السبت، 17 يناير 2015

لويس عوض: معلم يبحث عن الحرية

                 
                 

مائة عام مرت عليه وهو يعلم الحرية والصدق في الفن والحياة منذ وعى وفكر وكتب حتى ما بعد الرحيل، تصادم كلماته القيود وفكره يدافع عن الصدق، وكتبه ترسى قواعد فن ينفع الناس.


لويس عوض المعلم الأمثل، واحد من أعظم ثمرات أرض المنيا، مركز مغاغة قرية شارونة، رحلة كفاح وعمل وإخلاص لقيم ومعايير صاغها لنفسه، لم يخضع ولم ينكسر رغم كل الضغوط والإغراءات والمضايقات، راهب قبطى صعيدى، خارج الدير.. صعب المراس حر وصادق حتى النخاع، معشوقته السمراء «مصر» كتب فيها قصيداً نثرياً إبان أزمة مارس عندما طرد من منصبه كأستاذ في الجامعة نشره في جريدة الجمهورية، ولم يطبع إلا في كتاب «لمصر وللحرية» الذي لم يصدر إلا في بيروت.


بلدهم شارونة قرب قرية الكيلو التي أنجبت طه حسين، وقريتهم أنجبت يوسف الشارونى، أستاذ القصة القصيرة.

 يقول لويس عوض في «أوراق العمر» وهو يتكلم عن طفولته وقريته وعائلته الصعيدية القبطية:
 «إننا كأسرة نقدس التعليم ونتضامن لإتمامه إلى أقصى حد مستطاع أو متاح، الهجرة من الريف إلى المدينة تنتهى بذبول الترابط الشخصى بين البشر. للمدينة دستور لا شخصى، غير دستور القرية الشخصى. مشكلة المدينة المصرية أنها أضاعت دستور القرية دون أن تكسب دستور المدينة، نحن معلقون بين أخلاق القرية وعقليتها وبين أخلاق المدينة وعقليتها.


منهجه في كتابه هذا- الوثيقة التاريخية النادرة- يجمع بين الشخصى والعائلى وتاريخ المجتمع والبلد.

«ليس في أسرتنا سوى محام واحد، وليس فيها قضاة أو وكلاء نيابة أو ضباط جيش أو بوليس أو عمال فنيون، أما التجار فقلة نادرة.

 أغزر مهنة فيها هي الهندسة ثم الطب ثم أستاذية الجامعة في العلوم أو الآداب.

 بعبارة أخرى نحن لا نشتغل بضبط المجتمع ولكن نشتغل بخدمته وزيادة إنتاجه».

«نحن آل عوض، لنا بعض الخصائص النفسية والأخلاقية المشتركة:
 إننا لا نكذب، لا نعرف كيف نكذب.. لا ننتظر شيئاً من الناس ولا نعطى شيئاً للناس إلا للمستحقين، وإذا أحببنا أو احترمنا أعطينا الكثير دون مقابل، إننا دعاة احتجاج ورفض ولسنا دعاة شغب أو عدوان أو صراع، لا أظن أنى وجدت (عوضياً) يقيم وزناً للمال».


قالت لى خالتى الفلاحة، وأنا وهى وحدنا في الحقول ليلاً، ألا ترى القمر جميلاً انظر!
 تذكرت الروايات عن جدى الذي كان يعد فرق النجوم وهو يمشى وسط الحقول وحده.


ربما كان في أسرتنا مسٌّ مما يصيب الشعراء وأهل الفن».
الحقيقة أن الأسرة ظلت تتزوج زواج أقارب، وهذا علمياً له ما له وعليه ما عليه.

لكتاب «أوراق العمر» مشكلة مع شقيق المعلم الكبير نتمنى أن تحل لكى نرى للكتاب- ولباقى المؤلفات طبعات جديدة منقحة تصل للناس، هذا أفيد من الاحتفال القصير الذي أقيم لمئوية ميلاده.

 في الكتاب أسرار عائلية كما في كل عائلة، وفيه اعترافات بحياة شاب يتعلم الحياة والحب والجنس ويفكر في السياسة والدين. والمعلم يقود خطانا للتعرف على كل هذه الزوايا، التي يصر مجتمعنا على أن يخفيها في الظلام أو وراء بيت العنكبوت.
يقول المعلم عن نفسه:
«عيون آل عوض أجمعين لا يمر خالج في القلب ولا فكرة في العقل إلا وتراه ناطقاً في العيون».

«أوراق العمر» كتاب ضخم حر ثورى يقترح على المفكرين والدارسين في الاجتماع والتاريخ والسياسة عشرات الموضوعات للدراسة والتحقيق الجديد الآن بعد أن توفرت وسائل بحث ومناهج ودراسة وتحليل جديدة.


سعد زغلول وثورة 19 كلها يقول المعلم إنها في حاجة إلى دراسة منهجية جديدة «أظن أن هذا يتم الآن» يقول وهو يتحدث عنها ليت كان لها جبرتى
«أظن أن الأيام الحمراء بذرة لدراسة موسعة»، كما يقول
 إن سعد لم يكن عاطفة ولكنه كان عقلاً مسيطراً، يقول إن ثلاثية محفوظ تتكلم عن ثورة 19 بشكل جانبى، ومن وجهة نظر تجار الحسين فقط، ويرى أن عودة الروح للحكيم أقرب لتصوير الحالة الثورية، عن سعد زغلول الذي احتل مكاناً خاصاً في عقل وقلب المعلم الشاب يقول إن صحفياً فرنسياً اسمه سان بريس يصف سعد في رسالته التحليلية لجريدة «الجورنال» في 24 أغسطس 1927 يقول المراسل:
«أنا ما قابلت زغلول باشا مرة إلا وسألت نفسى: كيف أمكن لهذا الرجل أن يمارس على شعب بأسره تأثيراً مغناطيسياً بالمعنى الحقيقى لهذه الكلمة، فهو طويل القامة جداً، صلب البنيان، وهو بارد الطبع للغاية، قليل الكلام جداً، وهو أبعد ما يكون شبهاً بزعيم ديماجوجى «زعيم رعاع كما تطلق عليه الصحافة الإنجليزية»، لاشك أن نظرته كانت تتقد باللهب، ولكنه لهب مكبوت بقوة تتجاوز قوة اللهب».


إلى جانب «البروفايلات» الـ8 التي أوردها «المعلم» لأفراد أسرته راسماً من خلالها زماناً ومكاناً بفنية عالية تقارب فنية الرواية يقدم لويس عوض اقتراحاً هاماً بتحقيق عدد من الجرائم والأحداث التي شغلت الرأى العام وكونت اتجاهات في الفن والسياسة. 


يحدثنا عن ريا وسكينة، وأدهم الشرقاوى، وقضية مرجريت فهمى التي قتلت زوجها كامل فهمى بك في إنجلترا، كما يطرح للبحث قضية مأمور البدارى وتعذيب الأهالى وإعدام المأمور. يناقش العلاقة بين الحوادث والفلكور والروايات الشعبية.

أهم دراسة سياسية يقدمها الكتاب هي دراسته لتركيب وتطور حزب الوفد، الحزب الحقيقى الوحيد الذي لعب دوراً أساسياً في السياسة المصرية، ثم درس حوله أحزاب الأقليات وتحالفات المال والمصالح حتى وصل إلى نشأة حركات «القمصان» السوداء والخضراء، ودخلنا في نشأة الفكر الفاشى والنازى في المجتمع المصرى، والذى وجد له عروقاً امتدت إلى داخل الإخوان وإلى بعض التشكيلات التي لجأت لها ثورة يوليو حتى انتهت إلى تحالفات السياسة والسلطة، وكفت السياسة عن أن تكون خدمة للمجتمع والناس.

يقدم الكتاب رصداً لمقررات ومناهج التعليم الابتدائى والثانوى والجامعى، ويكتشف مدى التردى الذي وصل إليه حال التعليم عندنا.توقف الأستاذ «المعلم» عند حصص الدين في المدارس وكيف تنتهى إلى تعميق انقسام المجتمع ولا تقدم فائدة تذكر لا للمسلمين ولا للمسيحيين رغم ذلك نراه يقول:
كنا نحفظ نماذج من القرآن الكريم لا بوصفه كتاباً دينياً ولكن بوصفه كتاباً أدبياً.

 كنت أجد متعة كبرى في استظهار بعض السور كاملة أو مجزوءة، قوى ذلك إحساسى باللغة العربية وانعكس على أسلوبى العربى حين قرأت قول شوقى:
فما عرف البلاغة ذو بيان.. إذا لم يتخذك له كتاباً
وقد أغناه هذا البيت عن كل الكلام الميتافيزيقى عن
«إعجاز القرآن».

يشير المعلم إلى المحنتين الأساسيتين اللتين تعرض لهما:
 محنة «الجنرال يعقوب» التي اعتمد فيها على دراسات موثقة كان أحد أعمدتها العالم الكبير شفيق غربال، ثم المحنة الثانيةوهى محنة كتاب «فقه اللغة»، التي أوجعته، لأن الكتاب قد تمت مصادرته ووجهت إليه اتهامات ظالمة بالإساءة لمصر وللإسلام، وهو كان يصر فقط على فصل البحث العلمى عن المقدس الدينى.


يذكر المعلم علاقته بسلامة موسى ويعقوب فام، كما يروى جمال العلاقة التي جمعته مع طه حسين وتذبذب رأيه وعلاقته مع العقاد.

من أهم الكلمات التي توقفت عندها هو تكراره للابتذال الذي استعملت به كلمة الاشتراكية، وأجمل كلماته التي يقول فيها: أحيانا أمارس غطرستى الفكرية مع الخائفين من المعرفة وأعداء ما جهلوا.

إليك محبة وسلام حيث كنت أيها المعلم العظيم.

أوراق العمر «سنوات التكوين»
 مكتبة مدبولى- القاهرة 1989

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 17 يناير 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق