السبت، 28 يونيو 2014

الخراط.. نسر فوق صخور السماء

              
            

نتيجة بحث الصور عن إدوار الخراط
الحمد لله، وصلت جائزة النيل - أخيراً - إلى إدوار الخراط، رغم ابتعاده منذ سنوات عن موالد السياسة والثقافة التى توالت بين احتجاجات واستقالات، وتجمعات شللية وتربيطات مصالح. جائزة النيل - أهم جوائز الدولة - صعدت إلى حيث يسكن النسر الكبير، محلقاً فوق صخور السماء.
لم أجد ما يعبر عن سعادتى وفرحى: له وللأدب المصرى سوى أن أجمع كتبه وأوراقه، التى شغلت مكاناً خاصاً ليس فى مكتبتى التى تعمها الفوضى، ولكننى أيضاً راجعت مكان كتابته فى حياتى: فى العقل والقلب.. راجعت كل الأوراق والمواقف.. وها أنا أحاول أن أستعرضها معك فى هذه الكلمة السريعة
 «كل الكلام بعد ذلك للخراط: نسر الأدب المصرى، نسر الإسكندرية والصعيد».
الصعيد: مصر الصعيدية - هى مصرى - ليست فيها رخاوة ولا وداعة ولا مجرد طيبة قلب كما يقولون.
 ليس فيها ما يزعمونه من سهولة طبع وتسليم.
ليس فيها ما يدعونه على المصريين من مزاعم الرضا بالقدر والمسالمة والخضوع ولين الجانب.
 هناك: مصر الحقيقية.
 مصر حبى العميق:
 صلابة الصخر ودسامة التربة معا، لا نهاية الصحراء، وركن المأوى تحت النخيل والدوم، سموق أسوار الأديرة على الجبل، وثاقة المعابد والمساجد وهشاشة المصلى الحصير تحت جسر النيل معا.
 هناك الخالد والعرضى معاً.
 أبدو اللحظة الهاربة معا.
ضربة العصى تشق الجمجمة، والدموع تنحدر على صفحة الوجه الصخرى معا، عرامة العنف الشرس وحنو الرقة التى هى ذوب القلب معا.
 يكاد يكون وحشيا فى إطلاقيته ولمعة العين بالسخرية الخبيئة البارعة معا.
الصعيد هو مصر البناء والحضارة والبحث عن السر. مصر الاستشهاد والكبرياء. عشقى، ومحنتى، أظن أن حياتى القصصية وحياتى جميعا تدور بين طرفى هذين القضبين: الإسكندرية والصعيد.
الإسكندرية:
 هى بيتى «من: الميلاد: غيط العنب مارس 26، حتى إبريل 1955 الخروج إلى القاهرة»، الإسكندرية مازالت بيتى وموطنى، عابر سبيل فى القاهرة، كأننى على سفر، الإسكندرية مدينة سحرية ترابها زعفران «الزعفران: نبات زكى الرائحة طويل العمر من عائلة السوسن» هى شط يقع على بحر الأبد، حافة المطلق، وعندما أنظر منها إلى أفق البحر. أعرف كما علمونى فى المدرسة والكتب، أن هناك له شاطئ من الجهة الأخرى.
ولعلنى لا أصدق، ولا أقتنع بذلك حقيقة.
 أبداً - ليس وراء هذا الأفق شىء.
 هذا امتداد لعباب المجهول، إلى ما لا نهاية.
 كأننى انفعالية ورمزية وبتجارب لاذعة المرارة لا يمحى طعمها أبداً من على لسانى.
 الإسكندرية: عالم ساطع ونقى ونظيف وحی. متقلب بروائح خصوبة جديدة دائمة التجدد.
الفن.. والفكر: باستمرار أتصور أن الروائى الحق أو القصاص الحق أو الفنان الحق يجب «وأشدد على كلمة يجب» أن يكون سابحا باستمرار فى بحث فكرى.
 هذا هو ما نجده عند كل الروائيين الحقيقيين فى كل العصور.
ما يصيب أعمالنا الروائية بالهزال والضمور والجدب والنضوب هو تصور أن الفن المهم ينزل من أعماق الفنان البريئة مما يسمى: التفكير العقلى.
 المطلوب من الفن فى هذا الزعم أن يكون بريئاً وساذجا وشاعريا وفطريا.
 وهذا هو ما أصاب إنتاجنا بكثير من الفقر والهزال: وعدم الكفاءة.
حتى الشعراء: وراء كل شاعر عظيم مفكر بدون استثناء. الشاعر الذى لا يغذى الفكر بفنه: يسميه النقد «الشاعر الصغير، قد يكون غنائياً فى بضع قصائده، لكن ذلك قصاراه، أما الشاعر الكبير فهو بالضرورة مفكر كبير. لا أزعم أنه يجب أن يكون فيلسوفا أو صاحب نظام فكرى:
 ولكن يجب أن يكون هناك هذا الظمأ للفكر وللمعرفة.
لست أقصد إلى معنى مدور ومحبوك داخل العمل الفنى: مثل الأمثال والحكمة أو أبيات المتنبى.
 أريد أن يخرج القارئ من قصص أو روايات: وقد اشتد عوده وصلبت إرادته.
 ازداد حساسية بالحياة من حوله.
 وعمق حسه بالمأساة التى نحياها.
لا أتحدث عن نسق مفروض: هى محتومة أمامى لكى نقدم فنا حقا ولكنها ليست مفروضة.
 إن عندى الحرية أولا فى أن أكتشفها ثم أنميها، وعندى الحرية فى أن أعمى عنها وأشوهها وأخربها.
أملى أن يخرج قارئى ولديه حس يستبد به هذا المعنى. حس يمده بزاد خلقى جمالى أغنى قليلا مما أتانى به.
 هذا هو ما أملكه، وهو فى النهاية ليس لى بل له.
 ولكل من يطرق بابى.
اللغة والفن:
اللغة فى كتاباتى - رغم كل الأحاديث عنها، والتى صرت أضيق بها لأنها لا تلمس الحقيقة.
اللغة هى خبرة كاملة متكاملة بالحياة.
معظم كتابنا عودوا القارئ على اللغة السلسة الشفافة
«فى أحسن الأحوال» أو السهلة المبتذلة فى الأغلب. عودوا القارئ على نوع من الفقر فى الرصيد الذى يتكون منه العمل الفنى لا أرى اللغة إلا منصهرة لا يمكن فصلها عن العمل.
 الخبرة الفنية عندى هى مسعى نحو الاقتحام والسؤال، نحو المعرفة، واللغة جزء من هذا المسعى لا يمكن أن ينفصل، ونحن محظوظون لأننا نملك هذه اللغة الفنية - التى ليس لها شبيه داخل اللغة الفصحى، مستويات متعددة من الجاهلية حتى الآن ثم هناك اللغة العامية:
 من السودان إلى المغرب كل هذه الثروة الفادحة متاحة أمام الكتاب.
 فماذا نفعل؟
يكتفى أغلب كتابنا بكسرة خبز جافة فى هذه المائدة الزاخرة. المسألة ليست قيمة لغوية.
 مضافة إلى الخبرة الفنية، ولكنها هى ذات الخبرة الفنية، علاقتى باللغة هى علاقة: عضوية، جسدية، شبقية إلى جانب أنها علاقة: درس، ومعرفة ومحاولة لسبر الأغوار.
 منذ مجموعة ساعات الكبرياء (1972) وعلاقتى باللغة: علاقة عاشق.
علاقتى باللغة منذ ذلك الحين: صارت علاقة: الفطرة.
 لا أقول فطرة أخرى بل هى الفطرة الأولى.
كل هذه الكلمات: هى مقتطفات من مقال بعنوان:
«عن تجربتى الفكرية» مكتوب فى إبريل 1997.
أما بحار النسر المحلق فوق صخور السماء فإنها ستكون متاحة عندما تصدر قريبا أعماله الكاملة، التى أرجو أن تخرج فى أحسن شكل ممكن.
 ومبروك لنا جميعاً جائزة النيل فى الآداب لإدوار الخراط (2014).

إدوار الخراط - الأعمال الكاملة «تحت الطبع»
 دار التنوير - القاهرة

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 يونيو 2014

السبت، 14 يونيو 2014

سعد زهران.. راهب ماركسى مصرى



جاء هاتف من الصحراء يقول:
 غادر سعد زهران ولن يعود.
كان دائما يعود إلى المقهى. المنضدة البعيدة التى تطل على النافذة الواسعة التى يرى منها كل الميدان.
 أوراقه مرتبة لا تتطاير.
 هناك دائما صديق أو تلميذ يسمع.
 وهو دائما يعود فى الموعد دائماً يعود:
 من البيت، من السفر يعود، ومن المعتقل من المظاهرة، من المؤتمر.
 من لقاء سرى يظل مسرعا على ساقه ويعود، ضاحكا مصرا على الشرح وإكمال الحديث.
 يستجيب للحب وللحاجة وللرفاق، يعود لماضيه الصاخب المزدحم، ثم يقبض على المائدة، ويمسح بناظريه الميدان الواسع البعيد، يرى المستقبل ويضحك ممن يهاب السير فوق الماء وخوض أستار الظلام.. ويعود:
 الآن لن يعود سعد زهران:
الأستاذ، المعلم، الرفيق.. الأب الصديق الشريف. هل تجدى الآن الكلمات وقد صار روحا مرفرفا فوق مصر بلا صفات. مراقبا، ويطلب أن نعيد قراءة الكتب والأوراق التى تركها لأنه فى هذه المرة لن يعود.
أهدانى الأستاذ فريد زهران، حارس المحروسة، نائب الحزب المصرى الديمقراطى، طبعة جديدة: من «الأوردى» كتاب سعد زهران الخالد الفريد عن سنوات السجن ومحنة الشوعيين فى مصر وفى أنفسهم.
 كما أهدانى عملا فريدا فى قيمته وهو ثلاثة مجلدات:
 هى مختارت من الفكر السياسى لسعد زهران
(موليد 1926 رحيل 2014.اعتقال من 1954 - 1956، ومن 1959 - 1961، ثم منفى اختيارى فى الجزائر حتى أوائل الثمانينيات)
هذه المجلدات الثلاثة مختارة من آلاف المقالات والمشروعات المكتملة والمخططة لأعمال تشمل نفس القدر من التبحر التمكن، والإمكانية:
 تاريخ الحركة السياسية فى مصر الحديثة.
 أزمة الفكر الماركسى فى مصر.
 تاريخ التنظيمات السرية اليسارية من 1922 حتى اليسار الجديد.
متابعة السياسة الراهنة: التجربة الناصرية.
 العبور: محنة كامب دايفيد، والسلام الصهيونى الأمريكى، العمال المصريون فى الخليج، نداء للمغتربين، وفى الأعمال هم أساسى مسيطر:
هو نقد الانتهازية السياسية، واحتراف النضال، والارتزاق من العمل السياسى.. مدخل لفهم الأحزاب السياسية، مصر 1977، ثم التقدمية كمهنة قبل أن أحاول أن أقدم لك درة أعمال سعد زهران الفكرية: فى أصول السياسة المصرية»
 أجدنى راغباً فى أن أذكرك بلحن حزين تردد فى «الأوردى»: السجان يصيح دائماً: «وشك فى الأرض».
 السجين يقول لزميله: أقسى لحظة هنا: طلوع الفجر.
عشت دائما رافع الرأس. الآن فلتنعم بفجر دائم.
فى «أصول السياسة المصرية» يتمسك سعد زهران بالتفسير المادى الماركسى للتاريخ، ولكنه فى مصرية وطنية لا تعصب ولا شيفونية فيها، يتمسك بالواقع المصرى الحى رافضا الخضوع لا للمصطلح الغربى ولا للقوانين الجاهزة المستمدة من أوروبا: مثل الإقطاع، البلورتاريا، الصراع الطبقى.
كان سعد زهران مشغولا دائما بحركة الجماهير.
ولد سياسيا من لجنة الطلبة والعمال عام 1946: يقول:
«اللجنة الوطنية للعمال والطلبة» ربما كانت وحتى الآن: أصدق وأكمل تعبير عن الإرادة السياسية للطبقة المتوسطة».
كانت تجمع ممثلين للوفد - الإخوان - لليسار - للمستقلين (عبدالرؤوف أبوعلم - لطيفة الزيات - فؤاد محيى الدين - مصطفى مؤمن - سعد زهران).
ولد فى هذه الفترة أيضا تيار تقدمى يسارى داخل حزب الوفد بقيادة مصطفى موسى.
 ثم يقول سعد زهران.. جمعت هذا الشباب سواء فى خيوط الإنتاج أو فى مدرجات الجامعة، هموم حياتية ومشكلات نضالية واحدة، اشتركوا فى إدراك ما فى الإسلام والاشتراكية من مثل عليا أخلاقية وحضارية وإنسانية، وعرفت مصر - ربما للمرة الوحيدة فى التاريخ السياسى المعاصر - قيادة منزهة عن الغرض (لم يكن هناك أى صراع أو طمع فى سلطة)، كان الشباب القائد للحركة يعمل بعيداً عن كل التنظيمات الحزبية القائمة، فبعد حادث كوبرى عباس 9 فبراير، ظلت لجنة الشباب تحكم الشارع والبلد حتى يوم 21 فبراير، وعندما عادت الزعامات الحزبية تفرض سيطرتها على لجنة «الطلبة والعمال»:
 «دب الشقاق والانقسام والتمزق».
كيف تتكرر هكذا نفس الوقائع والمآسى؟
ترك سعد زهران دائماً الزعامة الفكرية لغيره:
 أولاً لشهدى عطية، الشيوعى الشهيد، أول من تمرد على نفوذ الأجانب (قتل فى المعتقل) ثم ترك الزعامة الفكرية لحزب الراية (الشيوعى المصرى) للرفيق فؤاد مرسى، الوزير السابق، (الرفيق خالد) واكتفى هو بالعمل التنظيمى وبالإشراف على إصدار المجلة الشيوعية الوحيدة التى ظلت تصدر بانتظام وبمستوى مهنى معقول لسنوات، مجلة «الراية»، وفى هذا السياق يؤكد صاحب التجربة الحقيقية فى العمل السياسى السرى والعلنى: لقد أسهم الاحتراف فى العمل السياسى التقدمى فى المحنة الدائمة للطلائع اليسارية وللحركة العمالية، وكان من أخطر آفاتها المزمنة.
يقول سعد زهران عن الجيش المصرى بالنص وكأنه يتحدث الآن:
 كان الجيش المصرى فى قلب السياسة، كان هو المؤسسة الأولى فى الدولة، وهو الأداة الأولى فى التحديث الاجتماعى والإصلاح الإدارى، والبناء الاقتصادى ومقاومة التسلل والغزو الاستعمارى، كان جيش مصر أيضاً قوة فاعلة فى المنطقة كلها، مصدر قلق وخوف للإمبراطوريات المسيطرة والمتسللة معا، كما أن تطويعه واستخدامه هدف ومطمع، وذلك بمحاولة تفريغه من إرادة الاستقلال ومن الطاقات الوطنية المصرية، لن أستطرد لأن كثرة الخصوم والأعداء حرمت مصر أكثر من مرة من حصاد بطولاتها العسكرية.
أما عن تجربته مع الإخوان فإنه يقول وكأنه يرد على بعض الأفكار التى مازالت تتردد:
«أما الإخوان فإن فكرة الجبهة لم تكن واردة بالنسبة إليهم أصلاً، حيث ظلوا يرون فى أنفسهم القوة الوحيدة الجديرة بالوجود المؤهلة للقيادة، ومن ثم استمروا - كشأنهم دائماً - يسارعون إلى سلاح التكفير، قبل أن تبدأ أى جهود جدية بحثاً عن موقف مشترك أو نضال موحد».
أما عن الطلائع المستنيرة فى الطبقة المتوسطة فإن عليها أن تغير تعاملها مع مطالب الحرية والديمقراطية، وبدلاً من أن تتخذ منها فرصة للهجوم على الخصوم، ومحاولة الوصول إلى مواقع النفوذ - تعتبر الحرية والديمقراطية منهجاً وأسلوباً فى الحياة، وقيمة حضارية يجرى تدريب القواعد على ممارستها فى الحياة اليومية، إذا لم تستطع الطلائع أخذ هذه المسؤولية والقيام بها، فإنها ستكون مسؤولة عن أن الانتخابات (أى انتخابات) لن تكون إلا تغيير للأسماء مع استمرار مظاهر الاستبداد فى السلطة والمجتمع، وتداعيات الاستبداد وأمراضه المزمنة، ومنها:
 العقم الفكرى، والتخلف الحضارى، وهمجية العلاقات بين البشر، والاستنزاف المعنوى والروحى.
فى مقاله القديم المدافع عن ثورة الشباب والطلبة فى كل العالم 1968، الثورة التى انطلقت فى الشرق والغرب من أمريكا إلى الصين إلى أوروبا وشملت مصر ودولاً أخرى كثيرة فى العالم الذى كان يقال عنه العالم الثالث: كانت الصرخة الأساسية أن العالم أصبح لا يحتمل، وأن قوانين الانتخابات الديمقراطية تحت ظل القوانين السائدة وقتها - هى شكل من أشكال تثبيت القمع، وأن الثورة إذا لم تغير أو ترفع الحواجز بين الحاكم والمحكوم - فكأنها لم تحدث.
ونختم تقليبنا فى صفحات المجلدات الثلاثة العظيمة القيمة بما يأخذ شكل وصية الرجل الذى ظل لسنوات يراقب حياتنا بعيون يقظة وضمير حى:
«إذا هبط الإنسان دون مستوى معين فليس ثمة حدود لتدهوره».
«الحرية كالحب والمعرفة نفقدها حين نغفل لحظة عن النضال من أجلها».

سعد زهران: مختارات من الفكر السياسى:
 3 مجلدات، مركز المحروسة للنشر - القاهرة 2009.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 يونيو 2014

السبت، 7 يونيو 2014

لا شيء أقوى من أحلام النساء

    
                  

«المرأة آخر مستعمرات الرجل، هذه حقيقة يشعر بها الرجل، ويحس ثقلها، ويخاف من نتائجها. لذلك تراه يقاتل بكل قواه، على مختلف الجبهات، كى لا يسلم بخروج هذه (المستعمرة) من أملاكه- كى يمنع تحررها واستقلالها، أو يؤجل أحكام التاريخ عليه»- بهذه المقدمة الصادمة يقدم مركز دراسات الوحدة العربية كتابه الجديد. الذى يضم تسعة أبحاث سياسية واجتماعية عن وضع المرأة وحقوقها المنتهكة والمغتصبة، فى شرق العالم العربى وغربه. أبحاث علمية إحصائية موثقة مزعجة ومثيرة للتفكير، ولكنها تقدم فى الوقت نفسه تسجيلاً أميناً للتقدم والتأخر فى نيل الحقوق على الورق وفى النصوص والقوانين، وانتهاكها فى الواقع اليومى:
 داخل البيت، وفى العمل، وفى المجال العام والمشاركة السياسية، هناك مساحة شاسعة بين النص والواقع.
ليس الحديث عن وضع المرأة وحقوقها حديثاً فى موضوع جانبى أو نظرى، إنه موضوع يسكن قلب أفكار الثورة، والتنمة، والتغيير، لا تنمية من دون «مواطنة» ولا «مواطنة» من دون إرساء لديمقراطية تكفل حق الاختلاف، ودون مشاركة فاعلة لكل أطياف المجتمع المدنى فى صناعة القرار:
وغياب المرأة عن الاشتراك فى تسيير الشأن العام يعنى- بوعى أو بدون وعى- بقصد أو بدون قصدنا نصف المجتمع: نصف عقله، ونصف قوته: وأكثر من نصف مستقبله!
يستند قهر المرأة وانتهاك حقوقها فى كثير من الأحيان إلى حجج دينية مغلوطة، أو إلى قوانين يساء تفسيرها وإعمالها، أو إلى العرف. والمرأة العربية لا تملك فى مواجهة كل هذا سوى التمسك بـ«الحلم»، إنها تواجه كل قوى المجتمع الغاشمة:
بالإصرار على «الحلم بواقع جديد» واقع متخلص من أساطير: سلطة الذكر، وخلق حواء، وأطياف الحجاب الجسدى والاجتماعى، واستبدال: السيطرة والقهر بالمودة والرحمة.
 المرأة العربية: فى فلسطين والجزائر فى تونس ومصر قادرة رغم ضراوة الواقع، وتقلبات الأوضاع والسلطة، على الإصرار والتمسك بالحلم.
الأستاذة «دنيا الأمل إسماعيل» من فلسطين تقدم بحثاً سياسياً تاريخياً عن دور المرأة فى المشاركة السياسية فى كل الأدوار المختلفة التى مرت بها:
 من المقاومة المسلحة، إلى الانتفاضات ضد الاحتلال، إلى ما بعد «أوسلو» من تفاوض وانتخابات بلدية وتشريعية، ومحاولات استعادة الوطن بحدده ومنظماته واستكمال دستوره وسلطاته ومجتمعه المدنى.
قدمت نساء فلسطين أول 9 شهيدات فى معركة البراق سنة 1929، احتجاجاً على أنشاء أول مستوطنه يهودية.
 وظلت المرأة الفلسطينية شريكا فاعلاً مع منظمة التحرير. وتحركت من الكفاح المسلح إلى العمل السياسى والمدنى. وفى عام 1978 نشأت أول حركة نسائية فى الريف، وفى عام 1990 مع مفاوضات مدريد واتفاق غزة- أريحا عقد فى القدس مؤتمر ضم كل أطياف الجمعيات النسائية لتحديد دور المرأة فى المراحل الجديدة من تاريخ الوطن إلى أن وصلنا إلى انتفاضة الأقصى، حيث واجهت المرأة الفلسطينية قوى الاحتلال بصدرها المفتوح، وقدمت فى هذه الانتفاضة 66 شهيدة. أما فى الحرب البشعة على قطاع غزة 2009 فقد ارتفع عدد الشهيدات إلى 103 بنسبة 32.5٪ من إجمالى شهداء هذه الحرب الإجرامية.
يستمر بحث الأستاذة «دنيا الأمل» ليصل بنا إلى الواقع الراهن: تحول أغلب النشاط النسائى إلى العمل الاجتماعى «وتدريجياً اكتفت المؤسسات النسوية بتحقيق مطالب وتوجهات الجهات التمويلية فى تنفيذ برامج ونشاطات بعيدة عن السياسة» وبذلك عزلت المنظمات عن القواعد الجماهيرية التى مازالت، رغم كل الظروف، مشغولة بقضية تحرير الوطن.
 أصبحت الكثيرات فى مواجهة السؤال المر: ما جدوى ما نفعل؟!
ترصد أبحاث الكتاب فى عجالة موجعة أحوال التراجع والتردى الذى حاق ببلاد الثورة الجزائرية العظيمة، فى أعقاب الحكم الإسلامى وسنوات الإرهاب الأسود العشرة التى قضت على كل حقوق المرأة، وتخلفت بشكل غير مسبوق بمستويات التعليم، ومازالت الولاية الثالثة للرئيس الحالى تحاول بطريقتها رتق ما تمزق من مجتمع كان فى الستينيات والسبعينيات واعداً بتقدم وتنمية ومواطنة كريمة.كذلك تدرس البحوث التسعة التى يقدمها الكتاب نموذج مجتمع المغرب تحت السلطة الأبوية لجلالة الملك أمير المؤمنين «الراحل والحالى» لقد كان الجواب الدينى الأبوى هو الرد على المطالب والاحتجاجات. قال الحسن الثانى فى سبتمبر 1992 «الأسرة شىء مقدس عندى، وبصفتى أباً للجميع وأباً لأسرتى الكبيرة لابد أن أحرص على أن يكون بيت كل مغربى فى انسجامه وفى تحابه وتماسكه كبيت واحد من فلذات كبدى» أما محمد السادس فقد قال فى خطاب تشكيل لجنة وضع قانون الأحوال الشخصية الجديد:«لقد آلينا على أنفسنا منذ أن اعتلينا عرش أسلافنا المنعمين أن نواصل النهوض بأوضاع المرأالمغربية».
 إلى أن قال جلالته:
«لا يمكننى بصفتى أميراً للمؤمنين أن أحل ما حرم الله وأحرم ما أحله».
ومازالت المغرب تشكل حالة سياسية فريدة فى تشابك تاريخى اجتماعى أبوى بين الدين والسياسة.
عن ثورة الياسمين فى تونس 14 يناير 2011 يقدم الكتاب وثيقة نادرة على لسان خمس سيدات مشاركات فى الثورة فى منطقة «السكان» وهى تقع فى شمال غرب تونس حوالى 160 كيلو من العاصمة تجاه الحدود مع الجزائر.
السيدة فاطمة «50 سنة موطنة كبيرة فى الحكومة» ظلت طوال أيام الثورة مشاركة بفاعلية فى المظاهرات والاحتجاجات، رغم أن زوجها يعيش فى الخارج، وهى ترعى البيت وثلاث بنات بعد هروب بن على، انطلق فى طول البلاد وعرضها انفلات أمنى ونهب للمتاجر والبيوت، وعاشت هى وبناتها أياماً عصيبة، إلى أن تشكلت من الجيران قوات حماية شعبية، واشتركت مع قوات الجيش، فى فرض بعض الأمن فى المنطقة، تقول السيدة فاطمة: «لقد اكتشفت فى أيام الثورة حقائق أفزعتنى عن بنى وطنى: رأيت بأم عينى أفراداً كانوا يقدمون أنفسهم على أنهم أشراف البلد وأسيادها، ينهبون الأملاك العامة والخاصة فى الليل، ويبدون استغرابهم ممن يفعل ذلك نهاراً»، لقد حضر فى ذهنى الأمهات فى فلسطين والعراق وأفغانستان وكل البلاد التى تعيش باستمرار حالات الاضطراب وعدم الاستقرار، ودعوت الله أن يفرج كربهن.
أما السيدة زينب «42 سنة أم لطفلين» فقد وضعت يدها على فكرة مهمة فى تحليل حالة الانفلات واللامسؤولية التى عاش فيها البلد بعد سقوط النظام.
إن سنوات القمع قد قتلت فى المواطنين الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن، إن الشعب يكون على شاكلة حاكمه، والنظام الجديد مطلوب منه أن يرسى قواعد جديدة لمجتمع مدنى مبنى على احترام الفرد وإشراكه الفعلى فى بناء الوطن.

المرأة العربية من العنف والتهميش إلى المشاركة السياسية. باحثات عربيات.
 مركز الوحدة العربية. بيروت 2014
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 7 يونيو 2014