الجمعة، 19 فبراير 2016

علاء الديب: أكره رؤية تلك الشمس المسائية الغاربة


 

علاء الديب يُسَخر كل عناصر النص لوضع القارئ محل بطله المأزوم خلال أزمته


 أحمد شوقي علي

بعدما صدرت روايتي، ألح عليَّ بعض الاصدقاء، أن أرسل نسخة منها للأستاذ علاء الديب"إذا لم يكتب عنك علاء الديب فاعتبر أنك لم تنشر شيئًا" وكنت أواجه ذلك الإلحاح بالرفض، قائلا لهما:
"ربما كان ذلك، زمان، لقد بات علاء الديب يكتب عن كل كتابٍ يُرسل إليه، فأي مجد أبحث عنه من وراء إشادته بي إذا أشاد".

طوال سنة كاملة كنت أرد نصيحتهم بجوابي نفسه، ولم يعلم أحد أنني كذاب، وأن الأمر لا يتعدى سوى مكابرة، خشية سماع رأيه "السلبي" في كتابي، حتى عندما قررت أن أحاوره لصحيفة "المدن" قبل ستة أشهر تقريبًا، واعتذر لظروف مرضه، حمدت اعتذاره ذلك مهابة أن يسألني عن الرواية فلا أعرف كيف سأهديه إياها.

 أؤمن بأن على كل كاتب أن يجرب، ليس كغاية شكلية، وإنما كطموح شخصي، وقد قرأتُ "وقفة قبل المنحدر" صغيرًا، وهو أكثر الكتب التي أعدت قراءتها، ولا أدعي أن غاية التجريب لدي هي وليدة أي شيء، غير تلك الفقرة التي انتبهت إليها مبكرًا جدًا، والتي يقول الأستاذ فيها:
 "الإحساس الوحيد الذي يحفظ للكاتب كرامته، هو إحساسه بالأهمية، إحساسه بالحرية، بأنه يكتب كلمات تخرج منه بلا حساب، ولا محاسب سوى فنه وقدراته وموهبته.

 أما أن يكتب داخل قالب، أن يكتب من دون أن يتعدى حدودًا، أو قيودًا أو أسواراً موضوعة حوله، فإنه يتحول بالتأكيد إلى شيء آخر غير "الكاتب". فأي خيبة أمل كنت سأصاب بها إذا وجد أن محاولتي بليدة، أعرف بالطبع أنني كنت سأستمر في الكذب وربما قلبت كلامه ضده، واتهمته بمناقضة نفسه ومعاداة التجريب الذي نادى به، وكنت قلت –مثلا- أنه لا يحب إلا الكتابة الواقعية.

وبالرغم من ذلك، ستبدو مخاتلتي الأخيرة تلك ساذجة، فكلمة "واقعية" التي كنت أعدها كتهمة، غير دقيقة فعلا إذا استخدمت لوصف أدب علاء الديب، فنصه وإن اختار مفرداته كلها من الواقع المعاش، وصفه بـ"الأزمة" هو الأقرب إلى الصحة من إلصاقه بـ"الواقع"، فمنذ روايته الأولى القصيرة، أو قصته الطويلة "القاهرة" (1964) وحتى آخر كتبه، وعلاء الديب يُسَخّر كل عناصر النص لوضع القارئ محل بطله المأزوم خلال أزمته التي يعيشها.

 ما زلت أذكر، حتى الآن، رغم مرور فترة طويلة جدًا على قراءتها، معاناة بطل "القاهرة" حتى في اتساخ ملابسه وعرقه المتواصل وصلعته وعلاقته المتوترة بأخيه المريض والمرأة التي كان يعاشرها.

 أبطال علاء الديب تائهون مأزومون مشوهون، وكذلك جل تفاصيل الحياة التي يعيشونها، وربما كان ذلك نابعاً من إحساسه الذي حمله مبكرًا على عاتقه بـ"تغيير العالم"، أو كما اعتبرها هو "مسؤولية تغيير العالم" والتي برأيه "تتحلل إلى تمرد عليه، والتمرد ينفك إلى إحساس بالغربة والاغتراب.

والغربة تقود إلى رصد الملل ومتابعة التكرار"، وهو الأمر الذي خلف لديه إحساسًا عميقًا بتفاهة الأشياء، إلى حدّ أن يقول إن "الأجر الوحيد الذي يحصل عليه الكاتب هو أن يفرح وهو يرى كلماته وقد تحولت إلى مخلوقات على الورق، وكثيرًا ما رأيت كلماتي تتحول إلى مخلوقات مشوهة، تسقط كأجنّة ناقصة النمو".
 لا أعتقد أن القول السابق، ناتج عن إحباط، أو شعور بالعدمية، ربما هو شعور غاضب.

 فمن يقرأ علاء الديب سيعي جيدًا أن الغضب من غياب العدالة يساوي لديه حبّه للحياة وإقباله عليها، ولا يعرقل اي منهما الآخر، بل يتعايش الغضب لديه ليصب في مصلحة حبه للحياة: "شعوري بالتخلف- يقصد تخلف مجتمعه- يدفعني لسبب لا أدريه، إلى مزيد من الانتماء، مزيد من الارتباط.

 مزيد من الحلم الساذج، البسيط، المستحيل: الحلم بأن أعيش، ويعيش الناس من حولي واقعًا جديدًا".

بالأمس مات علاء الديب، فجأة، فقد عزّز صراعه مع المرض والذي أبقاه في حالة حرجة لأكثر من شهرين، برغبة كبيرة في مقاومة النهاية، وكان الجميع ينتظر أن يهب ليعود فيمسك بالشمس التي يكره غيابها:
"شعوري غدًا سيكون كشعوري اليوم. أكره أن أرى.. تلك الشمس المسائية.. الغاربة"، ربما لم يُرِد علاء أن يعود ليمسك الشمس، أو لم يكن ذلك صراعاً مع الحياة كما قال، ربما كان يفعل مثلما فعل عبد الخالق المسيري -بطل روايته "زهر الليمون":"عاد إلى غرفته ببصره، وهو يقول:
 سأترك اليوم يمر، سأنزلق على سطحه كما انزلقت بي أيام كثيرة.
في فمه طعم صابون رخيص، يتأكد عندما يغيم النظر، أو يبحث في رأسه عن معنى مستحيل، أو يجهد عين خياله بحثًا عن منظر قديم، لا يريد أن يعود".
 ولد علاء الديب العام 1939، وهو مثقف موسوعي، عمل في الصحافة، وكتب الأدب كما اشتغل في الترجمة، أصدر مجموعات قصصية هي:
 "القاهرة (1964)، وصباح الجمعة (1970)
المسافر الأبدي (1999)، والشيخة، والحصان الأجوف.
رواياته: زهرة الليمون (1978)، وأطفال بلا دموع (1989)
قمر على المستنقع (1993)، عيون البنفسج (1999)
وأيام وردية.
بالإضافة إلى كتابه الأثير "وقفة قبل المنحدر" والذي يعدّ جزءاً من سيرته الذاتية.
 واشتهر كذلك بمقاله الدوري "عصير الكتب" الذي بدأه في مجلة "صباح الخير" واستمر يصدره في صحيفة "المصري اليوم" قبيل مرضه.
 كما ترجم لكل من هنري ميلر وشارف دى إمرى وبيتر فايس وانغمار برغمان.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في موقع صحيفة المدن بتاريخ 19 فبراير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق