الاثنين، 22 فبراير 2016

«أيام وردية».. سيرة ملّاح هزمه الليل والنهار!





سميرة سليمان
بطل الرواية يعاني من ثقل المبادئ والقيم
فلسطين تشكل هماً لا يشعر به غيره
حين تصبح المصحة النفسية حلما يبعده عن كابوس الواقع

“في هذه الأيام، لم يكن أمين الألفي يعشق إلا شجرة سنديان فريدة، تقف وحدها خارج البلد قوية جميلة موجودة حقا، يعشقها فعلا عشقا ليس كعشق الشجر، هكذا قال أمين الألفي لنفسه، وهو خارج في تمشية ليلية وحده بالشبشب والبيجامة، متمنيا ألا يرى أحدا، وألا يضطر لتبادل الحديث”.

أمين الألفي هو بطل رواية الكاتب الكبير الراحل علاء الديب الأخيرة “أيام وردية” الصادرة عن دار الهلال، توقفت حياة البطل بعد هزيمة ١٩٦٧، البطل يعاني من الاكتئاب وأعراض الانسحاب من الحياة، ويبرز الديب في دقة متميزة كيف أن قضايا الوطن ومحنه تكون سبباً في ضياع حياة البطل، الذي يمر بمآسي كثيرة عبر الرواية، لتصبح الأيام الوردية في حياته هي تلك التي عاشها بين جدران المصحة النفسية.

يقول الديب في صفحات أوراقه التي يذيل بها روايته الفلسفية وكأنه يوضح الهدف من كتابتها: في رحاب فلسفة الأخلاق تاريخها وتطورها أجد السلوى والملاذ، فكل ما أريده في النهاية أن أكون رجلا صالحا بجد، وأن أشن حربي الخاصة التي لا هوادة فيها ضد الكذب والنفاق أبشع خصائص الطبقة المتوسطة.

أمين الألفي، هو مفكر عربي وحيد، كثير الأقنعة، بعد طول ازدواج وظلم صار فقط لحظات مفتتة، وماضيا يتوارى من نفسه، ملاحا قديما رابضا على الشاطئ، مهزوما في الليل وفي النهار. ونرى أمين الألفي في صالة شقته “أمام أكواب القهوة الفارغة، والمنفضة الممتلئة: عاريا، مخترقا، منزوع السلاح … ليس عنده ما يقول. يشعر بأنه “لا تنمو له بذور، وتتفتت كل الأشياء في يديه حتما في النهاية”.

عندما يخبو العشق في العروق تصبح الحياة مستحيلة، ترنم أمين الألفي حزيناً: الحياة العشق والعشق الحياة، لابد أن تشتعل عشقا حتى تشم رائحة الوجود، دون ذلك تسقط معهم، مع الملايين التي تعيش وتموت دون أن تعشق أو تحب، الملايين التي تفعل طوال حياتها ما لا تحب، وأبدا لا تستطيع أن تدرك ما تحب.

عندما انسحب الألفي من مواقعه في القاهرة بعد “قصمة الظهر الكبرى” نكسة ٦٧ وجاء إلى المنصورة، كان يريد أن يعيش مرحلة جديدة، ساعده أصحاب العلاقات من بقايا معارفه في الحصول على هذه الوظيفة في التربية والتعليم، أخصائي اجتماعي، أهم ما حدث أنه لم يعد يشتاق للقاهرة، لم يعد يطيق الإقامة فيها على الإطلاق، إذا ذهب يعود في نفس الليلة.

اختطاف زوجة!

في المنصورة،  فكر وكتب ونسق وألقى محاضرات وأقام مؤتمرات ونظم ندوات لكي يبدأ هو ومن معه من أول وجديد، واحتمى بأحضان زوجته “مس شادن البيلي” مدرسة الإنجليزي وبضحكات ولديه “بهجت وبسمة”، لكن يوماً بعد يوم تتكشف أمام الألفي الحقيقة عارية تماماً، إن ما يصنعه كل ما سيصنعه هو حرث في البحر.

مدرسته هي هي، بل إنها كل يوم تصبح أسوأ: فصول قبيحة وتلاميذ مكدسون ومدرسون أصابهم سعار الدروس الخصوصية وإدارة فاسدة من رأسها حتى أخمصي قدميها.

وزوجته شادن البيلي التي كانت حقل حنطة يعد بالخصوبة والأمان والجمال أصبحت أرضاً خربة، لقد استولت عليها “الحاجة زينب” وهي إحدى مدرسات المدرسة، تصفها الرواية بأنها امرأة من نوع غريب، كاملة التسليح، في الحجم والجمال والذهب. كتاب الله، حجابها الأنيق وذكاؤها الخارق أمور جعلت لها في المنصورة نفوذاً بالغاً، بعد سنوات إعارتها هي وزوجها صنعا معاً ثروة وفعلا معاً كثيراً من أعمال الخير، وأعمال الشر التي تجبرك عليها الحياة العصرية والحاجة زينب أو “زيزي”كما كان يناديها أمين وهما وحدهما.

فعلى الرغم من أنها تؤكد أنها لا توافق على “أبعديات” الدروس الخصوصية التي أقامها الزملاء الأجلاء إلا أنها تأتي لكي تتحدث معهم في صفقات ومصالح متبادلة، مع كل واحد منهم لها أسلوب وطريقة.

استطاعت “الحاجة زينب”، حصار زوجته شادن البيلي حتى ابتعدت عن زوجها تماماً بزعم هدايتها، توغلت في أركان شقته كتب عذاب القبر بما فيها من ثعابين ومرذبات حديد مشتعلة، أخذوا زوجته التي كان يجدها في الفراش، وأمام أطباق الإفطار وأكواب الشاي ويلامس وقت الضيق شعرها ووجهها في محبة وحنان ساعات الغروب.

المحاولة التي ترهقه وتصيبه باليأس، هي محاولته لأن يحمي بسمة وبهجت أولاده من الآثار المدمرة للصراع الدائر بينه وبين أمهما.

عندما قابل شادن في القاهرة بعد انهيارات ٦٧ كانت تجري في مكاتب الجرائد والمجلات، تكتب موضوعات وأخبار لإعلاء كلمة اليسار وقوى الشعب العامل، مندفعة متحمسة، فهي حقل قمح خصب نادر، دخل إليه هربا من النهم والهلع الذي أصاب الجميع، ما في يده الآن حبات قليلة من قمح جاف.

سر مفتاح!

يسارية أمين الألفي القديمة تعاوده كأنها الحمى، فيتصور أنه كان من الممكن حل كل هذا. كان من الممكن أن تكون الأحوال أحسن بمئات المرات لو وجد أناس حقيقيون يطبقون الاشتراكية ويعيدون بناء هذا البلد.

لم يفهم أبداً لماذا انتصر الانتهازيون والضباع في كل مكان. لماذا انزوى كل وجه نبيل وكل قيمة شريفة؟.
عندما عرف أمين الألفي “مفتاح” الذي له من العمر اثنتا عشرة سنة، ولكنه من الفقر يبدو في السابعة، حطت على كتفيه أثقال الوجود كلها.

كان مفتاح كائنا دقيقا وجميلا يشع بالذكاء، وكل الطيبة الممكنة لطفل في سنه وظروفه، متفوقا جدا وفقيرا جدا.

استطاع الأستاذ أن يدبر له كل ما أمكنه من دعم ومساعدة غير جارحة، كثيرا ما أخذه ليسير معه في نوبات المشي التي كانت تجتاحه.

استطاع أن يدبر عملا لمفتاح..قارئا للأستاذ مندور الذي كف بصره. كان الأستاذ القديم أكثر من سعيد بذكاء الولد وتفوقه. وكان مفتاح يشتعل عشقا للمعرفة وللآفاق الجديدة التي تفتحها له الجرائد والمجلات والكتب التي يقرأ فيها للأستاذ مندور.

إدمان وانسحاب

تعقدت أزمة البطل بإدمانه العقاقير من مهدئات ومقويات ومنشطات، فضلا عن أنواع الكحول الرخيصة التي كانت تسمح له بها ميزانيته المتواضعة. اعتاد الخروج من بيته كل ليلة “بالبيجاما والشبشب” متوجها إلى الصيدلية القريبة للحصول على حباته الثلاث، ولكي “يدردش” قليلا مع صديقه الصيدلي الدكتور ظريف.

ينظم الألفي في الشهور الأولى من مجيئه للمنصورة بعض المحاضرات والندوات عن فلسطين لكنه يتعرض لتحقيق رسمي من المباحث بحضور ناظر المدرسة، ويبلغ بأن هذا النشاط خطر وغير مرغوب فيه.

سمع أحد المدرسين يشير إليه ساخرا “بتاع فلسطين”. يقول الراوي: “كانت فلسطين” في عقل أمين الألفي في هذه الأيام وقبلها وبعدها: رمزا، فكرة مسيطرة يقيس بها مواقع الناس، عاملا مساعدا يكشف به الصدق من الكذب.”

يتعرف الألفي في صيدلية صديقه على الدكتور ألبير بشاي، الذي يدير مع بعض الزملاء، مصحة نابلس، في حي مدينة نصر بالقاهرة. للدكتور بشاي صلات فلسطينية قوية حتى أن البعض يعتقد أنه فلسطيني. يعمل بعيدا عن الكذب والشعارات. يعمل هنا وهناك وفي الأرض المحتلة وحتى في اسرائيل وسط أمواج من المحتاجين واللاجئين والجرحى.

دعاه إلى زيارته في مصحته قائلا: “يجب أن أفحصك هناك. لم أعد أحب ما أسمعه من ظريف عن أحوالك، ولا أحب ما أراه أمامي. كأنك في التسعين، تجر في رجليك مئات السنين.” ولأن علاقات الألفي في المدرسة وفي المنزل كان قد أصابها التدهور الشديد في الآونة الأخيرة فضلا عن تردي حالته الصحية، فقد قبل الاقتراح على الفور.

في المصحة  يتذكر أولاده، وكيف انتقلت إليهم علاقته الخاصة والمركبة مع معاني وتصاريف قضية فلسطين السليبة: بسمة المتسرعة التي لا تستقر مع شيء، وبهجت المندفع، الذي ألقى “شبشبه” الصغير في وجه الجنود الاسرائيليين في رفح عند الحدود في رحلة إلى هناك منذ سنوات. وزوجته أيضا التي “تكرههم كراهية التحريم، خاصة بعد أن تحجبت”.

ومضات من ماضي أيامه: بيته القديم، مغامرات سن المراهقة، الانخراط في التنظيم الطليعي، ورحلة أوروبية في البلدان الاشتراكية سابقا. يرى أمام عينيه مرة أخرى أغلب تجارب حياته تنتهي إلى لا شيء، تتوقف قبل أن تكتمل.

فلسطين حاضرة دوماً

في المصحة أيضا، انفردت به وهو راقد أهوال قضية فلسطين. ماذا يفهم؟ وماذا يصدق؟ وما هي كل هذه “الكركبة” والقدرة على اختراع الأكاذيب.. يرى بعين خياله فلسطين تمزق بسكين باردة.

يتعرف في المصحة على عفاف الفلسطينية التي تعالج من أزمة عصبية بعد اغتصابها على يد مسلحين إبان الحرب الأهلية اللبنانية حيث كانت تدرس في بيروت. يرتاح كل منهما للآخر. تيقن أن هذه الروح هي وردته الصفراء التي ظل يبحث عنها. تمنى أن يجمع لها كل لحظات السعادة والوجود المتكامل التي عرفها في حياته وأن ينثرها تحت قدميها قربانا وهدية خالصة، علها تداوي بعضا من التعاسة والشقاء الذي عاشته.

وعندما تتمالك عفاف نفسها قليلاً تطلب من الألفي أن يأخذها إلى حيث الكتاب والفنانين والمثقفين الذين عاشت عمراً تقرأ لهم وعنهم. وعندما يأخذها إلى واحد من تلك التجمعات يقابلهما النجم الثقافي والصحفي اللامع “ف. ف”، وما أن يجلس بجوار عفاف حتى تنتفض محمرة الوجه متوترة، لتخبر الألفي أن لصحفي الشهير حاول التحرش بها!.

ويجد الألفي نفسه مستعيدا رسالة صديق له يعمل بالخليج. يقول صديقه: “في الليلة الماضية سهرت مع رجل فلسطيني استطاع أن يدخل إلى إسرائيل لمدة 48 ساعة. ذهب فورا إلى حيث يقع بيت عائلته المهدم، وأمسك بخرطوم ماء وأخذ يروي الأرض الخراب المحيطة بالبيت طيلة الساعات التي قضاها هناك، وعاد. لم يكن يرى أي حماقة في ما فعل، بل قال: إن هذا أحسن عمل قمت به في حياتي.”

استراح أمين الألفي لإيقاع الزمن الجديد في المصحة، لم يشعر للحظة واحدة بالحبسة أو الضيق. لم يخطر على باله أبدا أنه معزول عن العالم، هذا هو العالم الحقيقي، أما الآخر فقد كان كابوسا وانقشع.

خلال أيام وردية عاشها أمين الألفي في المصحة لم يكن يشعر أنه يمشي على الأرض حقا، كان يعيش في الخيال، وعندما تعيش في الخيال فأنت لا تريد شيئا، ولا تجري وراء شيئ، وقد لاءم هذا طبعه.

زار الفتى مفتاح مع الأستاذ مندور أمين في المصحة، وأثار الصبي أسئلة عديدة عن فلسطين، لماذا يظل الصبي الفلسطيني يضرب بالأحجار بينما الجندي الإسرائيلي يضع القنبلة على عربة صغيرة بالريموت، ويوجهها إلى قلب المظاهرة الفلسطينية؟ ولماذا لا نذهب ونساعدهم؟.

ضياع وسكينة

خرج أمين من المصحة، واقترحت الحاجة زينب أن يسوي معاشه من الحكومة، ووافق بالطبع وتولت هي وأعوانها الإجراءات، ساعدت الحاجة شادن زوجته على الطلاق منه.

لم يسمع أكثر من ذلك، فقد كان مشغولا بتأمل الدمار الرائع الذي يريدونه أن يبدأ منه، يرى ما وصلت إليه حياته، وكيف تحولت أحلامه وأيامه فتاتا ممضوغا يكره أن يراه أحد..الهزائم كلها ثقيلة في كفته، وميزان العدل ثابت على خسارته.

فلسطين دائما تسد حلقه، كأنه هو الذي باع وخان، هنا في مصر في قلب أمين الألفي مكان القضية، أحلامه وأيامه وزوجته وأولاده ووجوده جرى لهم ما جرى للقضية.

أرض قرية “حصماية بحري” التي جاءت منها بذرة أمين الألفي فهي قرية والده، أوولى بأيامه الأخيرة وبلحمه.

بعد أن خرج أمين الألفي من مصحة نابلس للأمراض العصبية، عرف أنه خرج كما دخل، دخل حانقا وخرج بليدا  يجر كرامة مهدرة وجرحا لا يطيب، هام لوقت غير معلوم في مدن لا يعرفها متنقلا عبر الطرق السريعة، ومواقف التاكسيات، ومحطات السكة الحديد، واللوكاندات غير السياحية، ومقاهي الأقاليم والبارات الشرعية وغير الشرعية، كأنه يبحث عن حل للقضية غير الكلمات.

مازالت أسئلة حياته الغبية تطارده. هل هذه حياة؟، لماذا الكذب حتى في الخرائط؟، لماذا ترهقه فلسطين وتتلبس روحه، توأم الروح وتوأم الهزيمة.

كل الناس شاهدوا أمين الألفي في تلك الأيام شبحا عابرا، طويلا رث الثياب، يمشي لفترات طويلة مسرعا قلقا متنقلا في مدن لا يعرفها، أما هو فقد كان يشير أحيانا بيديه ضائقا من كل شئ، وأحيانا يدمدم كان يقول لنفسه: كيف يستطيع الناس أن يفكروا دائما أبدا في أنفسهم فقط، ألا يعيدهم هذا حيوانات. هم حتى لا يفكرون، يأخذون فقط.

أمضى أمين الألفي أيامه الأخيرة في كشك صديق والده إبراهيم أبو خليفة، في القرية وسط غابة زرعها أبو خليفة من أشجار اللوف وست الحسن.

نزلت على أمين هناك في تلك البقعة الساحرة سكينة لم يعرفها من قبل، الدنيا بعيدة لا يصله منها كذب، هنا لم تعد الظنون تلدغه، ولا تصله حتى أصداء فلسطين، تحميه خضرة كثيفة من أوراق اللوف الكبيرة الخضراء.

هنا عرف أخيرا كيف يموت، رأى أكثر من مرة تفاصيل النهاية والرحلة عبر البرزخ.

يجد نفسه راقدا ميتا في هدوء، تحت شجرة السنديان، بدنه ضخم يرتدي ثيابا غريبة ملونة، قلبه طاقح بالعشق، وعيونه مغلقة، حوله دنيا واسعة خالية، ليس إلى جواره أحد. لم يكن حزينا. يراقب الأشياء وهي تنتهي ليس في ضوضاء، لكن في سكينة، هكذا تنتهي الروية.


ورغم أن البطل نفسه يموت في النهاية، فهو يترك لنا بعض الآمال في “مفتاح” الفتى الفقير المتفتح، الذي كلفه الألفي باسترجاع صندوقه وذكرياته من بيته القديم والاحتفاظ بها لدى الدكتور ظريف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في موقع محيط بتاريخ 22 فبراير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق