السبت، 30 أغسطس 2014

الجنة جزيرة.. والجحيم أيضاً

               
                 



نادراً ما يقع الإنسان فى عشق كتاب حتى قبل أن يقرأه.
 رأيت هذا يحدث مع اللباد الكبير، عليه رحمة الله، رأيت الفنان صانع الكتب وهو يتحسس بعض الكتب بأصابعه فى دهشة واستمتاع كأنه يتودد إلى غادة جميلة.

 حدث لى هذا «رغم الشيخوخة» مع كتاب «الجزر النائية».
المؤلفة «يوديت شالانسكى» مواليد برلين «الشرقية سابقاً» 1980 أديبة وفنانة وأستاذة طباعة وإعلام:
 الآن لها كتاب بعنوان: كسور حبى عن عشقها للحروف وفن الطباعة «صدر 2006» وقد وضع اسمها فى صدر قوائم الجوائز فى أغلب معارض الكتب فى أوروبا، وبعده بثلاث سنوات فى 2009 أصدرت تحفتها التى بين أيدينا:
 أطلس الجزر النائية.. خمسون جزيرة لم أزرها قط ولن أذهب إليها أبداً.

 قالت جريدة الجارديان بعد أن ترجم الكتاب إلى الإنجليزية «شىء رائع بحق» أما موقع الناشيونال جيوجرافيك فقد قال: «عشقت هذا الكتاب» وأخيراً قالت «التايم»:
 «كتاب فى غاية الجمال يجمع بين الشاعرية فى سرد القصص والهوس فى رسم الخرائط».
بعد «الأطلس» الذى يعنى باللاتينية: «مسرح العالم» انشغلت «شالانسكى» بكتابة الروايات.
 أصدرت رواية «الأزرق لا يناسبك» ورواية «عنق الزرافة» 2011، قامت بترجمة وإصدار هذه التحفة إلى العربية دار بلومز برى البريطانية والتى تعمل فى دولة قطر!.
 وقام بالترجمة الصعبة إلى العربية عبداللطيف أغساين!
جلست الفتاة الصغيرة على الأرض فى غرفة الصالون فى بيت والديها الكائن فى برلين الشرقية خلف ما كان يسمى الستار الحديدى حيث لا سفر ولا معلومات عن شىء سوى ما يسمح به الحزب الشيوعى، وأجهزة المخابرات، كان بين يديها أطلس للعالم.. كل العالم.. وكانت تسافر بأصابعها وهى تتحسس الخرائط. لكى تتوقف عند النقط الصغيرة الفارقة فى مساحات البحار الزرقاء.

 كان فى مكتبة والدها عدد من الأطالس
«قلنا إن أصل الكلمة اللاتينى يعنى: مسرح العالم»
 وكانت الفتاة يوديت شالانسكى تكره الأطالس السياسية التى ترسم الحدود بين الدول حيث إن الأطلس الذى بين يديها كان لا يذكر وطنها «ألمانيا الشرقية» بل كان يشير إليه بحروف تعنى: منطقة الاحتلال السوفيتى.

 كانت تحب أطالس، التضاريس الجغرافية حيث ألوان السهول والوديان وألوان الجبال.. والجليد.. خاصة البحار حيث درجات اللون الأزرق الذى يشير إلى الأعماق وإلى البعد أو القرب من اليابسة.

 عادت تأسر خيالها تلك النقط الصغيرة المنثورة فى المساحات الزرقاء.
 وهل هى بعيدة أم قريبة!
 بعيدة عن ماذا.. وقريبة إلى ماذا؟
.. وكيف الذهاب إلى هناك. وهل يعود من يذهب، أم يبقى هناك؟
.. وما الذى يوجد هناك؟
.. هل ما يوجد هناك هو ما يوجد هنا؟
.. ألا يوجد حتى هناك- حياة أفضل من هذه الحياة؟
كان من الضرورى أن تمر بها السنون وأن توغل فى السير وراء هذه الأحلام والأفكار.

كما كان من حظها أن تتغير الظروف وأن يسقط الستار الحديدى الذى لم تكن قد شاهدته، وأن يسقط جدار برلين.
 وأن تصبح ألمانيا كلها بما فيها من كتب ومكتبات وجامعات، فى متناول أحلام الفتاة التى ظلت تكبر حتى تجسدها فى إنتاجها الفنى الجميل قبل أن تبلغ الثلاثين بعام واحد.
الجزيرة فى الفكر والأدب هى حلم الجنة والمدينة الفاضلة وهى أيضاً المنفى والسجن وكذلك وجدتها، علمتها الجزر أن الخيال واقع.. وأن هذا الواقع خيال عندما تكون منفصلاً بعيداً.
السؤال المحير الذى يظل بلا إجابة:
 رغم التاريخ والأسفار والأحلام والفلسفة والعلم:
 هل يوجد فى مكان ما حياة أفضل من تلك التى نحياها..
 أين.. وكيف الوصول إلى هناك؟
درست الكاتبة تاريخ وتضاريس وكل المعلومات عن الأجناس والقبائل والسلالات المنقرضة التى عاشت وتعيش على خمسين جزيرة، كما درست رحلات المستكشفين والقراصنة والسفن الغارقة، والرحلات المفقودة.

فى بعض هذه الجزر لا يوجد سوى نفايات، وعلب المشروبات واللبان الأمريكى وفى البعض الآخر آثار تفجيرات ذرية وهيدروجينية سرية لم يعلن عنها.

تفجير هيدروجينى سرى قامت به فرنسا سنة 1966 إلى 1969 فى جزيرة فانجاتادفا، جزيرة تقع فى المحيط الهادى مساحتها 5 كيلو مترات مربعة اكتشفها المستكشف فردريك وليام بيتشو فى فبراير عام 1826 وهى غير مسكونة، وتقع على بعد 4410 كيلو من نيوزيلاند.
 وأقرب الجزر إليها جزيرة رابا أبيى «على بعد 810 كيلو» بعيداً عن أنظار العالم قررت فرنسا إجراء أول تجربة هيدروجينية هناك، وزعوا على كل الجزر المجاورة!.. نظارات واقية وأجريت التجربة البشعة فى تمام الساعة 19.30 بتوقيت باريس فى يوم 24 أغسطس 1968.
 بلغت قوة التفجير 2.6 ميجا طن: أقوى من قنبلة ذرية من مائة إلى ألف مرة.
 تم إخلاء المنطقة بسبب التلوث الإشعاعى وظل المنع سارياً لمدة 6 سنوات.
بهذه الدقة وبكل تلك التفاصيل تحكى المؤلفة حكاية واقع وماضى وحاضر خمسين جزيرة نائية لم تسمع عنها بالتأكيد من قبل..
وكما تقول المؤلفة لم ولن تذهب إليها إلا إذا كنت مستكشفاً عصرياً جديداً، أو مجنوناً جميلاً!

لكل جزيرة صفحتان: صفحة رسم لخريطة مرسومة بدقة وذوق وتلوين تعبيرى بديع يطلق الخيال ويمسك بأهداب الواقع.
 وفى الصفحة المقابلة كتابة مشحونة بديعة تجمع بين دقة البحث واسترسال الخيال، وشاعرية الأسلوب مهما كانت بشاعة أو جمال الموضوع أو غرابته. من هنا خرجت كتب
«ألف ليلة وكتب الأساطير»، وروايات روبنسن كروزو، وابن طفيل وحكايات جزر الكنز كما خرجت خيالات المدن الفاضلة ونهايات العالم.

لذلك قالت فى مقدمتها الأدبية الرائعة إن الجنة جزيرة وكذلك الجحيم، فكما أن هناك جزراً عاشت أنواعاً من الحرية والمساواة، والتحرر البرىء الفطرى الذى سبق الشعور بالدنس والخطيئة. كذلك توجد جزر تعيش أبشع أنواع الاستغلال الإنسانى والجنسى والشذوذ، وجزر لا يعيش فيها إلا المساجين والسفاحون وأكلة لحوم البشر ومغتصبو الأطفال. وجامعو أغرب وأبشع أنواع الأمراض والسلوك.
كما أن هناك جزراً فيها: لا شىء.. لا شىء.. كم هو جميل هذا «اللاشىء»، تقول المؤلفة فى المقدمة:
«دون الملازم شارلز ويلكز فى تقارير البعثة الاستكشافية: لا شىء أبداً على جزيرة ماكوارى يغرى بزيارتها. وقال النقيب جايمس دوجلاس إن هذه الجزيرة مكان مثير للشفقة، وهى أقسى منفى قسرى وعبودى قد يخطر على بال إنسان، مجرد منظر جزيرة كامبيل أحزن الرحالة جورج بانينج وقال عن جزيرة: سوكورو:
كانت تبدو موحشة حقاً ذكرتنى حالتها بكومة تبن احترق نصفها وأطفأتها الأمطار، ولم يعد لديها القدرة على الاشتعال من جديد فانتهت وكأنها فى بقعة مداد تستريح.
تقول المؤلفة إن المستكشف بعد أن يسجل اكتشافه ويطلق اسماً على المكان ويسرد تفاصيله فإنه يشعر وكأنه لم يجده، ولكنه أوجده.

 فى صفحة نادرة تسرد المؤلفة تفاصيل وفاة نابليون على جزيرة سانت هيلنا أو الصخرة السوداء، وتسرد تفاصيل تجهيز الإمبراطور المتوفى لكى ينقل جثمانه إلى باريس:
 43 رجلاً حملوا التابوت، ورفعوه على عربة يغطيها قماش بنفسجى مطرز بنجم ذهبى وحرف نون كبير..
بعد ثلاثة أيام فى 18 أكتوبر 1840 سحبت المراسى، وعاد الإمبراطور إلى دياره.
الكتاب زاخر بالقصص والحكايات، أحب أن أستعيدها كلها معك: ليتك تستطيع أن تحتفظ بأى طبعة للكتاب فى البيت ليقرأه الصغار والكبار وكل عاشق للسفر أو اللاسفر وللكتابة والرسم والخيال.
لا أجد كلمات كافية لكى أشكر سيف سلماوى الذى أهدانى هذا الكتاب.

أطلس الجزر النائية. يوديت شالانسكى.
 ترجمة عبداللطيف أغساين. بلومزبرى 2013

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصر اليوم بتاريخ 30 أغسطس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق