الجمعة، 19 فبراير 2016

رحيل كاتب شَريف







هشام أصلان|
 علاء الديب يعني مجموعة مهمة من الأعمال الأدبية:
"زهر الليمون" و"أطفال بلا دموع" و"المسافر الأبدي"
ياه يا عم علاء. سرقتنا الدنيا كعادتها.

 مرّت الأيام وها أنت ترحل من دون أن أراك ولو مرّة.
لطالما وعدتك بالمرور ولم أفِ بالوعد. اتصالاتك الهاتفية كانت مُشبِعة نعم، لكني لم أتصورها حدودًا أخيرة للعلاقة.

لا أحب الكتابة المدفوعة بانفعال عاطفي، لم أتعودها، لكن الحزن بالغ لرحيل الكاتب والإنسان الكبير والشريف علاء الديب.
 عاش ومات على طريقة المحترمين وأصحاب الكبرياء والتواضع وعزة النفس.

مات علاء الديب، أبو نَفَس هادئ، في أعقاب مبكرة لرحيل صاحبه صخب إعلامي غير مسبوق خلال السنوات الخمسين الأخيرة، وهو رحيل محمد حسنين هيكل.

هكذا أفكر، قبل ساعات من جنازتك، في ما سيراه الصباح من شكل لوداعك.

الإجماع على محبتك نوعيّ. الجميع يرثيك بانفعال وارتباك.
 محبة متفق عليها من المختلفين في ما بينهم. لم أر الانقسامات المعتادة على صفحات الأصدقاء، ولا مقاومة للمشاعر من باب الاستهزاء ببلاهة الكتابات العاطفية.

علاء الديب يعني مجموعة مهمة من الأعمال الأدبية:"زهر الليمون" و"أطفال بلا دموع" و"المسافر الأبدي"و"قمر على المستنقع" و"القاهرة" و"صباح الجمعة"و"وقفة قبل المنحدر"، وعدد من الترجمات لصموئيل بيكيت وهنري ميللر وإنغمار برغمان، ومشاركة في سيناريو فيلم "المومياء" لشادي عبد السلام.

 فضلًا عن "عصير الكتب"، ذلك المشروع الممتد منذ أكثر من 40 سنة، والذي بدأه كبابٍ أسبوعي في مجلة"صباح الخير"وقدم من خلاله عروضًا لمجموعة هائلة الكم والكيف من الأعمال الأدبية.
 لم يكن يعرف وقتها أنه سيتحول بعد فترة إلى كتاب ممتع، ينافس العناوين التى يحتويها بين غلافيه.

 وهو الذي قضى كل هذه السنوات يوصّل كتابات الكبار، وينقب عن المواهب الجديدة، ويسّهل التعرف على ملامح مجموعة كبيرة من الكتب التى ربما سمعت عنها ولم تكن قرأتها، مساهمًا في تكوين مكتبات الكثيرين.

 المشروع الأدبي الكبير، وازاه مشروع إنساني لا يقل قيمة أو معنى.

صاحب الـ77 عامًا يرثيه بعض الشبان الذين لم يكملوا الثلاثين من العمر. لماذا؟
 لأنه ينتمي إلى فئة نادرة من الكُتّاب، لا تستطيع الإمساك للواحد فيهم بـ"غلطة". توليفة من القيمة الأدبية مُضفّرة بصفات إنسانية قوامها الكبرياء والكرامة والاستغناء و"الشقى" في سبيل عفّ النفس.

لم يشعر أحد، تقريبًا بالورطة التي واجهتها في المستشفى على آخر الزمن.
فاجأنا الكاتب الصحافي حمدي رزق مؤخرًا بأن الرجل عليه دفع فاتورة قيمتها 300 ألف جنيه.

 لم يطلب، أو أحد من أسرته، تدخل الدولة. لم يسرّب الموضوع لأحد من أجل مناشدة المسؤولين.

 هو تمثيل، ربما الأخير بين أبناء جيله، لذلك النوع النادر من المحبة الخالصة لوجه الفن والإنسانية، الاحتفاء غير المسنود بإمكانات دولة ولا بإلحاح أجهزة أو مؤسسات.

في الاتصال الأخير قلت إنني مُقصر، وأنه آن أوان اللقاء. قال "ماتشغلش بالك.. لما يجيلك النِدا هاتكلمني تقولي أنا جاي".
 لم نلتقِ أبدًا، هي فقط هواتفه التي يمارسها مع عدد من شباب الكُتّاب، بعد قراءته شيئًا هنا أو هناك للتشجيع وقول كلمتين. أمر لا يفوته أبدًا.

قبل أيام تراجعت عن زيارتك في المستشفى لسبب عاطفي تافه. قلت لا أحب أن أراه في لقاء أول وهو في حالة مرض، سأزوره فور عودته للمنزل، تلك الزيارة المؤجلة منذ سنوات.
ها هو اللقاء يأتي في حال أصعب، يأتي وأنت ترقد داخل نعشك محمولًا إلى مكان نومتك الأبدية.
سلام على جسدك الذي انهار أخيرًا بعد مقاومة نبيلة، وسلام آخر على روحك الطاهرة أينما حلّت.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في موقع صحيفة المدن بتاريخ 19 فبراير 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق