السبت، 14 نوفمبر 2015

ليس للوطن جدران








أذكر «لنظل أصدقاء إلى الأبد» رواية الزميلة الأستاذة إقبال بركة، عام 1970، كنا فى مؤسسة روزا-اليوسف وفى صباح الخير بالذات، كل يعانى سكرات نكسة يونيو، حالة الهزيمة والشك، والبحث عن طريق، غارقين فى عمل صحفى يداوى جراحنا، وجراح القارئ والوطن،

 خرجت علينا الصحفية الشابة بروايتها الجديدة، فرح بها البعض، وأثارت كثيراً من الاهتمام، ما لبث أن غاب فى دوامات الأحداث السياسية، التى تتابعت فى قسوة وسرعة لم تتوقف حتى الآن، كذلك تركت الصحفية الكاتبة روايتها وحيدة وانضمت فى مقاومة باسلة لتيارات الغفلة والظلام التى حاولت وتحاول إخفاء كل محاولات التنوير،

 وكأنها كانت تقول تلك الكلمة القاسية: لا وقت للفن الآن، الوقت فى حاجة إلى مواجهة مباشرة، عملت إقبال فى كل أنواع النشاط المقاوم لسلب المرأة المصرية حقوقها فى الحرية والمساواة الكاملة فى الوطن، مؤامرات الحجاب والنقاب وجرائم الختان، وتعليم الفتيات، وحقوق النساء المتساوية فى العمل والسياسة، والأحوال الشخصية، وتولت رئاسة أهم مجلة نسائية فى مصر، «حواء» فى رحلة كفاح شهد لها الأعداء قبل الأصدقاء.. وظلت وجهاً مضيئاً مفرحاً لكفاح السيدة المصرية فى مقاومة قوى الظلام، وبعد أن استراحت من المناصب والأعباء اليومية والإدارية للعمل الصحفى، عادت كما يعود المهاجر إلى أرض الوطن، عادت إلى دنيا الفن والرواية، وكان العود أحمد فى عام 2015، قدمت عن طريق هيئة الكتاب رواية لافتة، «ذاكرة الجدران» رواية ممتعة ومهمة تستحق التفات واهتمام النقاد.


«البلد ثائرة والكل يبحث عن طريق للخلاص»، الهوية المصرية تتسع لتحضن وتستفيد من الإسلام والعروبة والتراث المصرى القديم.. كلها فى بوتقة واحدة.


صرخ الشاب بحدة: الإسلام عقيدة وعبادة ووطن وجنسية ودين ودولة وروحانية، ومصحف وسيف.

الشاب الصارخ، لم يتجاوز الرابعة والعشرين، وكان أحد هؤلاء الذين انضموا فى الإسماعيلية إلى جماعة أسسها حسن البنا: اسمها «الإخوان المسلمين».. هل سمعت عنها، من يومها والبلد ثائر يبحث عن طريق للخلاص.


هذه أرض الرواية، والمكان والزمان اللذان تبنى عليهما إقبال بركة عملها الروائى، وهى الدارسة للبناء الكلاسيكى للرواية، التى على الرغم من كل حداثة النظرة الإنسانية والاجتماعية، ظلت الرواية فى داخل الإطار الكلاسيكى المتقن.


العائلة القبطية التى هاجرت من الصعيد، وشاركت مع وجهاء الطبقة الوسطى الجديدة فى تأسيس حى الزمالك وبناء عمارة هى جدران الرواية، التى جمعت الأقباط والمسلمين.


وآه لو تكلمت الجدران التى شهدت كل الأفراح والأحزان والهزائم والانتصارات، فى بحث الشعب عن مستبد حكيم عادل ومعاناته منه، وثورة الضباط الأحرار، التى أثارت خلف الجدران نقاشات واحتجاجات، أهم من تلك التى كتبت فى الصحف وتحدث عنها الإعلام: لعل أهمها تقصير عبدالناصر فى حسم حقوق الأقباط وهو يعيد ترتيب الوطن.


كان بطل الرواية المحامى الكبير مكرم قد اعتزل العمل وجلس فى الشرفة الفاخرة التى تطل على النيل، فى وحدة، بعد أن رحلت الزوحة العزيزة، وحتى صديق العمر هاجر ولم يعد هناك أحد يكلمه سوى ذكراه، ومذكرات الجد المختبئة فى الجدران، مع وهم مال الأطيان التى باعها وأشاعوا أنه دفنها فى جدران البيت.


لن أدخل فى سرد الرواية أتركها للقارئ يستمتع بها، لكننى أحب أن أختم تحيتى وترحيبى بعمل الزميلة، بجزء من شاعرية وحميمية العالم الذى صنعته إقبال:


«رحت أتأمل الضفة الأخرى من النهر حيث المبانى المنخفضة البائسة للحى المقابل تزاحمها مبان أخرى عملاقة، كان مركب شراعى كبير ينساب فوق سطح النيل يقوده طفل فى حوالى العاشرة من عمره، لابد أنه ولد ويعيش فى هذا المركب فهو مسقط رأسه وسكنه ومحل عمله فى آن معاً، ولابد أنه يشعر بمنتهى الأمان ففى باطن القارب تسكن أمه وأشقاؤه، ولعلها الآن تعد لهم وجبة الغداء، عجيب أمر هذا الشعب المصرى، يتكيف فى كل الظروف ويجد مفاتيح بقائه، وراحته أينما حل»، عادت الزميلة العزيزة إلى عالم الرواية عودة قوية.


ذاكرة الجدران - رواية - إقبال بركة - الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 نوفمبر 2015

الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

أحزان منى حلمى







أتسلل - إلى حضن أمى - المعطر بالدفء والكرامة - تزيح عنها الغطاء - لتغطينى - تطفىء النور - لتنير أحلامى - تضع يدها - على رأسى - فيرحل التعب - إلى موطنه الأصلى.


هذه هى القطعة (210) من كتاب الأحزان الذى أخرجته الكاتبة والشاعرة (منى حلمى) بعنوان مؤلم عن دار ابن رشد هذا العام: رجل أنزفه حتى آخر العمر الكتاب أصوات نعى وعشق ومحبة للدكتور الراحل محمد فتوح (6 يناير 1955 - 13 أكتوبر 2008) كلمات من نار ونور، لن تصل اليه فى قريته الدراكسه - دقهلية تقول د. منى: إلى توأم روحى، وزهرة عمرى ونزفى حتى الموت. محمد. رحلت فماتت حياتى إليك. فى مثواك الأخير أهدى هذا الكتاب وكل ما تبقى من عمرى.

ثم تمد الشاعرة الحزينة صورة الإهداء الطويل، كأنها ترسم صورة علاقة وحياة فتقول: إلى الشيخ فتوح والد محمد مؤذن جامع الدراكسة: رمز الإستنارة الدينىة والتواضع والاستغناء والرحابة الإنسانية عنه ورث محمد حلاوة الصوت وعزة النفس، إلى الست عزيزة. والدة محمد مثال المرأة الطموح والأمومة الواعية عنها ورث محمد التحدى والدأب. ثم عائلة محمد: عطيات ومسرات وهدايات، ونجاة وعفاف، رحلت مبكرا وهويدا: أخوات محمد منهن تعلمت العطاء أحسست بينهن بالدفء.

توفى الدكتور محمد مبكرا أثر عملية معقدة فى الكبد حدث فيها عمليات أهمال وتلوث). ثم تمد الزوجة العاشقة المكلومة الأهداء الذى يرسم صورة حياة عائلتها هى فتقول: إلى نوال السعداوى، أمى، كم أنا محظوظة لأننى تشكلت فى أحشائها، الى عاطف حتاتة، أخى، لو لم يكن أخى لتمنيت أحمل أسمه، ثم إلى أحمد حلمى أبى الذى أحمل اسمه ولم أعشه معه.

يرسم هذا الإهداء الشعرى التصويرى الطويل، مقدمة، أو مدخلا لحكاية لم تقصها الشاعرة عن علاقة حب نادرة وزواج قصير فى شقة ترى النيل، وحب يسكنه صوت أسمهان الساحر، وعود القصبجى المعجزة لأيام قصيرة ويختفى الحبيب، وتبقى النافذة التى تطل على النيل لا ترى شيئا ويبقى باب الشقة مفتوحا والعود مهجورا، ويكف صوت أسمهان عن ترجيع صدى الطيور والكروان وتسأل العاشقة الوحيدة:
حين أسأل - إلى أين أخذك الموت؟ - يقولون إلى السماء - حتى في الموت يكذبون - إذا كنت حقا - فى السماء - لماذا حين تمطر - لا أشم رائحتك.

تقول منى حلمى عن كتابها هذا كلمات واعية خارج الحزن واللوعة تقول: إعطاء اسم للقصيدة يسجنها فى معنى واحد. القصائد ترسل إيحاءات، وتصنع الدهشة، وتعيد صياغة الأسئلة. وتخترق المشاعر المكتومة اكثر مما يتحدد بمعنى واحد. مفروض مسبقا. من الشاعرة أو الشاعر. فى هذا الكتاب تتحرر القصيدة من استبداد الإطارات الضيقة كى تحلق فى فضاءات متنوعة تنوع الأفكار، والأمزجة والتجارب والطباع والفرح والأحزان.

هذا الكتاب الفريد دفعنى الى التفكير فى اتجاهات كثيرة: فى الدكتور الذى رحل فى مأساة صامتة، وفى الشاعرة الكاتبة والأستاذة المفكرة التى لابد أن تخرج من هذه التجربة القاسية بأفكار جديدة عن الحياة والكتابة والشعر. وأن تستمر فى السباحة التى تخرج منها دائما جديدة وحرة ومفكرة. وأن تظل تقول:
أجمل من الحياة
الكتابة عن الحياة

كل من يعرفك ويقرأ لك فى انتظار كتابة جديدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 4 نوفمبر 2015