السبت، 16 أغسطس 2014

التحديق فى عين الشمس!

       

       


               
 أخيراً صدرت رواية الطبيب الفنان رضا البهات
«ساعة رملية تعمل بالكهرباء»، وكما يقرأ الخطاب من عنوانه فإن الرواية ليست عملا سهلا، ولكنها رواية مكتوبة بأعصاب عارية، يحدق كاتبها طوال الوقت فى عين شمس.

 لكنها عمل مدهش ومثير تتوقف فى قراءته ثم تبحث عنه لتواصل التحديق مع كاتبه فى عين الشمس:
 فى أزمة الوجود هنا.. الآن!
يقول الكاتب فى حيلة شكلية يستدرجك بها لكى يحتفظ باهتمامك:
 أنه طوال عشر سنوات ظل يحاول أن يكتب هذه الرواية، طوال هذه المدة ظل يبحث عن موضوع وشكل يجمع فيهما تلك النار المشتعلة بالرغبة الدائمة فى التعبير.. فى صياغة هذا الواقع المتغير غير المفهوم، فى شكل ومضمون فنى يحملانك معه إلى فهم أوضح أو بصيرة أكثر شفافية.

هو كاتب يؤمن بأن مهمة الكاتب ليست الإمتاع أو التسلية، ولكن الكاتب يكتب لكى يبعث روح مقاومة الاستسلام للواقع المرفوض، يكتب لكى يعلن الحقيقة ويعلى روح النقد والاعتراض، والإصرار على التغيير.

كل هذه المهام التى تبدو وكأنها خطاب سياسى، لازمة لكى تجعل الكتابة فعلا حقيقيا وعلى الكاتب فى نفس الوقت أن يحافظ على جمالها الفنى الموجود فى إشراق الفجر أو كشف الحقيقة.
الطبيب الفنان من مواليد المنصورة قلب الدلتا 1955، وله رواية من أصدق ما كتب عن حرب 67 هى
«بشاير اليوسفى»، وله بعدها طقوس بشرية (مجموعة قصصية)، ثم رواية طويلة هى «شمعة البحر» أظنها لم تلق ما تستحق من اهتمام نقدى.

 لست أدرى متى قال عبقرى القصة يوسف إدريس لكاتبنا الشاب وقت ذاك
«لماذا يارضا تكتب وكأنك لن تكتب بعد ذلك..» أظنه كان يقصد لماذا تحاول أن تقول كل شىء مرة واحدة وهذا حق.. وهو فى نفس الوقت ما يميز كتابة «البهات» إنها محتشدة حادة ومركبة.. ولكنها فى النهاية متحققة وجميلة: يقول رضا البهات:
«نأكل فى العام أطنانا من الخبز والخضروات والحيوانات كى نكبر قدر أصبع، وأنا لم أقرأ منذ عشرين عاما ما يجدد أنسجة عقلى. كيف سأكتب جملة تضىء عقل أحد؟

على رصة كتب جلست كمن يتأمل شخصا غيره ينحسر عنه العمر.. لا ليس العمر إنما حاجة الآخرين له.. العمر حفل تنكرى يبادل فيه الجميع ذواتهم باعتيادية وبغير كلل..
 كم اعتقدت أن حضنا عاريا يكفى لترميم روحى.. لكن:
 لا يكفى البكاء لكى يذهب الحزن.

لا تكفى الهزائم كى أكتب رواية: اتسخ زجاج الساعة الرملية وتيبس الرمل فى قاعها».
هذا نموذج لجمال واحتشاد رواية البهات.
 تجمع فى تفرد بين قدرات الرسام التشكيلى والنحات وبين صائغ العبارة والقابض على الحقيقة أو الجمر.

 إنه يتحرك فى استمرارية مدوخة بين المحاذير الثلاثة: الجنس، والدين، والسياسة، يجمعها فى عجينة واقعية فى مكان لا هو ريف ولا مدينة.
 ولا هو بيت أو بار، يتحرك فيه رجال لا هم مفكرون ولا عابثون، ولكنهم بشر من لحم ودم.
 يتكلمون بصراحة ويكذبون، يتحدثون عن السجن، والسياسة والمظاهرات، وعن الخمر والدعارة وفساد المال والحكم، عن الكتابة والاتجار بالدين ومع ذلك يقول الكاتب:
«أنا ممن يطلق مشاعره بحذر، رجاء المحافظة على وحدة أحرص عليها».
 فى الرواية تدفق عشوائى تحكمه براعة لغوية وحس تشكيلى نادر.

 بطل الرواية التى لا تريد أن تكتب يتخلص من مكتبته التى تحتوى على مؤلفات كتاب يكتبون ثلاث روايات فى نفس الوقت: «لهذا الكاتب أكثر من ثلاثين كتابا بمكتبتى ورق كثير وحبر كثير لكاتب، وفى الطبخة المصرية نكررها فوق ثلاثين مرة.. بق من الحرية على بقين عن الاشتراكية على جملتين فى الليبرالية وثلاث أبقاق ناصرية زائد مقادير متساوية من التدين والعلمانية.
 ثم بعد أن تغلى المقادير وتجىء الأموال والجوائز، يضيف ثلاثة مكاييل من العداء لإسرائيل على مثلهم من «وإن جنحوا للسلم» ويرش فوق الخلطة ملعقتين من الفضى ثم يصب فى قوالب من مديح الفقر والفقراء، أو فى قالب كبير من ضعف الفكرة المصرية».
لا أعتقد أننى بكل هذا الكلام قد قربت لك عمل رضا البهات الأخير ولكننى آمل أن أكون قد حفزتك إذا كنت مهتما بالأدب والكتابة. على البحث عنه، وقراءته ومناقشته فهو يمثل ظاهرة مختلفة وسط أعداد كثيرة من أعمال عادية تدور فى دوائر متشابهة.

 إنه لا ينتمى إلى كتاب الأقاليم وليس فى نفس الوقت فى كتاب «وسط البلد»، كما أن بضاعته ليست مستوردة من أحد، فهى بلا شك صناعة مصرية بحتة قد تكون لها نفس عيوب
«التقفيل النهائى» ولكنها دون شك أصيلة تحمل رائحة الأرض ولفحة الشمس ونسيم العصارى.
«لماذا أريد كتابة رواية أصلاً، العالم لن ينقص شيئا إن لم أسرد له بعضا من ملامح الفقر ذى الكبرياء.. حيث الشمس والحرارة شرطان لكى يكون هناك شباك فى جداره حيث القلل وأعواد النعناع، وجوه البنات ضرورات تقتضيها هذه الشبابيك. ضلالات طالما هيجت حنينى إلى آباء ذوى شوارب ضخمة صفرتها الجوزة وأمهات يفتشن عن الأحزان الشاغرة ويحتلن على الحياة ليمضى منها يوم آخر».
الرواية مشغولة بحال الصحف، صحف المعارضة وصحف الموافقة، مشغولة بـ11 سبتمبر وانهيار الأبراج وبقايا النازية وبزوغ الإرهاب فى فجر بنفسجى تشغله ملائكة سوداء:
«لو كنت مؤمنا لقضيت الوقت فى الصلاة والدعاء. لكننى لا أحفظ الأدعية المصكوكة لكل الناس».

أحفظ «إذا جاءت القيامة وفى يد أحدكم فسيلة فليغرسها»، كان هذا دعاء يحبه توفيق الحكيم، ولكنه لا يصلح كدعاء. أقول:
«اللهم أدخلنى فى تجربة. ولا تجعلنى ممن يعتاد القبح ولا تكلنى إلى من يكره الحياة، ولا إلى سياسى «تكلام» يلعب بالبيضة والحجر وألهمنى يا رب قول ما أعرف لا ما تردده الألسنة حتى لا أضل السبيل إلى نفسى».

«ساعة رملية تعمل بالكهرباء» رواية مكتوبة بدقة وهى فى حاجة إلى قراءة خاصة.
ساعة رملية تعمل بالكهرباء - رواية - رضا البهات
 - دار بدائل 2014 القاهرة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 16 أغسطس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق