الثلاثاء، 23 فبراير 2016

علاء الديب المسافر الأبدي







إيهاب سيد أحمد

في هدوء ونبل عاش بهما طوال حياته، رحل الكاتب والروائي المصري علاء الديب عن 77 عاما، بعد معاناة مرض ألزمه الفراش بأحد مستشفيات القاهرة.

علاء الديب، صوت فريد ووادع من أصوات جيل الستينيات في الأدب العربي المعاصر، ذلك الجيل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، جيل دشنته كتابات الغيطاني وأصلان وخيري شلبي ومحمد البساطي وبهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، وآخرون، لكن يظل صوت علاء الديب وحده مختلفا، برّاقا، له رونقه، ومذاقه، مرارته وأنينه، وحدته وقسوته، عزلته الاختيارية وتأملاته الفائضة.

في حي المعادي القاهري، ولد علاء الديب عام 1939 وبه عاش عمره ومات فيها، لم يغادره قط، والده كان يعمل مهندسا زراعيا، وأخوه هو الكاتب والمترجم والمثقف الإشكالي “بدر الديب”، كان أستاذه ومعلمه وصديقه، وصاحب تأثير كبير وبارز على تكوينه وثقافته.

كتب الرواية والقصة القصيرة والمقال النقدي، نشر أول مجموعاته القصصية «القاهرة» في عام 1964، و«صباح الجمعة» في 1970، و«المسافر الأبدي» في 1999. كروائي كتب علاء الديب 6 روايات قصيرة عبر مشواره الطويل، كتب «زهر الليمون» عام 1978، و«أطفال بلا دموع» في 1979 و«قمر على المستنقع» 1993، و«عيون البنفسج» 1999 و«أيام وردية» 2002.

6 روايات من أهم ما كتب في الرواية العربية المعاصرة، يعبق فضاؤها الفني بحسّها الاجتماعي والسياسي الرهيف، روايات حاسمة كطلقات الرصاص، لا تخيب هدفها، ولا تغادر محل إصابتها، تقتنص اللحظة العابرة وتتوقف أمام نسيج الطبقة الوسطى المصرية يتلقى الضربة تلو الضربة وما زال يبحث عن العدل والعدالة، يخفت الحلم لكن لا يموت.

في 1990 كتب علاء الديب سيرته المدوية «وقفة قبل المنحدر ـ من أوراق مثقف مصري (1952-1982)»، وهي نص فذ يحمل خلاصة لرؤى وتصورات الديب الإنسانية والثقافية والاجتماعية التي جسدها في قصصه ورواياته جميعًا.

في كتابة الديب، تظهر ملامح ما يمكن تسميته بمزيج من أدب التأملات الذاتية وبين السرد الناقد المبطن بحمولاته السياسية والاجتماعية، يكاد التأمل في تدهور أحوال المجتمع يكون قاسمًا مشتركًا في هذه الأعمال، يصوّر سوء الأحوال ويرصد مظاهر الانهيار والتدهور في العلاقات الإنسانية، يشير إلى مواطن الخلل في الأوضاع الداخلية لوطن مأزوم، راوح بين حلم النهوض وواقع مضطرب ومستقبل مشوش.

تشيع في كتابته روح حزينة متبتّلة، لكنها في ذات الوقت تحمل بذرة المقاومة والرفض، الاسترسال والعفوية والانفعال متعدد المستويات الذي يبدو من فرط وضوحه وتدفقه هادئا ساكنا، لكنه في الحقيقة متعدد المستويات والدلالات.

تقنيا، كان علاء الديب أحد الخبراء الأفذاذ بحرفة السرد وصنعة الكتابة، لغته مكثفة، وشفيفة، ناخزة وناعمة، وتصوراته النظرية عن حرفة الكتابة ولوازمها حصلها بثقافة رفيعة وذائقة فنية لا مثيل لها استوعبت روائع الأعمال وتمثلت المنجز الجمالي لفكرة الأنواع الأدبية، يقول الديب “هناك بذرة للرواية إما أن تجدها في بعض الأعمال أو لا تجدها، وتوجد أيضا رواية يتحقق فيها شيء مهم وخاص جدا بين السرد والواقع والزمن وتغيره، ومجموعة أخرى من العناصر عندما تتوافر كلها تحدث حالة فريدة تسمى جنس الرواية، وتجد نفسك أمام جنس أدبي مختلف له نسيج خاص وواقع خاص بالنسبة للمتلقي”.

وعبر ما يقرب من نصف القرن، دشن علاء الديب اسمه كأحد الكتاب الصحفيين، الكبار، في الكتابة الثقافية، وتحديدا عبر الباب الذي كان يحرره في مجلة «صباح الخير المصرية»، كان يطل على قرائه عبر زاوية “عصير الكتب”، أكثر من أربعين سنة، لم يكف فيها علاء الديب عن اكتشاف الجواهر، واقتناص المواهب، والإشادة بالجميل والممتع.

يقرأ الرواية والقصة والمقال والدراسة، ويعلن على رؤوس الأشهاد هذا كاتب واعد، وهذا نص لافت، وهذه دراسة متميزة، جمع بعضا من هذه الكتابة الجميلة في كتابه المدهش «عصير الكتب»، وكم ساعد واكتشف مواهب عديدة من خلال إشرافه على هذا الباب لسنوات طويلة في مجلة صباح الخير.

صارت “عصير الكتب” ماركة مسجلة باسم علاء الديب، ومن عباءته خرج كتّاب وصحفيون يسيرون على الدرب، يستوحون منهجه ويستلهمون بصيرته ويأتنسون بلغته الذواقة وحَرْفه الجميل.

الكاتب الصحفي بلال فضل أخذ العنوان نقلا في برنامجه التليفزيوني “عصير الكتب”، عشرات من الأبواب والزوايا والأعمدة الصحفية تأسست واشتهر أصحابها في الصحف والجرائد المصرية والعربية، تخرجوا جميعا في مدرسة علاء الديب وتتلمذوا على رؤيته ومنهجه.

لم يدّع يوما أنه ناقد، لكنه كان ناقدًا ممتازًا ذا عينٍ حادّة، خبيرة، مدربة، كان الديب في مقدمة أبناء جيله الذين مارسوا هذا الدور النقدي بشغف حقيقي ورغبة مخلصة، وفتح الباب ومهّد الطريق أمام الكثيرين من الكتاب الموهوبين الواعدين، يقول عن ذلك “النقد الحقيقي من وجهة نظري موجود عند القارئ العادي أو عند شاب معنِي بالقراءة مثلا.

وأعتقد أن هذه هي القيمة الحقيقية، هناك دور أو وظيفة للكتابة، إذا تم افتقادها أصبحت المسألة كلها عبثية ومجرد تضييع وقت.

هناك من يفهم هاتين الكلمتين بشكل خاطئ فالدور والوظيفة هنا ليسا نوعا من الوعظ. أبدا”.

بموازاة جهوده النقدية، كان هناك دوره الثقافي الرفيع الذي مارسه في حقل الترجمة، وهو دور شديد الأهمية وربما يكاد لا يلتفت إليه الكثيرون. ترجم كتاب «الطريق إلى الفضيلة» نص صيني مقدس، لمؤلفه لوتسو، عن دار سعاد الصباح (أصدرت دار الكرمة طبعة جديدة من هذا الكتاب قبل وفاته بأيام).

وله أيضا ترجمة لمسرحية «لعبة النهاية» لصموئيل بيكيت 1961، وترجمة لمجموعة  قصص مختارة لهنري ميللر وبرجمان وبيتر فايس، وآخرين، بعنوان «امرأة في الثلاثين».

فاز الديب بجائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2001، وقبلها بعامين حصد كتابه «عيون البنفسج» جائزة أحسن رواية في معرض القاهرة الدولي للكتاب 99.


في سنواته الأخيرة، تفرغ للقراءة والكتابة، وكان ينشر مقالا أسبوعيا بجريدتي «الأهرام» و«المصري اليوم».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة الأهالي بتاريخ 23 فبراير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق