السبت، 3 يناير 2015

مقهى الشباب الضائع

           

«عندما نحب شخصاً بشكل حقيقى، يجب علينا أن نقبل جزءه الغامض.. لهذا السبب سنبقى دائماً نحبه»، هكذا يقول«باتريك موديانو»، الأديب الفرنسى صاحب نوبل هذا العام، فى ختام روايته مقهى الشباب الضائع «2007»، لم أكن أعرف هذا الكاتب الذى اخترق ضباب ما بعد الحرب العالمية الثانية والاحتلال النازى لفرنسا، واحتقان الحياة الاجتماعية والسياسية والأمنية منذ ذلك الحين وحتى الآن، موديانو «مواليد 1945 - صاحب حوالى 30 رواية، وعدد من سيناريوهات الأفلام ذات الطابع السياسى، وأعمال متنوعة للأطفال»، أصبح معروفاً بعد نوبل التى كانت مفاجئة له كما كانت مفاجئة لكثير من الأوساط الأدبية ودوائر المحافظين، وأصحاب الآراء السياسية الجامدة.


لغة موديانو الفرنسية وأسلوب كتابته إنجاز عصرى
«لأنى لا أقرأ بالفرنسية فأنا أنقل آراء بعض النقاد العارفين»، عندما يقال أحياناً عنه إنه مارسيل بروست «1871-1922» صاحب «البحث عن الزمن المفقود»، التى يعتبرها كثيرون واحدة من أهم إنجازات الأدب الفرنسى الحديث «ترجمها إلى العربية - إلياس بديوى - وصدرت عن دار شرقيات 1994»، عندما يقال إن موديانو هو بروست الجديد فإننى أشعر - رغم معرفتى المحددة فى الموضوع - أن فى هذه المقارنة إغفالاً للإنجاز الأساسى الذى لمسته عند صاحب نوبل الجديد، كتابته«كما وصلت عبر الترجمات التى يختلف مستواها» سهلة ممتعة، وأسلوبه مكثف وقاطع، ليس هناك زخارف لغوية أو بلاغية، ولكن هناك سرعة وإيقاعاً لاهثاً يوجد بمستويات متنوعة فى الروايات البوليسية، روايات الخيال العلمى، ولكن بقدر واضح من الحساسية والدقة فى خلق روح المكان«فى الغالب مدينة باريس: ليس كما نعرفها فى الصور وكتب السياحة»، ولكن باريس الحقيقية، باريس الخلفية:
 الحارات، والأزقة، المقاهى، والبارات الشعبية، الشقق المفروشة، والحدائق الصغيرة على حافة المقابر.


موديانو عبر أكثر من 28 رواية تدور فى باريس، خلق باريس خاصة به، باريس قلقة حزينة متوترة ضائعة مع شباب ما بعد الحرب حتى البوهيميين والكلوشار، وأحداث الستينيات، وإضرابات الامتناع عن العمل، يقول فى أول رواية
«فى مقهى الشباب الضائع»:

«كانوا أوفياء لشبابهم أى لهذه الكلمة الجميلة والرخيمة والمهجورة التى نطلق عليها (بوهيميين)، أبحث فى القاموس عن تفسير لكلمة (بوهيمى) فأقرأ:

 شخص يعيش حياة متسكعة من دون قواعد، ولا قلق على المستقبل، هذا التعريف ينطبق على مرتادى مقهى (كوندى)».
مقهى «كوندى» هو البطل فى هذه الرواية القصيرة العبقرية، التى جمعت كل إنجازات الكتابة المعاصرة، جعل روح هذا المقهى الصغير تنطق بكل خصائص ومشاكل ومتاعب العصر، المكان نفسه، ورواده الذين لا يتعدون العشرة، وضعتك فى قلب المجتمع الباريسى التحتى، الذى يعانى الفزع والوحدة، والضياع بين إدمان الكحول والمخدرات، والأفكار المستوردة من الشرق، التى غزت عقل شباب أوروبا:

 أفكار العود الأبدى والآفاق الضائعة وفلسفات التبت وكتب الاستشراق والديانات البوذية، حيث صور:

 الظهيرة المظلمة، والضوء الأخضر، والتركيز الروحى، والكريستال الذى يحلم، اجتمع فى مقهى كوندى، العرب والسود والفرنسيون المضروبون بالإدمان والوحدة والقلق المرضى الذى أقوى من الخوف.

من كل هذه الشذرات والشظايا البارقة صنع موديانو عالم شباب ما بعد الحرب الذى يدرس، ولا يدرس، يحب ولا يمارس الحب، يحلم بالخروج من هذه الحياة العادية الخانقة ولا يخرج، يحلم بالهواء الطلق، ويمضى حياته مختنفاً فى البارات والمقاهى الخانقة، والغرف الضيقة المفروشة، والخالية من الأثاث.

موديانو هو الروائى الفرنسى الخامس عشر الذى يحصل على جائزة نوبل، هو يعمل على الذاكرة التاريخية والسياسية والعائلية وأساساً ذاكرة الفرد، بل هو يقول إن روايته كلها هى عمل واحد يعيد فيه رواية حياته.

 الحياة عبارة عن صندوق قديم يحتوى على صور ممزقة أعيد تجميعها، ذاكرتى أنا سبقت حياتى، أشعر بثقة أننى عشت فى باريس أيام الاحتلال النازى (1940-1944) هو من مواليد 1945، كان أبوه يهودياً إيطالياً، وأمه فلمنكية غير يهودية، وكان له شقيق واحد مات فى سن العاشرة«واحدة من أكبر المآسى التى تركت فى نفسه جرحاً عميقا»، أما الأب فهو مشكلة المشاكل، فقد أمضى حياته كلها مطارداً لاتهامه بالتعاون من الجستابو النازى، طوال حياته مع ابنه كان مطارداً يلتقى به خفية فى المقاهى أو محطات القطارات، يقول فى روايته «مقهى الشباب الضائع»:
«هل أنا مسؤول عن أبى، وعن كل الأشباح التى كان يتحدث معها بصوت منخفض فى ردهات الفنادق أو القاعات الخلفية فى المقاهى والذين ينقلون حقائب لا أزال حتى الساعة أجهل محتواها».


الشخصية الرئيسية فى الرواية القصيرة المزدحمة «120 صفحة» هى «لوكى» فتاة غامضة «ذابت فى ديكور المقهى» هاربة من أهلها فى الطفولة حيث تعتقل أكثر من مرة بتهمة تشرد الأحداث، ثم تظهر وقد قاربت العشرين لكى تصبح صديقة الجميع ولكنها ليست صديقة أحد، وحيدة لا تستطيع أن تحدد لها وظيفة، ثم تتزوج من رجل يقع فى غرامها، وهو أكبر منها بحوالى 15 سنة، وما تلبس أن تهرب مرة أخرى من زوجها.


وكأن الرواية كلها بحث عن هوية لوكى، الراوى فى الجزء الأول هو الكاتب الذى نعرف من خلاله لوكى، وفى الجزء الثانى يتحول الراوى إلى مخبر سرى خاص يستأجره زوجها المغدور الذى يحبس نفسه فى شقة شبه خالية بعد أن هجرته الزوجة التى كانت قد تعرفت إلى مجموعة ملتفة حول داعية لفلسفة من فلسفات البوذية، التى تتحدث عن «النقط الثابتة» والمناطق المحايدة والعود الأبدى.

«لحد اليوم، يحدث لى أن أسمع فى المساء صوتاً ينادينى باسمى فى الشارع صوتاً أجش، تجر قليلاً المقاطع اللفظية فأتعرف عليها على الفور، إنه صوت لوكى أدور، ولكن لا أحد، ليس فقط فى المساء، بل فى جوف ساعات ما بعد الظهيرة فى الصيف، حيث لا يعرف المرء فى أى سنة يوجده، كل شىء سيبدأ من جديد، كما من قبل، نفس الأيام، نفس الليالى، نفس الأمكنة ونفس اللقاءات، العود الأبدى».

لوكى وصديقة لها يلتقون بباريسى غنى غريب الأطوار، وهم واقعون تحت تأثير أنهار النبيذ، ومخدر آخر يطلقون عليه «الثلج» «نوع من الهروين فيما أعتقد»، ويدعوهم مع الأصدقاء إلى رحلة إلى المكسيك أو الإقامة فى بيته فى مايوركا، ولكنهم يفضلون البقاء حيث هم فى المقهى الأبدى ويتبادلون اللعب بأبيات الشعر بكل اللغات التى يعرفونها.


أصحاب الأيام السيئة
أتمنى لكم ليلة سعيدة
بين المقهى وغرف الشقق المفروشة يستمر الدوار العبثى للشباب الضائع، وفى بحثهم عن مقعد فى حديقة يجدون شجرة عجوز وقد كتب عليها «هذه الشجرة خطيرة، سيتم قطعها قريباً، وسيتم وضع أخرى مكانها ابتداءً من هذا الشتاء».


لم يعد هناك خطر اللقاء بالأشباح، لأن الأشباح نفسها كانت ميتة.
ظل البوليس الفرنسى يطارد والد الكاتب بعد انتهاء الاحتلال النازى، حتى توفى فى ظروف غامضة ولم يعرف الكاتب لوالده مدفناً، كانت
السماء مثل الخيمة الممزقة لسيرك فقير.

غابت لوكى عن مقهى كوندى أياماً، وعندما ظهرت صديقتها التى كانت تسكن معها الشقة المفروشة، عرف الجميع
«لوكى ألقت بنفسها من النافذة» وقالت صديقتها إنها سمعتها تقول لنفسها كى تتشجع انتهى الأمر، طاوعى نفسك واستسلمى.
وكانت عقارب ساعة المقهى القديم تشير إلى الخامسة.

**
نوبل 2014 ذهبت إلى أديب حاول التعبير عن ضياع أوروبا الآن.


مقهى الشباب الضائع - باتريك موديانو

 - ت محمد المزديوى 
- الدار العربية للعلوم - الرياض

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 3 يناير 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق