السبت، 2 أغسطس 2014

مشاهد من مسرح الجريمة

   


           

لا قول بعد الدم. لا تبرير لا اعتذار
رغم كل ما حدث فى القريب وفى البعيد، لم نتعود بعد.. لم نتبلد بعد.

 لم يعد يخدعنا أن صور التليفزيون تبقى للحظات، وأن إعلاناً يسبق المذبحة.. وأن مسلسلاً يأتى بعدها.

الدماء، والوجوه المفجرة، والجثث المحترقة صارت تسكن فى الصدر.
 لا تغسل الدمار دموع، ولا ماء البحر والأنهار.
 وقفت الجريمة فى الحلق.
كلما تكلموا زاد الأمر بشاعة، لا غفران ولا عزاء.
 الدم على موائد الطعام وفى الفراش: فى اليقظة والأحلام.
لا اعتذار ولا تبرير، ولا سياسة:
 سكوت: القاتل لم يفرغ من جريمته بعد!
لماذا يبدو الأمر أكثر بشاعة هذه المرة.. هل لأنها قريبة جداً.
 هل لأنها أرضى وسمائى وناسى.. هل لأنها غزة؟!
«غزة» الناس: الأطفال والنساء والشيوخ.
 الحقول والزيتون والبرتقال.. أين وجوه الساسة والقواد والحكام. تحت الركام أم فى الخارج أم مغارات تحت الأرض.

 فى المدارس والملاجئ والجوامع فى الشوارع والأزقة والأسواق لا أرى إلا رجالاً يجرون بأطفال رضع، ونساء ملتاعة بين الركام، فى مداخل المستشفيات زحام مجنون ونظام قاتل وساعات فقيرة عجين داكن من الزمان والمكان، من الانتظار والموت ونور الكهرباء المتقطع وعيون عجوز فقير تنطفئ ببطء وهو لا يعى ما يحدث.
فى غزة منذ أكثر من عشرين يوماً غارة كل ثلاث دقائق وألف وخمسمائة شهيد وتسعة آلاف جريح «هذا ما كان وقت أن جلست أنزف هذه الكلمات».

كنت أفكر فى أن أقدم هذا الأسبوع كتاب
«الأخلاقيات والحرب» من تأليف ديفيد خيشر، الصادر عن عالم المعرفة الكويتية.

 وعنوانه الفرعى: هل يمكن أن تكون الحرب عادلة فى القرن الواحد والعشرين؟
 وجدت الكتاب يقول: الحرب وحش متلون يغير بشكل منتظم من طبيعته.
وجدت جنرالاً أمريكياً شهيراً فى حرب الاستقلال يقول «الحرب هى الجحيم، الحرب سوداء ووحشية. وبعد أن انتهت معركة الجنرال مع الجنود قال:
علينا تدمير المدينة لكى يرى السكان ماذا تعنى الحرب!
وتركت الكتاب وهو يقول:
 عندما تبدأ الحرب تتوقف الأخلاق. وعندما تسمع رجل سياسة يتحدث عن الأخلاق وسط الحرب: ابحث عن «قشرة الموز» التى يلقى بها فى طريقك.
تركت الكتاب لوقت آخر.
 فقد احتلت أخبار غزة سماء يومى وأرضه.
 لم يكن ما يحدث إلى جوارى فى غزة حرباً: كان جريمة مكتملة الأركان.
 غير أخبار الصحف، ومشاهد الدم والدمار. رحت أبحث عن صورة غزة: القديمة الجديدة. غزة الباقية رغم كل الأيام السوداء.
يقال «غزة هاشم» فيها دفن السيد هاشم بن عبد مناف.جد الرسول.
وفيها شعب الجبابرة الذى كان يتحدث عنه ياسر عرفات، لا يهم من يتصدر المشهد.. الكل إلى زوال، وليس ما حدث فى القاهرة ببعيد.
الناس هم من يصنعون التاريخ، وهم من يجلبون الفجر: هم من قاتل وصمد وعاش تحت النار والفقر والحصار فى 1956/1967، ثم فى 2008/2012/2014. هم من يواجهون عدواً يقول:
 يا غزة أنت محرومة من رحمة الرب.
 ومن يقولون إن قتل الأغيار خدمة للرب.
ومن يعتقدون: «حين تتقدمون لمحاربة مدينة فادعوها للصلح أولاً.. فإن استسلمت فكل ساكنيها عبيد لكم، فإن رفضت فاقتلوا جميع من فيها من الذكور بحد السيف.. أما النساء والبهائم فاغنموها وتمتعوا بها فإن الرب أعطاها لكم «تسنية إصحاح 20».
لا حول ولا قوة إلا بالله.. لذلك هناك غارة كل ثلاث دقائق.
يقول المتحدث العسكرى:
 لقد طلبنا إخلاء المنطقة التى تقع فيها مدارس الإغاثة، ومع ذلك فنحن نعتذر عن الخطأ الذى حدث.
خلف القتلة محرضون كثر صامتون أكثر. وهناك من يبحث عن حل أو طريق ليهرب المجرم وفى يده دماء.
أقلب فى أوراق أدب فلسطينى قديم لعلى أجد معنى وراء الجنون:
 يقول غسان كنفانى فى مقدمة كتابه «أرض البرتقال الحزين»: نحاول جميعاً أن نخلق رؤية إبداعية للأفق الفلسطينى الخانق.. نحاول أن نرسمه حتى بالكلمات.
 الأفق يأتى ممتزجاً بالذاكرة. الفلسطينى لا يستطيع أن يتحرر من ذاكرته فى لحظات الذهول أمام المأساة.
 الذاكرة ستكون هى البوابة التى سيعبر منها إلى حيث يكتشف الطريق الوحيد الممكن لذاته».
فى مجموعة القصص: «أرض البرتقال الحزين» قصة قصيرة بعنوان «ورقة إلى غزة» القصة هى خطاب يرسله شاب إلى صديقه المهاجر.
الاثنان من فقراء غزة كانا يخططان للهجرة حيث المال وكاليفورنيا الخضراء الحرة الغنية.
 مصطفى يسبق حسين إلى هناك حيث يبقى الثانى ليستعد بجمع بعض المال من الكويت، ويعود فى زيارة أخيرة للعائلة، هناك يجد أن عدواناً قد حدث، وحاق ببيت العائلة بعض الدمار: يقول فى نص القصة:
«إننى أكره غزة، ومن فى غزة، كل شىء فى البلد المقطوع يذكرنى بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادى إنسان مريض. سأتحرر من الخيط الرفيع الذى يربطنى بهذه الأرض التى أشم فيها رائحة الهزيمة. هناك فى كاليفورنيا الخضراء الجميلة سوف أتحرر مما يشدنى إلى أسفل.. يجب أن أهرب».
زيارة أخيرة كان عليه أن يقوم بها إلى ابنة أخيه «ناديا» المصابة فى المستشفى.
 كانت الفتاة ذات الثلاثة عشر ربيعاً قد طلبت من عمها
«بنطالاً أحمر» كانت الفتاة ترقد فى المستشفى لكى يكتشف أن: «مدت كفها فرفعت بأصابعها الغطاء وأشارت إلى ساق مبتورة أعلى الفخذ.
 لن أنسى ساق ناديا المبتورة، ولن أنسى الحزن الذى هيكل وجهها واندمج فى تقاطيعه الحلوة إلى الأبد.
 فى الخارج كانت الشمس الساطعة تملأ الشوارع بلون الدم. الحجارة المركونة فى أول الشارع وضعت هناك لكى تشرح لى معنى آخر كان غائباً:
 كان الشارع وأنا عائد إلى دارى بداية لطريق طويل يصل إلى صفد. كل شىء كان فى غزة ينتفض حزناً على ساق ناديا المبتورة حزناً لا يقف على حدود البكاء.
إنه التحدى، بل وأكثر من ذلك، إنه شىء يشبه استرداد الساق المبتورة.. لا يا صديقى لن آتى»..
هذا الشعور الذى ولد صغيراً يجب أن ينهض عملاقاً، يجب أن يتضخم.. هنا بين أنقاض الهزيمة البشعة.
كتب صوت فلسطين النادر «محمود درويش» مقالاً نثرياً بالغ الأهمية والجمال بعنوان «صمت من أجل غزة».
 المقال لا صمت فيه ولكن فيه معنى غزة كما كانت وإلى الأبد ستكون.
«تحيط خاصرتها بالألغام.. وتنفجر.. لا هو موت.. ولا هو انتحار.. إنه أسلوب غزة فى إعلان جدارتها بالحياة. منذ سنوات ولحم غزة يتطاير شظايا قذائف».
 لا هو سحر ولا هو أعجوبة، إنه سلاح غزة فى الدفاع عن بقائها. وفى استنزاف العدو، منذ سنوات وغزة بعيدة عن أقاربها لصيقة بالأعداء، عزة جزيرة كلما انفجرت فإنها لا تكف عن الانفجار، خدشت وجه العدو، وكسرت أحلامه وصدته عن الرضا بالزمن. الزمن فى غزة ليس عنصراً محايداً:
 إنه يأخذ الأطفال من الطفولة إلى الشيخوخة.
 ليس فى الزمن استرخاء ولكنه اقتحام الظهيرة المشتعلة.
 القيم فى غزة تختلف.
 القيمة الوحيدة للإنسان المحتل هى مقاومة الاحتلال.
 إن غزة لا تباهى بأسلحتها وتوريتها وميزانيتها: إنها تقدم لحمها المر، وتتصرف بإرادتها وتسكب دمها.
 من هنا يكرهها العدو حتى القتل. ويخافها حتى الجريمة، ويسعى إلى إغراقها فى البحر أو فى الصحراء أو فى الدم.
ليست غزة أجمل المدن، وليست غزة أغنى المدن، وليس برتقالها أجمل برتقال ولكنها تعادل تاريخ أمة لأنها أشد قبحاً فى عيون الأعداء، وفقراً وبؤساً وشراسة.
 لأنها برتقالة ملغومة وأطفال بلا طفولة.
نظلمها حين نبحث عن أشعارها.
 أجمل ما فيها أنها خالية من الشعر.
 حاولنا أن ننتصر على العدو بالقصائد، فصدقنا أنفسنا وابتهجنا حين رأينا أن العدو يتركنا نغنى، وعندما حففنا القصائد عن شفاهنا، رأينا العدو قد أتم بناء المدن والحصون والشوارع.
 غزة من مواليد النار، ونحن من مواليد الانتظار والبكاء على الديار.
 غزة لا تشغل نفسها بالدولة الفلسطينية التى سننشئها على الجانب الشرقى من القمر، أو على الجانب الغربى من المريخ حين يتم اكتشافه.
 إنها مشغولة بالرفض: الجوع والعطش والرفض، الرفض والحصار. الرفض والموت والرفض. قد ينتصر الأعداء على غزة ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم.
لا هو موت، ولا هو انتحار.. ولكنه أسلوب غزة فى إعلان جدارتها بالحياة.
رحم الله محمود درويش. المجد لغزة وللمقاومة.
أرض البرتقال الحزين: غسان كنفانى.
يوميات الحزن العادى. محمود درويش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 2 اغسطس 2014


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق