السبت، 20 فبراير 2016

رحيل علاء الديب.. عاصٍر الكتب









 وائل عبدالفتاح


عنده نوع خاص من اللذة.
لذة قديمة لكنها عصية على التخزين.
كأنها «روح» أو «خلاصة» أو «مذاق..» تلك اللذات المركزة التي تجدها في الجبن المعتق... أو «ماء الورد..» تنتمي إلى المذاق الاصلي.. لكنها قوية.. لاذعة... وغالبا لا تنسى إذا مررت بتجربتها ولو مرة واحدة.

شيء ما حسي، في رواياته برغم تقشفها، وفي صوته على التلفون، برغم وهن الزمن، وفي بيته وعد دائم:«تعالى.. وستجد الجبنة البيضاء والعيش الناشف في انتظارك».

هذه الملذات المعتقة، لعبة علاء الديب، وعجينته لمواجهة إقامته في زمن يتغير، وبمشاعر «ميت» بعد هزيمة يونيو، وانتصار مغامر على المنحدر.

وبينما هو ينازع الاجهزة (قبل أن تتوقف قدرته على النزاع مساء الخميس 18 شباط 2016)
 كتبت «سارة» على حسابه في تويتر عبارة من حوارات روايته: «أطفال بلا دموع».. قال فيها«الانتصار والهزيمة معا، متلازمان، وقد عذبني واقلقني ثم أراحني أن افهم ذلك..»


سارة (ابنته) تعرف أن هذه العبارات هي «زهرة الزهرة» بالنسبة إلى علاء الديب، أو هي عجينته تلك التي تجعله حاضرا في زمن غريب عنه، ليس كأيقونة زمنية، او رمز ادبي، شيء اكثر من ذلك غموضا ومرحا.

كان علاء ينازع الاجهزة (لحظة كتابتي...) ويقاوم الآلام والعلاج معا، ذهب به نقص الصوديوم بعيدا عن الوعي، يفتح عينه بصعوبة، يتسلل الضوء الخفيف اليه ليوقظ الشغف، الذي يربيه بجواره على المقعد الأثير، شغف غير مرئي، ينتمي الى عالم ينسحب، يكفي لشحنة مرح لا يعرف سرها «كورال المجاريح» الذي يغني أغاني الهجر والحرمان والفقد بسعادة عصية على التفسير.


يعيش علاء الديب في بيت ما زالت على بابه لافتة تحمل اسم الأب: «حب الله الديب». ابن ضاحية هو، ممزق بينها وبين المدينة، هارب ومقيم. مترفع وشغوف. ناقد ومحب.

البيت لطيف لا تبدو عليه «بهرجة» الثروات المفاجئة... مريح، يجمع بين معمار الفيلا القديمة والبيت الريفي الواسع... في الحديقة بعض الأشجار زرعها هو بيديه. وكلب «جيرمين شيبر» يعيش اميرا وحيدا في انتظار اللعب الدائم... وفي غرفته بنورها الطبيعي وتفاصيلها الجذابة عالم يكاد يعتزل إيقاع المدينة الصاخب على الرغم من أن علاء الديب كان جزءاً من معاركها الدائمة عبر العمل الصحافي في مجلة «صباح الخير» الذي اكتشف فيها عبر بابه الأسبوعي «عصير الكتب» عشرات الكتّاب والأدباء منذ 1968 وحتى الآن.

علاء الديب يبدو مثل حكيم قادم من زمن مختلف، يخاف من البنايات الأميركية في القاهرة، لكنه يخفي غربته بنوبات من الحنين والغضب. بينهما يكسر حكمته. هو نفسه. او يعيش في كبسولة تحافظ على ثباته الرومانسي.. درجة مستقرة من انسجام الستينيات، ويقيس العالم عليها.. تمنحه بعض الثبات، وتحافظ على وشائج الصلات بالعالم بعد الخروج من الكبسولة.. حيث يمكنه «نقد الواقع» بدون الانفصال عنه.. او يعدك بجلسة تبادل اكتشافات، يغادر فيها عمره الفعلي ليرى ما لم يره الحكماء الكلاسيكيون، ويجعلهم مكتفين بمعارفهم فخورين بلحظتهم الثابتة.
يحكي بفخر عن هروبه من كل صراعات حول المال أو المواقع.. كما لم يحب «الشلل الثقافية» ولا جلسات الاستعراض على مقاهي المثقفين.. ما زال يؤمن بأن الأدب يمكن أن يسرّب شعاع نور للمحبطين والمتعبين...

وعلى الرغم من أنه عمل بين الأدب والصحافة واقترب من التنظيمات السياسية بداية من الأخوان المسلمين وحتى الأحزاب الشيوعية السرية مروراً طبعاً بالتنظيم الطليعي.

 إلا أنه لم يدخل في «كومبينات» المصالح التي تحمي أصحابها الى الأبد.
وهذا سر محبة علاء الديب وسر عذابه في الوقت نفسه.
عالم يعلن عن رغبة كامنة في «اعتزال» ايقاع المدينة، الصاخب. يلاحقه شعور آخر بالذوبان في الجسد الكبير للمدينة ذاتها، عبر شبكة مختارة من اصدقاء، واحباء، لهم في بيت علاء وعصمت مكان.


علاء الديب شغوف بالجسد الكبير، ليس فقط عبر الصحافة في مجلة «صباح الخير»، او عبر اهتمامه بالسياسة مع الاخوان المسلمين في صباه وتنظيمات اليسار في الشباب.
شغف ابن الضواحي، بالمدينة، كان نوعا من تريض الذات في ملاعب بعيدة، وفي هذه المسافة بين العزلة والذوبان، كان الخط الذي ربط علاء الديب بكتابة الروايات والقصص وهي جميعا محاولات لملء الفجوات بين حواراته الداخلية القلقة وبين صدامه مع الواقع العنيف الصاخب.



في الزيارة الاولى لمحني من شرفة حجرته واكتشف انني تائه.. فوجئت بصوته الاليف يخرج من بين الاشجار، والتفت لأجده جالسا في شرفة حجرته، وضحك عندما اعترفت له انني اربط بينه وبين هذا البيت... بصورته في خيالي هي رجل يجلس في شرفته وحيدا يراقب العالم المتسرب وراء اوراق الشجر.. فقال لي: «كان وقتها (وقت زيارتي تلك) السور قصيرا قبل أن نقرر تعليته بعد تغيير الظروف في المعادي..»

وحكى: «أنا ولدت في هذا البيت والصورة التي لا تفارقني هي اننا كنا نخرج بالحصير والكليم في مثل هذا الوقت من الليل (الساعة تجاوزت العاشرة) لنجلس في الفضاء الواسع... فقد كانت الحقول تحيطنا من كل مكان.

 الشيء الهيكلي الذي طالما حلمت به هو ارتباط المعادي بالطبقة المتوسطة، وارتباط برغبة الصعود، انا ولدت عام 1944 وسط هذه المحنة.. على مرمى يدك في «معادي السرايات».. الارستقراطية الفخمة جدا والباشوات والخواجات واليهود..
وعلى مرمى يدك الثانية.. الشعب الحافي والمكوجية وماسحو الاحذية والسوقة في «المعادي البلد».. ونحن اتينا كطبقة متوسطة بينهما.. لا ننتمي لأي منهما... وأبي متحصن بقطعة الارض التي اشتراها. وقطع علاقته بالريف وأهله...»


الاب «حب الله الديب» باع القيراطين وربع البيت في قريته القريبة من ايتاي البارود لكي يشتري قطعة الارض من شركة «اراضي الدلتا للمعادي» وهي شركة انكليزية تبيع اراضي البناء بالتقسيط المريح ومعها قرض للبناء وتسهيلات حقيقية..
وهذا هو السبب الذي دفع الطبقة المتوسطة الى غزو المعادي.

حب الله «هو احد غزاة المعادي مع اوائل الحرب العالمية الثانية في عام 1939.. وجد هناك مكاناً مناسبا لتأسيس أسرة جديدة تنتمي الى الطبقة المتوسطة.. وتقطع علاقتها بالفلاحين:
 موظف حكومي يحب عمله ويقدسه. تربية الاستعمار.. كان يعمل في الخاصة الملكية عند الملك فاروق.. ثم نقل الى وظيفة أخرى حتى وصل الى قمة مجده وهو أنه كان مدير الحدائق والبساتين بالقاهرة.

ومن امجاده ايضا انه اشترك مع الطليان في تصميم وتنفيذ ممرات حديقة الحيوان المشغولة (بالزلط الملون) وهناك ايضا حديقة الاندلس بجوار كوبري قصر النيل.. في الوقت نفسه عمل ايضا مع طاهر بك اللوزي من عائلة مشهورة بتجارة الحرير.
 كان عنده قصر فخم جدا تحييه اقفاص العصافير الملونة وحوله حديقة كبيرة جدا..

طاهر بك كان يغير كل بضعة اعوام، تصميم الحديقة.. وابي يشترك معه في التصميم وفي معرض الزهور السنوي.. هذه كانت مفاخر ابي الوظيفية».

لم يحدثني علاء الديب ابدا عن امه.. تعجبت بعد ساعات طويلة من الحوار لغيابها الكبير.

اسمها «حياة النفوس» (ضحكنا على طرافة اسم الاب والام). ابي وضعها في الظل. طول عمره كان دائما هو الموجود.. وهو صاحب العلاقة.. حتى انني ارتبطت بأبي بعلاقة تشبه عقدة اوديب لكنها هذه المرة مع ابي.. وأمي كانت طيبة تركية.. اي انها كانت اعلى منه طبقيا بعض الشيء.. ويبدو أنه كان يريد تهذيب هذا الفارق ويحجمه.. ألم أقل لك إنني طوال عمري في قلب صراع الطبقات..؟!»

عندما وصل «حب الله» الى سن المعاش.. مات.
يستخدم علاء الديب تعبيرات لماحة لوصف حياته.
قبل سنوات اصدر كتابا أسماه: «وقفة قبل المنحدر» كتب فيه انطباعات عن محطات في حياته كمثقف مصري كان يريد تغيير العالم..

وبين سطوره حكاية قاسية، تكشف كيف يحتفظ الرجل الهادئ بجروحه السرية.. يحكي علاء:
 «سألني شاب عزيز يصدق كلماتي ويتأمل فيها:
ماذا فعلت في 67 وماذا فعلت بك؟
 قلت دون تدبر.

قتلتني.. من يومها وأنا ميت. لم أعش ـ بعدها ـ يوما حقيقياً كاملاً.
بلع ريقه وهو يتأملني في ذهول .. ومضى في حال سبيله».
هذا نوع مخيف من الغربة لا ينفصل صاحبه عن الواقع المر لكنه ينسحب الى حجرته الخاصة لكي يتأمل ما يحدث... يبتعد.. هكذا اكتفى علاء الديب بمقالته الاسبوعية «عصير الكتب» في «صباح الخير» منذ 1969 التي قدم فيها مجموعة كبيرة من الكتب والكتاب.. وبين سنة وأخرى يصدر رواية يرسم عبرها بورتريهًا لشخصية تعيش غربتها في المدينه المرعبة: القاهرة.


قلت له: ازعجني وصفك بانك مت.. بعد يونيو 67
قال في مصاحبة ابتسامة هادئة:
«...عصمت (زوجته) ايضا اعترضت وكادت تطلب الطلاق، وقالت كيف أعيش مع رجل ميت؟!..»
السياسة هي احد ابواب الخروج الى العالم.


قبلها كان التمثيل والكاريزما اللافتة للنظر.. او «بدر الديب» معلمي الأول... علاقتي بشقيقي الاكبر بدر الديب فتحت أمامي عالما كبيراً.. كان يعلمني الفلسفة.. ويقرأ معي شعر ابي العلاء المعري والمتنبي و «ت.اس.اليوت» ويدلني كيف احصل على المعرفة وكيف اؤسس لطريقتي المستقلة في التفكير..

جلست بجانبه وهو يكتب المقدمة المهمة لديوان صلاح
عبد الصبور «الناس في بلادي». كان عضواً في جماعة للكتاب والفنانين يجتمعون في بيتنا.. هناك رأيتهم جميعا وانا طفل:
توفيق حنا، محمود العالم.. يوسف الشاروني، مصطفى سويف، يوسف الحطاب، وكان اقربهم الى قلبي عباس أحمد صاحب اجمل روايات الادب المصري الحديث «البلد»...على مستوى ثان... البلاغة التي تعلمتها في البيت جعلتني الخطيب الاول في المناسبات المدرسية؛ ألقيت الشعر.. بل وقمت بالتمثيل.. وخاصة ادوار نجيب الريحاني في (30 يوما في السجن)..»


على هامش مشوار المدرسة كان الصراع الطبقي عنيفا بين «أولاد السرايات» و «اولاد البلد» وبينهما وجد علاء الديب ملجأ شخصياً في مقر شعبة الاخوان المسلمين..

«كان لهم نشاط مختلف وسط التناقض الصعب.. ناس ملمومة على بعض وفق افكار الاخوة.. بعيدا عن الاختيار بين جو.. «المايعين» من اولاد الباشاوات في نادي المعادي. وجو «الصيع» من اولاد البلد في المقاهي... ومغامرات السرقة والتنطيط..». افكار الاخوان.. كانت مغرية في تلك اللحظة:
عمر علاء الديب وقتها بين 14 الى 15 عاما.. ومصر على وشك الزلزال الكبير في يوليو 1952.

علاء عرف في كلية الحقوق تنظيمات الشيوعيين وبالتحديد: «الحزب الشيوعي المصري». كانت الشيوعية والاشتراكية مغرية أكثر من الاخوان.. بعد قليل من الوعي.. لأنها ببساطة تعد بحل التناقضات الطبقية.. ويتساوى الناس.. يحبون بعضهم.. يتعلمون.. ولا احد يستغل الآخر.. ولا يتعالى شخص من موقعه المالي.. اعتقد ان هذا هو الحلم الاساسي الذي سيبقى مهما دمرت الاشتراكية وانهار الاتحاد السوفياتي...»

المشكلة اكبر حتى من ضجر علاء الديب من الالتزام التنظيمي.. فقد ترك التنظيم اليساري مثلما ترك يوتوبيا الاسلاميين.. انه لم يعثر على «الجنة» التي يسودها العدل بين البشر... انها على ما يبدو لعنه الطبقة المتوسطة (هكذا يحب ان ينطقها مختلفاً مع اللفظ المتعارف عليه الطبقة الوسطى، يقول علاء الديب:
«اذا نظرت الى الناس التي تسكن في المعادي البلد.. ستشعر فورا انك اقلية.. وهذا ما يخلق الشعور بالعزلة.

 انتماؤك للطبقة المتوسطة هو الذي يصنع العزلة... انك لست ابن الارض الحقيقية.. وعندما ترى الفلاحين، يعيشون باتساق مع ارضهم.. تشعر انه هكذا يجب ان يعيش البشر وانك محروم من الحياة...»

ـ «لكن هذه رومانتيكية يا عم علاء؟!»
ـ «لازم يبقى الواحد رومانتيكي.. وإما سيصبح إبن كلب»
هذه نظرية كاملة اذن: لا بد ان «تكون رومانتيكيا ومثاليا وتتمسك بالاشياء العبيطة وتحب من غير أمل..»

يريد علاء الديب الكتابة «خالصة.. صافية» كما تعلم اول دروسها في الصحافة. يحكي: «بعد تخرجي في الحقوق لم احصل على درجات كافية للالتحاق بالنيابة.. كنت عرفت الطريق الى الصحافة والترجمة مرة عبر الوكالات الصحافية التي كانت تنشرها سفارات الدول الاشتراكية... والمرة الثانية عبر ابراهيم منصور.. لم تكن علاقتي به مجرد علاقة العمل في تنظيم شيوعي واحد.. ولكنها كانت علاقة ثقافية.. اشتركنا في ترجمة قصة لهمنغواي.. وكنت وقتها بدأت انسحابي من الدنيا..

 والاقامة تقريبا في مكتبة جامعة القاهرة... في هذه الفترة عرفت أن الادب هو بديل السياسة...»

يبتسم علاء الديب ابتسامة من نوع ينتهي عادة بنظرة شاردة «يظهر ان الادب بديل لكل شيء..».

ويكمل «أشعر ان الاحلام والافكار المثالية يمكن ان تعيشها بشكل فعلي مع قراءة الادب.. يتضاعف هذا التحقق بالكتابة.
لا اعرف هل هو هروب من المواجهة؟
 ام الوصول على الورق الى ما لا يمكن الوصول اليه في الحقيقة..؟

 اعتقد ان الادب بديل لانه المعايشة الممكنة الوحيدة لدهشتك امام العالم.. العالم يظل يدهشك طوال ساعات لا تستطيع فهمه.. الادب هو محاولة لحل هذه الالغاز التي يضعها على الورق في حالة تحقق.. على الورق يحتفظ كل شيء بطزاجته».

يسرح بعيدا اكثر: «.. لا ادري... انا بين اللحظة واللحظة اسقط في هوة مخيفة. الادب وحده هو الذي يلطم اللحظات بعضها ببعض.. الغريب انه قبل مرحلة المكتبة عرفت الرغبة في الكتابة؛ اثناء ارتباطي بالشيوعيين كانت مجرد كتابة في اطار الدور الاجتماعي الذي لا بد من ان تؤديه.. هذا المفهوم للادب...
لم يتغير برغم ان علاقتي بالشيوعيين وصلت الي مرحلة الفتور.. لم يتغير موقفي من ان للادب دورا اجتماعيا... وغير هذا فهو العبث المطلق..».

فتحي غانم كان «المدخل المغلق» الى عالم الصحافة.
هكذا يحكي علاء الديب: «فتحي صديق شقيقي بدر وذهبت إليه في عام 1959 عندما كان رئيساً لتحرير «صباح الخير»، اتفقت معه على تحرير باب اسمه (جديد) اعرض فيه ما تذكرة الصحف الاجنبية عن الافكار والفنون والمخترعات الجديدة... اكتشف فتحي غانم بعد فترة انني لا اترجم بل اكتب.. وبدأ يهتم بما اكتب، مما جعلني لاول مرة اثق في قدرتي على كتابة كلام يقرأ.. «صباح الخير» كانت وقتها شبابية، وحرة.. وليست مؤسسية.. وظلت تتمتع ببقايا اشتراكية.. وهناك ايضا إحسان عبد القدوس واحمد بهاء الدين.

من احسان بدأ خيط جديد في التعرف على مدرسة ادباء روز اليوسف.. كانت قراءة روايات احسان محرمة في الاوساط الثقافية.. بالضبط مثل اغاني ام كلثوم.. وهذا ما جعل للقاء الاول بينهما حكاية خاصة..
يحكي علاء: «...استدعاني احسان عبد القدوس وكان هو رئيسي الكبير.. واستدعاء محرر الى مكتبه حكاية كبيرة.. لأنها تشير الى تميز.

 المهم بعدما أبدى إعجابه بما أكتب قال لي:
عايز اقولك حاجة ومش عارف هاتفهمها ازاي.. انا لا احب النقاد اللي هنا.. وهم ما بيحبونيش.. وفيه مجلة اميركية بتاعة جامعة، تريد مقالا عني، ثم سألني فجأة.. هل تقرأ رواياتي:
 قلت له.. مش كلها.. وفوجئت بأنه طلب مني ان اكتب المقال وطلب من سكرتيرته أن تجهز لي كل كتبه..»
كتب علاء الديب المقال عن «احسان عبد القدوس بين الصحافة والادب» مكتشفا الطريق الصعب للربط بينهما.. والجهاد الشاق متعدد الاتجاهات لتطويع الادب...

وكما يكمل علاء: «هذه كانت فكرة المقال الذي قلت فيه ان الرجل لديه رؤية ادبية محترمة.. وهذا في الوقت نفسه يحتاج جهدا كبيرا لكي يجعل تلك المادة التي يكتبها مقروءة ومفهومة لقارئ الصحيفة».

اضحك وانا اسأله: «ألم يكن في المسألة بعض النفاق الوظيفي؟!»
ويرد بابتسامة أكبر:
 «طبعا.. أنا وقتها اكتب عن رئيسي الكبير.. ولا أريد ان اعض فيه جامد.. وفي الوقت نفسه لا اريد ان اتخلى عن المبادئ ..»
(وبعد فترة صمت)..

«لكن بجوار هذه المحنة العابرة في سنوات (روزا..) اكتشفت اشياء جديدة في المهنة نفسها.. (ثم وهو يبدأ ضحكة..):
 بالمناسبة هل الكتابة حرفة أم مهنة ام فن؟؟ أجب عن سؤالي، ألم نتفق في البداية على انني سأسألك أيضا».

قطعت الضحك بسؤال عن فتحي غانم وهو تكلم عن ملاحظة هامة:
 «فتحي كان عنده شيء اساسي لم افهمه. حتى هذه اللحظة، كان يشبه جماعة في الهند ضد اللمس untouchables وهم ناس لا يمكن ان تلمسهم.. فتحي غانم كان مثلهم حتى ان اصحابه لا يستطيعون ان يلمسوه.. نفسه كانت حصنا.. وهناك مسافة دائمة بينك وبينه مهما كنت صديقه او قريبا منه.. يفخر دائما بانه لا يلمس ولا يلامس وهذه المسافة محفوظة بشيء من التعمد او الانغلاق الطبيعي..

 وهذه من ضمن الاشياء التي اعجبتني فيه.. واثارت خيالي وربطت بينها وبين الكتابة والتفكير..
 ادركت بعدها ان من يكتب او يفكر لا يجب ان يختلط بالدهماء.
 فتحي ايضا كان بالنسبة إلي نموذجاً لابن الطبقة البرجوازية.. والاقرب الى الارستقراطية.. ابوه تقريبا كان وكيل وزارة.. ويسكنون في قصر بالمنيرة»

انتمى علاء الديب تماما الى روح ونفسية «أدباء روز اليوسف»، لم يعد ينظر إلى الكتابة الصحافية من أعلى.. بالعكس اعتبرها تحديا حقيقيا و..»لا فرق بينها وبين الادب..»
خرج علاء الديب من هذه العلاقة بين الكتابة والناس وبين الصحافة والادب.. بمطاردتين الاولى: باعتباره من
«مراكز القوى».. وقتها شملت حملات أيار 1971 مجموعة صحافيين مثل احمد بهاء الدين وفتحي غانم ورجاء النقاش.. وفوجئ علاء الديب باسمه.. هرب الى الاسكندرية ولم يرجع الا بعدما اتصل به مصطفى محمود (برغم ان علاقتهما لم تكن قريبة) وحدد له موعدا مع عبد القادر حاتم وزير الإعلام وقتها.
كان علاء الديب اذن في التنظيم الطليعي.كيف؟

رشحه فتحي غانم وفوجئ بخطاب ترشيح يخبره بانه اختير ضمن تنظيم الرئيس عبد الناصر.
 التنظيم الذي سيحرك الاتحاد الاشتراكي وسيكون تنظيما سرياً. وفي الاجتماعات التي حضرها قليلاً في بيت الاديب صالح مرسي كان يسأل في كل مرة:
 «لماذا التنظيم سري رغم ان منشوراته هي مقالات هيكل في اهرام الجمعة؟!..»

في المطاردة الثانية كان السادات يطارد بعض الصحافيين الذين قال إنهم: «اصحاب صوت عال سيعطل خطة حرب اكتوبر 1973» وبناء على قرار بمنع الصوت العالي المعطل لخطة الحرب. اصدر قرارا بنقل قوائم كاملة من المؤسسات الصحافية الى «باتا» و «بنزايون».
وكان نصيب علاء الديب هو.. «مصلحة الاستعلامات».
ومن هناك سافر الى الخليج بعقد عمل متواضع، وبعد شهرين بالتمام والكمال وجد على مكتبه خطاب استغناء.. وعاد من مغامرته الخليجية مديونا بعد ان عرف ان هناك من وشى به من زملاء العمل لأنه «شيوعي قديم..»

روما اكثر المدن التي احبها علاء الديب.
«مدينة حنينه تستقبلك وتنتظرك ومستعدة للترحيب بك.. وبالضبط مثل القاهرة في اوائل الاربعينيات والخمسينيات..»
مع عصر القاهرة العشوائية (يضحك وهو يردد ساخرا بصوت جهوري: القاهرة الكبرى) بدأت عزلة علاء الديب.
يعترض هو: انا لا اشعر بالعزلة؟
هل نسميها اعتزالا؟!

يتحمس: «اعتقد انني اقابل كل من احبهم واذهب الى الاماكن التي احبها.
 صحيح انها اصبحت قليلة لكنني ما زلت انزل (يذكرني بما قاله في البداية من انهم في المعادي عندما يتوجهون الى المدينة يقولون انزل البلد) لم يعد موجوداً الآن سوى الاماكن الاميركية المدببة.. والاماكن المقامة بنظريات المعمار الحديث التي اخاف منها واكرهها كراهيتي للبلاستيك.. هل يمكن ان اهاجم البلاستيك بصفتي حاصلاً على جائزة الدولة التقديرية؟؟!»

لا يتوقف الضحك على هذه السخرية اللاذعة. حتى اودعه على باب البيت الداخلي.
 تصحبني عصمت زوجته الكريمة والموسيقى المتسربة من غرفة ابنه احمد (مخرج سينمائي) وابتسامات ابنته ساره (صحافية).. هذه هي عائلته التي اعادته تماما الى البيت. وجعلته يرى في الكتابة «الزاد والزواد».

 ولد علاء الدين حب الله الديب في القاهرة العام 1939.
 شقيقه الأكبر الروائي والناقد بدر الديب (1926-2005)، الذي أسهم في تكوين أخيه علاء الثقافي.

حاز إجازة الحقوق من جامعة القاهرة عام 1960.
بدأ حياته الأدبية كاتباً للقصة القصيرة، وصدرت مجموعته الأولى «القاهرة» (1964) وتلتها «صباح الجمعة» (1970) و «المسافر الأبدي» (1999).

عمل في مؤسسة «روز اليوسف» الصحافية وبشّر منذ وقت مبكر بأدباء شبان صاروا من رموز جيل الستينيات من خلال بابه الأسبوعي «عصير الكتب» في مجلة «صباح الخير». وكان «عصير الكتب» من أشهر الأبواب في الصحافة الثقافية، ويراه كثيرون سجلاً وإضاءات على مئات الكتب والروايات والمجموعات القصصية خلال بضعة عقود. ترجم أعمالاً أدبية وسياسية منها مسرحية «لعبة النهاية» لصموئيل بيكيت (1961) و «امرأة في الثلاثين» مختارات من قصص هنري ميلر (1980) و «عزيزي هنري كيسنجر» (1976) للفرنسية دانيل أونيلو.

له أيضاً خمس روايات هي «زهر الليمون» (1987) و «أطفال بلا دموع» (1989) و «قمر على المستنقع» (1993) و «عيون البنفسج» (1999) و «أيام وردية» 2000.

أعدّ باللغة العربية الفصحى في 1965 حوار «المومياء» الذي كتب شادي عبد السلام قصته باللغة الفرنسية. ونشر حوار الفيلم في عدد شباط 1996 في مجلة «القاهرة»، ضمن عدد خصصه رئيس تحريرها آنذاك الناقد المصري غالي شكري، عن الفيلم ومخرجه.
 ولا يزال فيلم «المومياء» الذي أخرجه عبد السلام عام 1969 يأتي في صدارة الأفلام في استفتاءات النقاد لأفضل 100 فيلم عربي.

نال جائزة الدولة التقديرية في الآداب في مصر عام .2001
تـــوفي مـــساء الخمـــــيس، أول من أمـس، في مستشفى بالعاصـــمة المصرية الــذي كان نــقل إليه بعد إصابته بأزمة صحـية في بــداية كــانون الأول الماضي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة السفير بتاريخ 20 فبراير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق