السبت، 10 يناير 2015

صنع الله يكتب خارج الصندوق






صنع الله إبراهيم، روائى كبير غزير الإنتاج، متنوع ومتصادم دائماً مع قارئه، هو من القلائل فى مصر الآن المتفرغين فقط للكتابة، وإن كان يساهم فى الإشراف على واحدة من أهم دور النشر التى تخصصت فى نشر الفكر والأدب اليسارى التقدمى، أقصد دار الثقافة الجديدة.

للروائى الفنان الآن حوالى 20 رواية، هو من مواليد 1937 أصدر أول أعماله «تلك الرائحة» - 1966، بعد خروجه من معتقل الواحات، حيث جمع عبدالناصر هناك شيوعيى مصر 1959.

منذ ذلك الحين، وصنع الله يكتب كتابة حادة تتحدى التابوهات الاجتماعية، خاصة السياسية والجنس، يأخذ دائماً مواقف حدية حتى مع رفاق طريقه من اليساريين، فهو لم يقبل التدجين، وأقلقه، إنسانياً وفكرياً، حل الأحزاب الشيوعية ومسلك كثير من اليساريين الذين تحالفوا دون شروط مع نظام عبدالناصر، وراقب أمراض البرجوازية والانتهازية بقلق إنسانى وفنى، وتتابعت أعماله الروائية المتصادمة مع الواقع الذى تغير وتحول إلى انفتاح سداح مداح، فكانت روايته الشهيرة اللجنة «1981»، وكان قد أصدر فى 1974 عمله الملحمى «نجمة أغسطس» عن بناء السد العالى، كانت أقدام صنع الله قد رسخت ككاتب روائى قادر، يبحث عن توازن مؤثر بين الشكل الفنى والدلالة الاجتماعية، سافر الكاتب هرباً من الجو الخانق الذى ساد البلاد فى غياب الديمقراطية، ثم الانفتاح الاستهلاكى الفج، ثم ألوان الديمقراطية الديكورية المزيفة التى تركت الواقع كما هو، واعتنت بأشكال الماكياج وتخريب الذوق العام، اتصل صنع الله بحركات التحرير فى العالم العربى واشتبك مع النضال الفلسطينى، انتصاراته وانكساراته، وعاش محنة بيروت فى الحرب الأهلية، لكى يخرج روايته الكبيرة

«بيروت بيروت»، ثم اتصل بنضال الخليج وكتب عن ظفار روايته الجميلة «وردة»، ثم أرسى مكانته كرائد من رواد الرواية الحديثة فى «ذات» ثم «شرف»، إلى أن سجل لنفسه موقفاً فكرياً معارضاً عندما رفض جائزة ملتقى الرواية العربية 2003، وأصبح اسمه منذ ذلك الحين مقروناً بالرفض والتحدى والرغبة فى التغيير.

ثم كان له بعض الأعمال الروائية - التى لم يكن لى شرف متابعتها - أمثال:
التلصص - أمريكانلى - العمامة والقبعة - القانون الفرنسى - الجليد. أخيراً فى عام 2014، أصدر الروائى غزير الإنتاج رواية «برلين 69» التى قال عنها فى عدد من البرامج والندوات إنه يعتبرها أنضج أعماله، وقد أمضيت أسبوعاً محيراً مع هذه الرواية، التى مثلت لى صنع الله إبراهيم بكل تاريخه ونضاله ومواقفه. إنها حقاً رواية مهمة مثيرة للجدل.

                                            ■

رغم أنه يقول إنها رواية ساخرة فأنا أراها رواية مؤلمة موجعة، يسخر فيها الراوى الذى يتحد مع الكاتب، من نفسه ومن اشتراكيته ومن طبقته، يصف حالة الازدواجية التى كانت تعيشها ألمانيا «شرقية - غربية»، كما يسخر من المثقف المصرى أو العربى الذى يعيش ازدواجية ثقافية، بالإضافة إلى هوس جنسى يعبر عنه الراوى دون ابتذال أو إسفاف، ولكن بنوع من الكشف الجارح للتربية العربية التى تضع الحجاب، ليس فقط على وجه المرأة ولكن أساساً على عقل الرجل، الذى تدوخه الحرية الأوروبية التى تتعامل مع الجنس وظيفة طبيعية عادية فى حياة الإنسان، بينما تحيطه العقلية العربية بحجب وعقد تزيد من صعوبة الحياة.


كانت موجات هجرة العمال الفقراء الذين يتخذون كل الوسائل الشرعية وغير الشرعية قد بلغت قمتها، هرباً من الخلل الاجتماعى والاقتصادى الذى سيطر على المجتمع..

 أما الراوى الكاتب «صادق الحلوانى» فقد قصد إلى أوروبا بحثاً عن «الثقافة» التى هى فى حقيقتها بالنسبة له الضيق الجنسى، الذى حرمه من العلاقات الإنسانية الكاملة مع النساء.


حانت الفرصة الثقافية على الفور، فالبنت تتمتع بكافة المواصفات: طويلة رشيقة شقراء، بعينين زرقاوين«وجه مليح». كان القسم العربى فى وكالة الأنباء الألمانية به ممثلتان للثقافة، إحداهما شقراء باسمة الوجه، والثانية بضة ممتلئة بشعر أسود.

تعرف «صادق الحلوانى» على موسيقى «باخ» وعلى رسوم الفنانين التشكيليين فى المتاحف الكبرى، وعاش النظام الألمانى ولكن بقيت المرأة والجنس هما محور الصدمة الحضارية التى كانت الدافع والمحرك والمقصد النهائى، السخرية المؤلمة كانت من البناء الاشتراكى الذى كان قد بدأ يترنح، كاشفاً عن تناقضات فى الإنسانية وفى الفكر.

بدأت محاولات الاستعانة بآليات السوق لتطبيق الخطة المركزية مع كل ما يسببه ذلك من تناقض، ويرصد صادق الحلوانى بعين حائرة ما يعانى منه الأدب والفن الاشتراكى من كبت للحرية، فقد كتب شاعر كبير «راينر كونسه» قصيدة ساخرة عنوانها «نهاية الفن» يقول فيها:
 لا يجوز لك، هذا ما قالته البوم للديك البرى، لا يجوز لك أن تتغنى بالشمس، الشمس ليست بالأمر المهم، شطب الديك البرى الشمس من قصيدته، قالت له البوم:
 أنت فنان، وهكذا تحول النور إلى ظلام دامس.

لا أهمية للشمس، والظلام قد حل فى العقل الاشتراكى بدلاً من الحرية والجمال.

«شردت برهة، لم أعد أعرف رأسى من قدمى، هناك قدر كبير من الكذب فى الدعاية الغربية.. ولكن ليست لدينا معلومات كافية، دائماً ما كان يقال لنا أشياء وبعد سنوات يقال إنها لم تكن صحيحة، حدث هذا مع ستالين ثم الآن ماو تسى تونج، قيل لنا دائماً إنه ثورى ومنظر عظيم، ثم يقولون الآن إنه مُراجع وفلاح جاهل، المرأة التى تجلس دائماً وجهها إلى الحائط ولا تكلم أحداً، كان أبوها أحد القادة العظام فى الحزب الشيوعى، ثم اعتقل وفقد حياته فى معتقلات ستالين».

البلكونات فى مبانى الاشتراكية معدومة، هى رفاهية لا لزوم لها، وفى زيارة سكر بوخنفالد الشهير، تحت شعار
«لكل ما يستحق»:
استقبلنا مرشد شاب يحمل شارة الحزب الدقيقة فى ياقة سترته، واجهنا معطياً ظهره للمعسكر: وقال أقيم هذا المعسكر فى عام 1937 ليضم معارضى النازى ويجرى تحطيمهم معنوياً بالمعاملة الوحشية، تعرض 18 مليون فرد هنا للتعذيب، الآلاف من الألمان والبولنديين ولم يعد 11 مليوناً منهم إلى الحرية، إذ ضربوا حتى الموت ثم أحرقوا فى أفران الغاز، السجناء أطلقوا على هذا الطريق «شارع الدماء».


تعود إلى ذاكرة صادق الحلوانى محنة أبو زعبل فى مصر، وقالت صديقته «أنجمار»: فى منتصف الخمسينيات كان محظوراً علينا ارتداء ملابس الجينز فى المدارس والرقص على أنغام الروك فى الحفلات وتدخين السجائر وتبادل القبلات جهاراً، وفى مطلع الستينيات كنا أول جيل تعاطى حبوب منع الحمل.
«هبطنا منخفضاً ينحدر إلى شاطئ البحيرة وفجأة وجدنا أنفسنا أمام أكوام من الزبالة وكل أنواع المخلفات.

قالت: خلف الواجهة البراقة نظهر على حقيقتنا.
هكذا كانت ألمانيا الشرقية - وهكذا كانت السخرية الموجعة فى (برلين69)».

                                     ■

فى «برلين 69» عاصمة ألمانيا الشرقية، كما صورتها رواية صنع الله إبراهيم الساخرة الموجعة، يعيش الناس عمراً طويلاً، ولكن فى لا حرية، فى وحدة، وفى صمت إنسانى.. لا يعرفون الفرح، يحلمون بملابس وأطعمة غير التى توزعها الحكومة، البنات جميلات أحرار، ولكنهن يحلمن بالزواج من أجنبى حتى يخرجن من ملل الحياة الاشتراكية.


«كانت تنظر إلى قمم الأشجار بحثاً عن شىء ما، سألها عما تبحث فقالت: طائر (الكوكوك) النادر ذو الصوت الجهورى، أنانى جداً وانتهازى، يضع بيضه فى عش طائر آخر ليهرب من تربية فراخه».
حضور الحياة فى مصر خلال صفحات الرواية يضاعف من مرارة السخرية، ويعطى الواقع هناك إيقاعاً موجعاً كأنه دقات الساعة، الكاتب يحلم بالتحول إلى التصوير أو إلى كتابة الروايات البوليسية حيث توجد حقيقة، ويأتيه خطاب من صديق مصرى يشرح له حاله وصعوبة الحياة وضيقه بها ورغبته فى السفر فيقول: منذ خروجى من المعتقل، لم أستطع أن أحصل إلا على عمل يومى بواسطة مساعى ناس كبار، أجرى ستون قرشاً يومياً، عرفت لماذا ينتحر الناس.


رواية صنع الله إبراهيم «برلين 69» رواية ساخرة من الاشتراكية ومن الحياة كلها، لكنها عمل فنى مهم.


برلين 69، رواية، صنع الله إبراهيم

 دار الثقافة الجديدة – القاهرة 2014 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 10 يناير 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق