الأربعاء، 6 أغسطس 2014

صفحة جديدة: امرأة أسفل الشرفة

                 

                





ليس الطبيب الأديب محمد إبراهيم طه من جيل الأدباء الجدد، لقد أسس أدبه ووجوده الأدبى منذ أول التسعينيات، حيث حصل على عدد كبير من الجوائز خارج مصر (الشارقة)، وداخلها (جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب 2001).


وقد تأخرت كثيرا فى التعرف على أعماله الروائية الثلاثة: «سقوط النوار» (2001) «العابرون» (2005) «دموع الأبل»، كما لم أتعرف على مجموعاته القصصية المتميزة: توتة مائلة على نهر» (98) و«الركض فى مساحة خضراء»، وعندما قرأت باستمتاع مجموعته القصصية «امرأة أسفل الشرفة» بحثت عن باقى الأعمال، وسألت أحد أصدقاء الطبيب فقال إن المجموعة الأخيرة لا تمثل إنجازه الأدبى، ولكنها يمكن أن تعطى فكرة عن جدية وأصالة الكاتب..


ولم يكن هذا كل شىء، فمنذ فترة لم أقع على مجموعة قصصية مشرقة مفرحة بهذا الشكل، رغم ما تعبر عنه من واقع ريفى ومصرى مأزوم ومرتبك ومركب... الصدق والجدية والاتقان: أليست هذه دلالات كافية!!


دكتور طه يمارس باستمرار عمله كطبيب أمراض نساء وتوليد فى ريف مصر (قرب بنها فيما أعتقد) ،لم يتوقف عن ممارسة مهنته التى تمده باتصال حميم ومتجدد بواقع الناس والريف، وهو بذلك مختلف عن الأطباء الأدباء الذين عرفناهم أخيرا.
 «القرية والفلاح والفلاحة»، الموجودة فى أعماله ليست مستمدة من الصور، كما إنهم ليسوا هم الذين تراكموا من الابداع الفنى والإعلامى منذ «زينب» هيكل حتى «حرام» يوسف إدريس، أنه واقع انسانى وبشر آخرون صامتون مشحونون بثقل تراثهم وثقافتهم الشعبية والمشغولة بالخرافة والأساطير، وبطقوس ثابتة لا تتغير، تجعلهم يتحركون فى إيقاع خاص فيه خليط من التدين والحزن والقهر الاجتماعى.
 كثقافة واحتشاد أشخاص وعالم الريف عند الطبيب طه لا أدرى لماذا بعث فى ذاكرتى العرق الدرامى الذى عمل عليه صاحب «أيام الإنسان السبعة» الراحل عبدالحكيم قاسم.


يعالج الطبيب الأديب عالمه وشخصياته فى زمانها وفى مكانها دون نظرة فوقية أو قالب فكرى، وفى القليل الذى عرفته من أدبه يوجد المكان والبشر وهم يحملون غبار الطريق ورائحة الحريق والعرق وتشعر معهم بثقل ايقاع الزمن وتتصادم مع جدران القهر والتخلف..الا أن الحياة رغم ذلك تشف عن نبل حضارة عريقة.


تضم مجموعة «امرأة تحت الشرفة» عشر قصص آخرها قصة بعنوان «جمعة الغضب»، وفى القصة واحدة من أعذب الصور التى رسمها الأدب لهذا اليوم الفريد الذى لن يتكرر فى تاريخنا الحديث، فى القصة يتحرك طبيب زائر للقاهرة من الأقاليم، يمسك فى يده فتاة قابلها وسط الحشود تهتف
«الشعب يريد إسقاط النظام»، الفتاة فى نحو الثالثة عشر وقد خرجت من بيتها تاركة أهلها لتشارك هذه الحشود التلقائية الغاضبة.


رجل عجوز متحمس مندفع فى المشاركة يحذر الطبيب من المخبرين فى الشوارع الجانبية، ويطلب منه أن يبقى ممسكا بيد ابنته حتى لا تصاب فى التصادم الذى حتما سيقع.
العجوز هو الذى يصاب فى رأسه ويعالجه الطبيب بسرعة واضعا ضمادة على جرحه فى الرأس.. بعد فترة يكون من الضرورى أن يغادر الطبيب المظاهرة لارتباطه بالسفر لمواعيد العمل، ويطلب من الفتاة أن تطمئنه على نفسها تليفونيا فى آخر النهار..
بعد أن ينهى الطبيب عمله يجلس فى بيته ينتظر تليفون الفتاة الذى لا يأتى..
ولكنه يرى على شاشة التليفزيون أمام المشرحة جثة شهيد عجوز على رأسه الضمادة التى وضعها بيده.


هذه قصة نادرة تدور أحداثها فى المدينة، أما باقى المجموعة، ففيها تحف فنية نادرة الجمال مثل قصة (الجاموسة تطلب)،
(شرفة مسمرة من الداخل)، (كشف خارجى)، كما أن المجموعة تحتوى على قصتين فيهما محاولات تجريبية جديدة فى الشكل أظنهما فى حاجة إلى بعض البلورة والضبط، إلا أن المجموعة ككل شكلت لى مفاجأة فنية سعيدة.


يفتح أدب الدكتور طه بابا واسعا على الريف المصرى الحقيقى الذى لن يصح أدبنا المصرى وينتعش دون أن يستمد من هذا العالم ما فيه من حيوية وخصوبة وصدق.


إلى جانب الطب والأدب يوجد الدكتور طه بشكل مؤثر فى مؤتمرات أدباء الأقاليم، وكذلك يشارك فى النشاط المحمود لورشة الزيتون بالقاهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 6 أغسطس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق