السبت، 9 أغسطس 2014

الوطن.. والرمال الناعمة

               


         

فى الرواية المصرية الفاتنة «الرمال الناعمة» للكاتبة الفنانة
«درية الكردانى» نجد أنفسنا وسط غابة غنية من المشاعر والأفكار، فيض من أحاسيس امرأة ذكية محبة، مليئة بالحرية والتمرد والإحساس الصادق بمعانى الفن والوطن والبيت.

لسنا أمام مجرد سيرة حياة، ولا حكاية زواج غنى وعاصف بين فنان كبير معروف ومذكور، وبين سيدة عظيمة قدمت للفنان كل حب ورعاية وصنعت معه بيتاً وأسرة وتاريخاً لا ينسى ولكننا أمام رحلة نادرة فى مشاعر فتاة محبة، وزوجة متفانية، ثم تسجيل أشد وضوحاً وقسوة وصراحة لما يحدث لعلاقات الزواج من إصابات قاتلة.

من أوضح وأدق المرات التى وجدت نفسى فيها أمام تسجيل لأزمة المرأة فى مجتمعنا: القديم الذى عاشته الكاتبة فى بيت الأسرة فى الأقاليم.. ثم عندما دخلت إلى الجامعة وإلى الحياة فى القاهرة لكى تحب الفنان وتعيش معه وهم الحرية والمساواة وبناء الحياة المشتركة إلى أن يأتى عالم الانفتاح فى منتصف السبعينيات، فيصيب المجتمع والفن والبيوت ما أصاب العالم كله من دمار فى القيم، وسيطرة مطلقة لقوة المال وبداية العولمة الأمريكية المزيفة التى لم تبق ولم تذر.

 دخلت إلى البيوت وإلى فراش الزوجية وإلى علاقة الأبناء بالآباء..
 ولم نجد حتى الآن من يقدم موقفاً فكرياً أو إنسانياً قادراً على المعالجة أو التصدى سوى جماعات التطرف الفكرى والدينى بمختلف أنواعه وأشكاله وألوانه.
لا أريد أن أبتعد عن رواية درية الكردانى، الجميلة، ولكننى أريد أن أضعها فى مكانها كوثيقة اجتماعية تدرس التحول الذى صاحب صعود وهبوط حركة التنوير والثورة وتحرير المرأة حتى فجر 25 يناير.

كتبت المؤلفة روايتها قبل ثورة يناير 2011، وغادرت مصر لكى تقوم بالتدريس فى جامعة فى أمريكا، ولكنها لم تفقد ارتباطها بالوطن الذى تقول عنه فى روايتها فى فقرة كاشفة ليس فقط عن أفكارها بل عن عمق إحساسها بالوجود- تقول:
«ما هو الوطن بالنسبة لى؟
 الوطن هو المكان الذى أعرف تماماً كل ما فيه: ناسه، فأستطيع أن أقرأ تعبيرات الوجوه، أتوقع ردود الأفعال، وأفهم بعمق معانى الإشارات، فترات الصمت، طرق المجاملة، السخرية، الاتهام، الإهانة، فى وطنى أشم رائحة الجو، وأتوقع المطر أو درجة الحرارة، وأفهم معنى الغمام.
ولكن هل أنا قوية الجذور؟
متى بدأ إحساسى بالغربة؟

 هل كان الحريق تتويجاً لهذا الإحساس. (عندما بدأت أزمة الزوجة مع الفنان.. أصاب شقتهم الجميلة التى صنعوها على مدى عشرين عاما حريق أضاع كل شىء ربما يذكرنا بحريق 26 يناير، الذى سبق ثورة 52، ولكنه يظل فى الرواية رمزاً غنياً يكسبها أعماقاً فكرية وإنسانية) أم أنه جاء مع بداية اكتشافى واقتناعى بأنه فى الحقيقة لا يوجد ما يسمى الاستقرار، إذ لا توجد ملكية حقيقية» تقوم بطلة الرواية برحلات فى الأتوبيس إبان أزمات الضيق التى تنتابها مع الفنان الذى بدأت تصيبه أمراض تضخم الذات والتحول إلى عالم أسواق الفن ومن يسيطرون عليها من نساء، هن بالونات وأباطرة زيف ودعاية فارغة..

 فى هذه الرحلات تمر الزوجة الضائقة بالحياة بقرى الدلتا، وبفقراء الشعب، الذين خرجت من بينهم والذين كان الفنان أحد الوعود المحبطة بتغيير حياتهم تقول إحدى تلميذات الفنان لزوجته وهى تغالب دموعها:
«كانت التلميذة أصغر من الفنان بسنوات. ولكنها بدت أكبر من عمرها بكثير فقد تركت شعرها الذى شاب مهوشاً دون صبغة وحملت ملامحها هموم السنين دون تجمل.

 تكلمت عن ريادته وأبوته التى انتظروها منه وبخل بها عليهم.
كنا نريده، وكنا مستعدين إلا أنه هو لم يكن عنده استعداد، بالنسبة لنا هو انتهى كفنان.
 فنان بمعنى ثائر، يريد أن يغير وجه الحياة للأفضل هو لم يعد قادراً على ذلك. انتهينا. سيعيش على ما عمله وهو أصغر. هو ليس قليلاً ونحن نحترمه ولكنه يعتمد الآن على عقل فقط وعلى صنعة بلا روح أو مشاعر».

أعز ما كان لها فى البيت كان لوحة رسمها الفنان لوردات أربع عاشت معهم وكانت لكل واحدة بالنسبة لها معنى وقصة.
الفنان الآن يبحث عن ورد مستورد ينتظر قدومه بالطائرة، لكى يهديه لها، ولسيدة الأعمال التى ترتاد معارضه والتى تطلق عليها الزوجة المكلومة تهكما السيدة «سى آى إيه» لما لها من نفوذ خبيث وسيطرة على حياتهم.
وفى لمحة لها دلالة إنسانية بسيطة تقول المؤلفة إنها أثناء هذه الأزمة التى طالت والتى حاولت هى فيها أن تقدم للفنان الذى بدأ يتقدم فى السن، وبدأ يحتاج إليها فى كل شىء، ولكنه بدأ أيضاً يصبح غير محتمل، وأخذ يفقد كل ما كان يمتاز به بالنسبة لها، فى رقة وحساسية تقول:

 من جريدة الأهرام وجدت فى البريد رسالة احتفظت بها فى جيبى وكنت أعيد قراءتها كلما يضيق بى الحال وأكاد أختنق.
«لقد أحببت بإخلاص، وكرهت الغدر، آمنت بالخير والحق والعدل والجمال، وكان ذلك لنفسى قبل أن يكون لغيرى، فإن كافأنى الغير على ما حملت من مشاعر طيبة بالوفاء لى، فبها ونعمت، وإن جحد البعض عطائى ومشاعرى وإخلاصى، فلقد استمتعت بممارسة إحساس العطاء، والحب والوفاء والنبل، ولى ما أحسست به، وعليهم عاقبة ما فقدوه من عطائى السابق لهم.. وفى ذلك بعض العزاء».
هذا الموقف المثالى يجسد المشاعر الحارة التى سطرت بها المؤلفة روايتها الشديدة الوقع والمؤلمة أشد الألم. ولكنها لما فيها من ذكاء وإنسانية تخرج بشكل لا افتعال فيه، من تسجيل حالة فردية إلى رصد وضع اجتماعى صعب تمر به بلادنا فيما يتعلق بدور المرأة. كما أنها تناقش على مستوى فكرى وإنسانى دور الفنان ومسؤوليته تجاه مجتمعه.

قدمت السيدة درية الكردانى عملها الأول والذى مازال عملها الوحيد هدية للوطن وللمرأة المصرية. وهى قد وعدت فى حديث أخير أدلت به لجريدة الأخبار، الأدبية، القاهرية بأنها تعد عملاً روائياً جديداً، ونحن فى الانتظار، نقول كما ختمت هى روايتها الأولى:
«لنبدأ من جديد. غداً هو اليوم الأول فيما بقى من العمر».

رمال ناعمة. رواية. درية الكردانى.
دار الثقافة الجديدة 2011.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 9 أغسطس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق