وتجارب فنية أخذها من المجلات الأجنبية، وكتبت عن جرائم من الصعيد فى صورة شعر وقصص قصيرة، ورسم لى الفنان «جمال كامل» موضوعًا عن قطار الصعيد، وموضوعًا عن الألغام فى الصحراء الغربية رسمه الفنان آدم حنين.

دخلت إلى عالم مخصوص من الصحافة يقدر الفن ويفهم تقاليد المهنة وسط تيارات الانتهازية والسطحية.. وما هو أنكى!
ولأننى محظوظ ومختلف الطموح فقد وجدت مكانًا منعزلاً أكتب فيه تحت عنوان «عصير الكتب»، أقترح كتبًا للقراءة وأعلق عليها بكلمة أو بكلمتين، ومع ذلك فقد طردتنى الحكومة من العمل فى بلاط صاحبة الجلالة مرتين بلا اتهام ولا إدانة ولا حقوق أو تعويض.

كانت هزيمة يونيو قد علمتنى بشكل واضح الفرق بين الأنظمة والأوطان، وجاءت تجارب الطرد والإعادة بلا سبب وبلا اعتذار لكى تعلمنى أن المؤسسات عندنا تفقد معناها وتقاليدها ولا يبقى منها إلا الرسم والشكل الخارجى!!
وبصراحته المطلقة يكتب:
«أحاول باستمرار أن أكتب منذ أكثر من 40 سنة، لم أكتب إلا عن نفسى فى محاولة للفهم أو التفسير أو للقبول، لهذا الموضوع الوحيد- الذى هو ذاتى- دائرة أكبر يتحرك فيها هى «الطبقة المتوسطة» الطبقة اللغز فى تاريخنا، أعيش اللغز وأدعى معرفته.

هذه الطبقة: صاحبة أكبر إنجازات وأفظع جرائم، صاحبة الحل والربط، قليلة الحيلة، صاحبة المثل العليا والقيم المزيفة، الخائنة النبيلة.. صانعة العدسات الوحيدة التى أرى بها الواقع والمصير».

• اعتراف
ويعترف: رغم كل ما حل بالطبقة المتوسطة من مآسى فهى الوحيدة التى تملك القدرة على التواصل وعلى التعبير، لكنها هى نفسها مضطربة متناقضة تعطى إشارات متباينة لا تزيد حياة الناس إلا ارتباكًا، على من يبحث عن هوية لمصر أو عن فن لمصر أن يبحث عنه خارج نطاق الطبقة المتوسطة بكل الأشكال التى أخذتها سابقًا وحتى الآن.. الكذب والنفاق أبشع خصائص الطبقة المتوسطة!

وربما يعيب البعض على الأستاذ «علاء الديب» إنه شديد البخل فى الكتابة، فقط ست روايات قصيرة هى: «القاهرة» و«زهر الليمون» و«أيام وردية» و«أطفال بلا دموع» و«قمر على المستنقع» و«عيون البنفسج».

وردًا على ذلك يقول: «الكتابة صعبة وحالة نادرة، الكتابة بطبيعتها أمر نادر الحدوث، الحبر المسكوب والكلام المرسل ليس كتابة، الكتابة إضافة، وخلق شىء جديد».

• أسئلة
وما أكثر الأسئلة الوجودية التى نجحت على «ألسنة» أبطال روايات الأستاذ «علاء الديب» فيتساءل أحدهم مثلاً:
- لماذا انتصر الانتهازيون والضياع فى كل مكان، لماذا انزوى كل وجه نبيل وكل قيمة شريفة؟!
فى سنواته الأخيرة اعتكف الأستاذ «علاء الديب» ببيته بعيدًا عن صخب المدينة وزيف النخبجية وصراخها وصوتها الزاعق وكتاباتها الماسخة.

ما أكثر الذكريات والحكايات والحواديت التى كنا نسترجعها فى حواراتنا التليفونية التى تحدث بين وقت وآخر، كانت ضحكته الصافية المجلجلة تأتى بعد كل حكاية أو موقف نتذكره.

ولم أضبطه يومًا يغتاب شخصاً ما أو يقلل منه، لم أسمعه يومًا يشكو الظروف الصعبة وقسوة الأيام، وصعود من لا يستحقون.

كان سعيدًا وراضيًا وزاهدًا، كتب بما كان يعتقد أنه الصواب، حتى الذين اختلف معهم فى الرأى والفكر بسبب مواقف السياسة وتقلباتهم لم تتأثر محبته لهم بل كان يلتمس لهم العذر.
يقول على لسان أحد أبطال روايته «زهر الليمون»: لم تكن أفكارى ملابس أرتديها، لم تكن بدلة نضال».

• هو والنخبجية
فى روايته البدعية «أطفال بلا دموع» وصف الأستاذ «علاء الديب» بقلمه الرشيق بعض ملامح بطل الرواية «د. منير عبدالحميد فكار» أستاذ الأدب العربى ومشواره ومسيرته، كأنه يتحدث عن عشرات النماذج من «نخبجية» تملأ الدنيا بكلام ومقالات وقصص دون أن يحس بهم أحد، لكنها تحصد المال والجاه والجوائز!

أرى الكلام باهتًا مكدسًا كأنه لا يعنى أحدًا، كما أفاجأ كل مرة بأن أحدًا لا يقرؤه ولا يحدثنى عنه ولا يهتم به كأنه قد نشر فى مقبرة لامعة، ليس مهمًا أن تقول شيئًا جديدًا أو لامعًا، ولكن المهم أن تقول كلامًا فخم المظهر ليس فيه فكر عميق أو اقتراح بالتفكير.
أفكار من هنا ومن هناك، اهتم جدًا بالبداية ثم الخاتمة، أما باقى الكلام فهو «مضغ لبان»، أو «كلام ساكت» كما يقول أهل السودان.

• الصدق مع الذات
صارت كتابة هذه المقالات حرفة مستقلة وصرت أتقنها كأنها فتح جديد أو إضافة، بينما هى فى حقيقتها كلام ممضوع رُش على وجهه بعض السكر ولا يقول شيئًا!! وأعود بعد أن أفزغ من المقالة لكى أخفى الاقتباسات الطويلة وأنسب القصير منها إلى نفسى من باب التسهيل على القارئ وعدم التعقيد، ثم أضع فى النهاية أسماء مراجعى الحقيقية وسط مراجع كبيرة أعرفها، وإن لم أكن قد استعملتها!!

النموذج الذى رصده أستاذنا يكاد يكون ظاهرة لا تخفى على أحد!

لا ينتهى الكلام عن علاء الديب عصير الصدق فى حياتنا الأدبية والصحفية.. رحمه الله. 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى مجلة صباح الخير بتاريخ 23 فبراير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق