الأربعاء، 11 مارس 2015

آدم.. وبيت الروح





يقول آدم حنين النحات المصرى، حررنى جدى النحات القديم من وطأة الإحساس بالزمن المادى والواقعى الضيق، فتح الفن المصرى القديم عينى على زمن آخر مترام.. زمن الأبدية والخلود: زمن الفن.

لآن: يقف آدم حنين وسط أكبر متحف مفتوح للنحت المعاصر. يطل المتحف على البحيرة. على أسوان، على منظر طبيعى فريد. تصور هذا المكان!
 (عشرون فدانا جنوب شرق أسوان) عندما يعتدل الجو، ويكتمل فى السماء القمر.. تجد نفسك أمام بحيرة من فضة، وسط عدد غير محدود من الانجازات النحتية، التى قدمها فى الجرانيت (حجر أسوان الخاص) حشد من خيرة نحاتى العالم، مع طليعة من نحاتى مصر الجدد قدموا هذا الانجاز على مدى عمل استمر الآن عشرين عاما.

 فى كل عام تضاف اليه حصيلة جديدة لعمل مجموعة من النحاتين. جاءوا من كل أطراف الأرض. فى أسوان تنطلق أفكارهم، ويتحرر خيالهم أمام سحر الخلود الذى يطلقه النيل، وجنادل أسوان، تحط عليها الطيور ثم تطير وتعود وهى موجودة مهيبة خالدة من الأبد إلى الأبد.

من هنا خرج بناة الأهرام ورافعو المعابد والمسلات، ومبدعو أقدم وأجمل رسوم عرفها الإنسان منقوشة على الحجر.

يقف الإنسان هنا، على هذه الأرض من أى مكان جاء فيدير رأسه وكيانه الخيال الحر، الذى جسدته إدارة الإنسان وشكلت من الجرانيت أحلاما وأفكارا إنسانية، تتحدى الضعف والقبح وسلبية الإنسان أمام صلابة الحجر.

الإنسان والخيال. العمل والطبيعة. الشمس والقمر. الماء والصخر. الإنسان والطيور تذهب وتعود فى متحف النحت المفتوح بأسوان. عشرون عاما من الحوار النحتى وضعت النحت المصرى الحديث وسط تيارات النحت المعاصر. وجاء إلى أسوان كل اتجاهات النحت على الحجر. لا أحد هنا يقلد النحت القديم. الخيال منطلق إلى بعيد، تحمله امكانات وأفكار ووسائل حديثة. كلهم كما يقول المعلم آدم يبحثون عن «الحقيقة العارية» حقيقة الإنسان فى حواره المتصل مع الطبيعة والوجود المتغير، الجمال والخيال والإيقاع فى حوار الفراغ مع الضوء والحجر وراء هذا الجهد والعرق الإنسانى الذى جاء من كل أرجاء الأرض لكى يترك كلمة جديدة فوق أقدم وأجمل أرض، كلمة فريدة خاصة حرة تضيف إلى الوجود غنى وجمالا.

الدورة العشرون كانت مهداة إلى آدم حنين.
وقد اقتصرت على النحاتين المصريين
 (16 فنانا: 9 فنانات، و7 فنانين).

شكل «المعلم» الكبير آدم فريقا من الفنانين:
شريف عبدالبديع ـ وهانى فيصل ـ وعصام درويش ـ وعملوا هم الأربعة فى صرح نحتى كبير مكون من 7 كيانات حجرية متجاورة تتغير أشكالها مع حركة الضوء والشمس ومكان النظر. هذا الصرح اسمه: بيت الروح. وقد أهدته المجموعة إلى سمبوزيوم أسوان الذى بلغ سن الرشد.

ولا يمكن أن يذكر هذا اللقاء النحتى الاحتفالى «سمبوزيوم» أسوان للنحت فى الحجر دون إرجاع الفضل فى وجوده وبقائه وازدهاره إلى جوار المعلم الفنان آدم إلى الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق ( 1987 ـ 2011) وصلاح مصباح محافظ أسوان الذى انطلق السمبوزيوم فى زمنه والذى اختار مع آدم موقع المتحف المفتوح.. وطبعا لا أحد ينسى جهد الراحل الكريم صلاح مرعى الذى رحل وترك اللقاء فى رعاية صديقه أنسى أبوسيف. يحتضن السمبوزيوم صندوق التنمية الثقافية فى الوزارة، وتوفر المحافظة للفنانين أحجارهم ونقلها كما يستضيف فندق بسمة إقامتهم.

فى أسوان الآن حدث مصرى عالمى.
 قوى وجميل قد من صخور أسوان يتحدى قبح الجهلة وظلام المتخلفين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 11مارس 2015

السبت، 7 مارس 2015

.. بصراحة.. ولا ندم

                      

«.. رأيت نفسى، هذا أنا: منذ حوالى أربعين عاماً، تضاربت أحاسيسى، شعرت بمدى التغير الذى حدث لى، أحسست بالدهشة لسرعة مرور الزمن، لكننى أعتقد أننى لا أشعر بالندم على أى شىء فعلته طوال هذه السنوات، ربما كان ذلك أفضل ما يمكن أن يشعر به إنسان فى مثل عمرى».


.. هكذا قال على الشوباشى «1933-2001» قرب نهاية كتابه الممتع والكاشف «رابعة ثالث» رحلة بالقلم والعقل والمشاعر، داخل صورة فوتوغرافية قديمة «1949» للكاتب الراحل مع فصله الدراسى قرب نهاية المرحلة الثانوية، عثر على صورته القديمة وهو يحاول القيام بتلك العملية المستحيلة:
 ترتيب الأوراق والمكتبة:
 مستحيلة لأنها تعنى ترتيب الحياة، وكشف المعنى المختفى وراء الأشياء، والوجوه والوقائع والكلمات، تحركت الصورة بما فيها من وجوه أصدقاء وزملاء فصل وأساتذة وناظر مدرسة، وبواب، عصر كامل، وقيم ومعان بعثتها حية تلك الصورة القديمة بقلم هذا الكاتب صاحب العقل والروح والأسلوب النقى الذكى المستقيم، فى الصورة التى تحولت إلى كتاب يعيش 7 مدرسين، و22 تلميذاً يستعرض الكاتب من خلاله حياة مجتمعنا:
 ما كان وما هو كائن وما يتحول إليه، كيف كنا وكيف أصبحنا وإلى أين المسير!


صنع على الشوباشى فى هذا الكتاب الصغير «175 صفحة» وثيقة وخريطة اجتماعية لتحولات المجتمع المصرى فى نصف قرن غير عادى عاشته مصر، عانت فيه تقلبات سياسية واقتصادية عشوائية، مليئة بالألم والأوجاع وقليل من النور والفرح.


ناظر المدرسة «الحديدى بك» نموذج لموظف الحكومة الكبير المحترم الذى يعرف شرف مهنته ويؤديها فى مهابة وعقل واحترام «حضرة الناظر» يظهر بحساب ويبتسم بحساب، مركز هذا الكون الصغير وضابط إيقاعه، سلوكه وحياته الخاصة وملابسه، وحتى رائحته تكمل معنى الهيبة والاحترام الذى انقرض.

يستحضر الكاتب عن طريق 6 مدرسين عالماً مدرسياً ذاب فى الزحمة والعشوائية والإهمال: المقررات والمناهج، النظام والتدريس فى الفصل، العلاقة بين التلميذ والمعلم، الرجل الثانى فى المدرسة الأستاذ لويس حبيب قبطى مصرى يحمل على أكتافه فى رضا ومحبة: مسؤولية الأعباء الإدارية إلى جانب دوره كمعلم لغة إنجليزية من الطراز الأول، فخور بابنه «أحمس» ضابط الشرطة الذى أكمل دراسته فى أمريكا لأنه يتقن اللغة وعاد ليشغل منصب الرجل الثانى فى إدارة الجوازات «الكاتب يتحرك بسلاسة نادرة إلى الماضى ثم إلى المستقبل فيتحول الوجه الصغير فى الصورة المدرسية إلى رواية كاملة تسجل معنى، أو تكشف تحولاً فى قيمة اجتماعية».

فى صور المدرسين مسيحى آخر، يكمل رسم مشاكل الوجود المسيحى فى الأربعينيات وتلاها الأستاذ وصفى تادرس كان يحلم بالسير فى الطريق الذى فتحه الدكتور مشرفة، دخول مصر إلى النادى النووى، لكن الوساطة حولت بعثته الدراسية إلى ابن أستاذ جامعة، وتحول هو إلى مدرس ثانوى يطارد حلماً أصبح مستحيلاً، يتابع على الشوباشى حلم وصفى تادرس حتى يهاجر مع عائلته إلى كندا، هناك لا يجد صداقة ولا علاقة حميمة، ولا أحداً يفتح له قلبه، يختلف مع زوجته ويتركها مع الأولاد هناك ويعود ليقضى شيخوخته فى الوطن، الأستاذ إبراهيم خليل إبراهيم، مدرس اللغة العربية، الذى يضرب بسن المسطرة على أصابع المعاقب، له مأساة مرعبة فقد سقط أحد ولديه التوأم تحت عجلات الترام، رحل الطيب وبقى الشرير فى تحكمات القدر الباطش لكى يتوفى الأستاذ نفسه فى العام الذى يليه.


من وجوه 22 تلميذاً يرسم الشوباشى صورة مقربة أخرى للشأن السياسى، بقايا حزب الوفد التى تذوب فى أمواج الانتهازية السياسية التى تطلقها تنظيمات السلطة من أول هيئة التحرير حتى الاتحاد القومى والاشتراكى والتنظيم الطليعى، تنظيمات سياسية اسماً، ولكنها فى حقيقتها سلالم للمصالح والأغراض والمناصب.


يرصد حال التنظيمات الشيوعية التى تعيش منفصلة فى فلسفات وشعارات متعالية لكى تنتهى إلى اعتقالات أو تحولات إلى عمالة مع أجهزة الأمن، كما يرصد صورة طريفة لشيوعى تحول فى قرية فى الصعيد إلى شيخ مشعوذ له كرامات، وعلى صلة عميقة مع الشرطة.


الإخوان وجدت فى لوحة على الشوباشى مكاناً كبيراً، فى رصده لوجه تلاميذ فصله يدرس ويتابع أهم قسمين فى هذه الحركة: القسم السرى العنيف الذى انتهى إلى الكفاح فى أفغانستان، والقسم الانتهازى المترهل الذى اختفى فى آبار نفط الخليج، وعاد فى شكل سماسرة أموال، أو تجار سلاح، أو دعاة يبررون النوم مع البغايا بأن تجعلها تقول «زوجتك نفسى» ثم تطلقها بالثلاثة بعد أن تقضى وطرك كحيوان.


رواية على الشوباشى عمل تسجيلى له دلالة سياسية مهمة مكتوب بقدر كبير من الإنسانية والبراعة الفنية:
 له الرحمة والمغفرة فقد ترك المجتمع عارياً يبحث عن معنى أصيل ومفيد للعمل السياسى.

رابعة ثالث - رواية - على الشوباشى
- مختارات الكرمة - 2015.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة المصري اليوم بتاريخ 7 مارس 2015

السبت، 28 فبراير 2015

حمار «محمود سعيد» بريشة «عادل عصمت»!





طنطا: ثالث مدن مصر المحروسة بعد العاصمتين، قلب الدلتا، تحاك حولها الروايات والأساطير، هناك السيد البدوى وأقدم وأعرق العائلات القبطية التى صنعت اقتصاد الدلتا، وتجارتها، فى طنطا تمثلت خصوصية وصعوبة العلاقة المصرية بين الأديان، ومن توسطها فى القلب خرج النسيج الفريد للشعب المصرى، لا أريد أن أقع فى مدح الخصوصية، ولا الإشادة بوحدة النسيج: فبداية اليقظة الاعتراف، والمعرفة والتعرف الأمين على الواقع أول طريق المستقبل.

عادل عصمت: كاتب وروائى من قلب طنطا، عنها يكتب وفيها يعيش «مواليد 1959 - جائزة الدولة التشجيعية - 6 روايات متفردة - كتاب جميل بعنوان: ناس وأماكن - مقالات سياسية سبقت ثورة يناير، وعاصرت وواكبت حكم الإخوان القصير عن التنوير والفهم الحقيقى للدين»، عرفت وأحببت رواية «النوافذ الزرقاء» التى قدمت واحدة من أصدق وأهم الصور، عن مقدمات ألم 67، ما سبقها وما أعقبها، الكتاب الثانى الذى أعرفه له هو: ناس وأماكن، وفيه تجربة خاصة فى الكتابة عن العلاقة العضوية المتبادلة بين تاريخ المكان وتطور شخصيات لأناس وأحوالهم كعناصر، لفهم الحالة الاجتماعية: محاولة إنسانية فلسفية لفهم حالنا بحق بعيداً عن الشعارات وصياغات الإعلام التى يتشدق بها الكتبة والكتاب.

أطلت فى تقديم الرجل لأنه - كما يبدو - يصر على البقاء فى طنطا بعيداً عن دوائر الضوء الزائف، أعتقد أنه رفض: حل الملايين فى الثمانينيات وما بعدها، لإنقاذ وضعه المالى بالسفر إلى الخليج، بل قرأت أنه عمل سائقاً لتاكسى كى يوازن دخله ويمكنه إعطاء الكتابة حقها من الجهد والأمانة والإخلاص.

مفاجأة الأستاذ عادل عصمت الثالثة لى كانت روايته الجديدة حكايات «يوسف تادرس» الصادرة عن «كتب خان» وسط سوق «الأكثر مبيعاً» و«أدب التسالى» وأدب «الاعتراض الأجوف»: يقدم عادل عصمت رواية: أزعم أنها فتح فكرى وأدبى جديد، إلى جانب أنها متعة روحية وفنية خالصة.


حكاية أخيك يوسف تادرس بشرى، الرسام القادم من قلب حوارى وأزقة طنطا، حكاية عميقة ومسلية ومليئة بالكشف والعناء والصدق، يحكى أخوك يوسف، حياته: إيمانه، وغرامه، تاريخه وفنه، العائلة النازحة من الصعيد «الخواجة تادرس بشرى» تاجر الغلال الذى «لا يعمل الغلط» كبرياء المسيحى الأمين المستقيم، الذى نزح من «المنيا» بعد أن مر بتجربة مرة بغرق ابنه الوحيد فى النيل ثم وفاة زوجته، صحب ابنته المتبقية «فتنة أو فاتن» وهاجر إلى الإسكندرية، تحت رعاية ابنته التى صارت راعيته، صنع ثروة من العمل خلال فترة الحرب والتجارة مع معسكرات الاحتلال، ثم استقر فى طنطا فى قلب الدلتا فى رحاب السيد البدوى، ومارى جرجس اشتغل بتجارة الغلال فى وكالة يديرها بالصدق والأمانة، هو لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه: ليس «بصمجى» يستعمل أصبعه أو الختم للتوقيع ولكنه يعرف كيف يكتب اسمه وله توقيع فيه تلتف نهاية الياء حول الاسم وينظر هو إليه فى فخر واعتزاز، يفرد الجريدة أمامه على زجاج مكتب الوكالة ويحاول جاهداً فك طلاسم الكلمات، العلم والقراءة هما النور الحقيقى.

فى الخامسة والأربعين أقنعته ابنته فاتن بالزواج مرة أخرى لكى يستقر وتستقيم الحياة، إلى جانب الوكالة كان قد اشترى بيتاً يشبه الحوش ويشغل زقاقاً كاملاً فى منطقة قريبة من «شارع النحاس» أهم شوارع طنطا، استعمل دكاكين الزقاق لتخزين الغلال، ثم بدأ يؤجر الغرف لأسر صغيرة، أصبحت كل غرفة بيتاً مستقلاً لكنه احتفظ بسمت البيت الواحد، أهل الزقاق أسرة واحدة مركزها بيت الخواجة تادرس، أقنعت البنت أباها التاجر المنتعش بالزواج وكان أهم مزايا العروس أنها تعرف القراءة والكتابة.

الست «أم يوسف» حكاية وحدها، احتلت مكانها فى الزقاق، والمجتمع وفى جمعية «الكتاب المقدس»، وأنجبت بعد عناء للخواجة - يوسف ونادية - وعاشت وماتت شخصية فاضلة محترمة، تجمع تبرعات للجمعية التى ترعى الأيتام وتعلمهم فى ورش النسيج والخياطة.

لا تعرف كيف أدخلك عادل عصمت إلى قلب عالم الخواجة تادرس والست أم يوسف، من خلال حكايات ابنهم أخيك يوسف تادرس.

لم أر أحداً من الكتاب الجدد استفاد وطور روح السرد الروائى عند نجيب محفوظ كما فعل كاتبنا فى هذه الرواية، دون تقليد أو أصالة ولكنه استطاع استحضار روح العلاقة الحميمة التى يقيمها محفوظ مع قارئه، وهو يغلق عليه عالم الرواية الجديد، قد يشعر القارئ أنه واحد من العائلة أو ساكن من سكان الزقاق.


أخوك يوسف، نعم أخوك يوسف هو الذى يحكى فى مونولوج متصل يستمر إلى أكثر من 250 صفحة مقسماً إلى حكايات عن حياته هو بعد أن جعلك فرداً من العائلة، وجزءاً من الزقاق ثم يدخلك إلى معاناته الخاصة مع الرسم، مع الإبداع والفن والإيمان منذ تأثره برسوم جورج البهجورى فى مجلة صباح الخير، حيث نشر له الرسام الصغير لوحة صغيرة ربطته نهائياً بهذا الفن الذى صنع حياته وعذابه وتحكم فى كل علاقاته داخل المجتمع المسيحى ثم فى محيط المجتمع المسلم، الذى شكل دائماً أغلبية، مرات متفهمة ومحبة، وغالباً مكشرة عن أنياب التطرف، وصراخ الدعاة الحمقى، أو غباء المحجبات المستورد لنا بعد أزمتنا مع وطننا أعقاب هزيمة مشروع ناصر.

منذ تخلق خيوط النسيج فى الورش المظلمة الملحقة بجمعية الكتاب المقدس، وتحولها إلى حدائق تسبح فيها فروع الشجر والطيور والأسماك حتى تشجيع أبلة «مارى لبيب دميان»، مدرسة الرسم الأولى، التى وقفت خلفه مشجعة «ارسم، ما تشاء ارسم ولا تخف» حتى السحر الذى أخذه فى عالم محمود سعيد، خاصة لوحة «المدينة» حيث خلق محمود سعيد أجمل حمار فى التاريخ، رشيقاً ونظيفاً وكأنه قد استحم فوراً، لا علاقة له بالتراث الأسطورى للرسم الأوروبى، ولكنه خارج من طين هذه الأرض، يحمل روحها وإيمانها.

تغرق مع أخيك يوسف فى غرامياته: غرامه بالبنات وغرامه بالرسم شكل من أشكال بحث الروح عن الخلاص.. عن النور.. عن المحبة الصادقة غير المدعاة.

تزوج يوسف من جانيت، طبعاً زواج مسيحى أبدى لا انفصال له، ولكنه يقع فى غرام سناء المسلمة، وتدور محنة يعرفها المجتمع المصرى وتعكس اختلاف أحواله وفهمه لحرية الفرد ولسماحة الدين، تنتهى مغامرة أخيك يوسف مع سناء المسلمة بالفشل وتسافر الفتاة هرباً من الحب المحبط! وبقى يوسف مع جانيت وأنجبا ميشيل وفادى، ميشيل الذى يريد الهجرة إلى أمريكا ويفعل ذلك فعلاً، وفادى الذى يعمل فى الصاغة ويعارك ذباب وجهه كما يقولون.

حكيت كل هذا الكلام كى أدعوك إلى التعرف إلى الفنان الافتراضى أخيك يوسف تادرس.. وإلى الإعجاب بأديبنا الكبير الجديد «الكبير هنا بحق» وليس لفظاً إعلامياً، عادل عصمت.
حكايات يوسف تادرس، رواية، عادل عصمت، كتب خان - 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 فبراير 2015

السبت، 21 فبراير 2015

من ذكر وأنثى

               
 


هذه رواية «مغربية» غاضبة ومشحونة بالجمال الفكرى والفنى، غضب كاتب مثقف على حال عالمنا العربى، شرقه وغربه. «من ذكر وأنثى» عمل فنى شجاع يخترق ركود السرد العربى ويقف فى مكان خاص بين الرواية والسيرة الذاتية، بين الشعر والتقرير السياسى.

 بنسالم حميش «سالم حميش فى المشرق»:كاتب وشاعر ووزير ثقافة سابق، وأستاذ فلسفة، تأخرت أنا كثيراً فى التعرف على أعماله الفكرية والفنية، ومواقفه الفكرية والسياسية، ولست وحدى مسؤولاً عن هذا التقصير، فإن العلاقة بين المشرق والمغرب العربى فى الفكر والثقافة والفن مرض من الأمراض المزمنة فى حياتنا، نحمل نحن العرب بعض المسؤولية عن هذا المرض، وكالعادة يتحمل الاستعمار القديم والجديد الجزء الأكبر.


سالم حميش مواليد مكناس 1947، شاعر وروائى يكتب بالعربية والفرنسية «يمتلك لغة عربية نادرة، عصرية مشحونة بالموسيقى والإيقاع التراثى الصوفى العذب، يقول:
 اللغة ليست مجرد وسيلة الكاتب لكنها موطن الكاتب وبيته.


درس الفلسفة فى الرباط والسربون فى باريس، وقائمة أعماله الفكرية والتاريخية والفلسفية تبدأ بكتاب: فى نقد الحاجة إلى ماركس 1983، ثم دراسات عن ابن خلدون، كتب عنه رواية: «العلامة 2012» وابن رشد، و«نقد ثقافة البداوة والحجر» 2004، العرب والإسلام فى مرايا الاستشراق، وقائمة الأعمال الفكرية طويلة.


فالرواية هذه «من ذكر وأنثى» روايته الحادية عشرة، الأولى كانت «مجنون الحكم» عن الحاكم بأمر الله هى أشهر أعماله، وتعد واحدة من أهم 100 رواية فى القرن العشرين، وسماسرة السراب 1995، حتى «معذبتى» 2011 وامرأة أعمال 2013، وله دواوين شعرية أهمها: ثورة الشتاء والصيف 1983، وديوان الانتفاض 2000.


أصدر سالم حميش مجلة باسم «البديل» لفترة قصيرة، ولكن السلطات أوقفتها، واشتغل بالسياسة فى الحزب الاشتراكى، تولى مسؤولية وزارة الثقافة فى المغرب، بوزارة عباس الفاسى من يوليو 2009 إلى يناير 2012.


أعتذر عن هذا التقديم الطويل، ولكن دفعنى إليه عنوان مقال للأستاذ اللاوندى فى الأهرام الغراء، يسأل بتعجب:
 كم عدد المصريين الذين يعرفون بنسالم حميش؟!
مرة أخرى نحن أمام هذا المرض العربى الخطير الذى يجب أن نجد له حلاً فكرياً قبل الإجراءات الإدارية أو السياسية يكاد القارئ العادى لا يعرف من كتاب المغرب سوى صاحب
«الخبز الحافى» الراحل محمد شكرى «1935-2002» وذلك لما أثارته الرواية من ضجة ومصادرة ومشاكل.


«من ذكر وأنثى» رواية خصبة، صدرت فى وقتها، تنطلق من: سورة الليل «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى».

وستة عشر فصلاً تتفاوت فى الطول والقصر، كتبت فى نفس شعرى متصاعد يشكل لوحة عريضة للحياة فى الدار البيضاء، وللغرب وبيروت، ترتاد الشواطئ والشوارع المزدحمة والمقاهى والحانات، ومقالب الزبالة والمدافن، فى صحبة الكاتب عبدالله الذى يشغل وظيفة فى وكالة الإعلام المغربية، ويكتب القصائد، ويحضر الندوات والمؤتمرات الأدبية والنسائية، ويكتب الشعر والقصة، وسيناريوهات الأفلام، تعدى سن الشباب وأصبح له اسم معروف، ولكنه ليس كاتباً تحت الطلب.

 إنه يعيش فكره ويكتب حياته، أو هى التى تكتبه.
فقد عبدالله زوجته الحبيبة وابنته فى حادث سير، وتكاد الرواية كلها تكون هروباً من هذا الحزن الحارق الذى شكله هذا الحادث العبثى القاسى، حاول أن يتزوج مرة أخرى، لكنه أساء الاختيار، فطلق، وصار حراً حزيناً، يحتاج إلى المرأة، ويفكر فيها، ماذا تعنى وأى مكان تحتله فى حياة الرجل وفى المجتمع، الحياة فارغة من المعنى بدونها، لم يبق سوى الكتابة، والبحث فى عالم النساء عن معنى، عن سيدة تسد هذا الفراغ الذى صار يشعر به، ليس فقط فى بيته أو سريره، ولكن فى عقله وفى روحه.

من ندوة نسائية «عن التحرش الجنسى إلى أين» إلى مخادع البغايا، إلى علاقات غرام مغشوش، إلى حب مجنون من طرف واحد ينتهى بانتحار يدخله فى حداد فوق حداد، ويدفعه إلى محللة نفسية وجلسات تنويم، ولكنه يبقى كما يقول المثل اليابانى «كأنه يريد طرف الضباب بمروحة».

 ما هى المرأة:
 هل هن ناقصات، أم هن كما يقول ماوتسى تونج
«النساء يرفعن نصف أعمدة السماء» أم هن كما يقول أراجون فى عيون «إلزا»: المرأة مستقبل الرجل.

يهرب من الأسئلة فى الرحلات والاعتزال فى البيت، والبحث فى الأوراق القديمة، «أنا الأرمل المطلق الطليق» الكاتب الذى هجرته الكتابة مع من مات وتركته للأقدار تعبث به، وللأوراق القديمة تقلقه، وللأحلام، آخر حلم لا يذكره كله، ولكن يذكر زوجته وهى تقول له فى آخر الحلم:
 اسكن إلى زوجة حية مريحة، أحبلها طفلاً يعوضك عن سلوى ابنتنا، فلعل الحياة هكذا تصير حلوة نضرة.


«كلثوم» هى الحل الأخير: زوجة بشروط، تمضى معه نصف العام والنصف الآخر عند أقاربها بجوار «بيت الله الحرام» زوجة لن تنجب تعرف أنهما فى نهاية العمر، وتقبل أن تسير معه إلى خط النهاية.
المرأة والبناء الروائى الذى أستعرضه لك هو «النول» الذى ينسج عليه الكاتب سالم حميش رؤيته لواقع الكتابة والثقافة والمجتمع والحالة السياسية التى يعيشها العالم العربى الآن.

إنه يبحث عن أوراق مسودة عمل قديم مزق أوراقه فى مقالب الزبالة وهناك يقدم فصلاً روائياً بالغ القسوة والوضوح عن حياة أولاد الشوارع الذين يشمون الكلة، ويعيشون فى أكوام الزبالة إلى جوار أحياء الصفيح مطاردين من البوليس والقوادين والبلطجية.
الندوات الأدبية تقوده إلى استعراض ظاهرة «أدونيس» خالق حالات الادعاء والفراغ الحداثى الذى يعيش فيه قطاع كبير من المثقفين العرب، يعيشون على ما يقدمه لهم من فراغ فى المبنى وعبث فى المعنى.

فى بيروت يصادف واعظاً طيباً فى كنيسة صغيرة يكشف فى كلمات حارة صادقة حالة الجنون الدينى الفارغ الذى نعيش فيه، والذى لا يخدم إلا بقاء الحال على ما هو عليه، واستمرار أصحاب المصالح فى مص دماء ومستقبل ملايين الضائعين الفقراء.

فى لقاء صحفى مع الكاتب المغربى يسأله الصحفى عن الربيع العربى فيقول: الربيع العربى ربيع رائع يافع، ثورة على ظواهر العبث العربى، ربيع حلحل أوضاعاً فاسدة وحرك مياهاً راكدة، يصدق عليه قول الشاعر المفكر محمد إقبال، قيثارتى ملئت بأنات الجوى/ لابد للمكبوت من فيضان/ ومهما تعثر أو انتكس فهو قد أشعل ناراً لن تنطفئ إلا بتحقق العدل والكرامة والحرية، كنت اقترحت تحويل شعار «ارحل» الذى رفعته الشعوب إلى «ازهق» الواردة فى الآية الكريمة
«وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً».


نحن أمام رواية غنية شيقة مليئة بالسياسة والحب والإنسانية والتصوف


من ذكر وأنثى، بنسالم حميش
رواية دار الشروق، القاهرة 2015
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 فبراير 2015

السبت، 14 فبراير 2015

طعم الحياة فى جزيرة الأحياء

         

               

فتح الله أبواب الشعر واسعة أمام الشاعر أمين حداد، كما فتحها من قبل على والد الشعراء فؤاد حداد، فكتب مصر: أرضها وسماها حزنها ونيلها وشعبها: ثورته وحزنه وانكساره.

المهندس أمين حداد أصدر مؤخراً ديواناً بعنوان:
«جزيرة الأحياء: شعر وكلام وسحر وأحلام من حى الإمام الشافعى».

 أمين الذى سجَّل ثورة يناير يوماً بيوم، كتب شعراً للجموع وللشهداء، هو مواليد 1958 جاب فى ديوانه هذا الجديد:
أرض الوطن.. القاهرة، الإمام، الحلمية، البلد كله، قبلى وبحرى، القطارات، الجدات، الأيام، وقبل الكل: أباه، ابنه، حبه، شعره.. والكلمات، القرى والنخلات، الكلاب وضجيج الميكروفونات والصمت:
«المفاجأة البديهية
أننى لست كاتب هذه الكلمات
أنا الكلمات نفسها
وأنت القارئ الذى يعطيها عمرها
اقرأنى لتحيينى».

الكل يعرف أن فؤاد حداد أمضى خمس سنوات معتقلاً:
كان أمين ابن سبعة شهور، وخرج فؤاد، وأمين خمس سنوات وسبعة شهور
«ستار من النور وأبى بعيد.. بعيد
يبكى وحيداً
أبى
أبى
أنادى شعراً فيأتينى هو.. فتخرج أنفاسه من فمى
ويتمرد الشعر على طبيعته الشفافة ويصبح ناساً يعيشون خلف ستار من نور».

كما يقول أمين حداد كفانا الله شر القصائد المفتعلة:
هنا فى هذه الجزيرة أنت أمام عالم من الصدق والدهشة والاكتشاف. إن قلت سيرة ذاتية، فهى فلسفة وتأمل، وإن قلت شعراً فهى اجتماع واكتشاف وثورة!
لماذا حى الإمام؟
 هو جزيرة الأحياء وسط بحر من الموتى/ ولا يدخل إلى حى الإمام الشافعى إلا من أراد دخوله، فهو ليس طريقاً لأى من أحياء القاهرة..
... «نعيش فى جزيرة من الزمن فى بحر من العدم».


يا نوم يا رب الأحلام والكوابيس.
 أعد لنا «الأيام» لأن الأيام «بتهل وتمشى.. والأحلام بتقل حبة حبة ودموعى من الرقبة واصلة لرمشى.
 أما البيوت: فكل البيوت وحشانى.

بيوت كتير الزمن خلاها تشبه بعض، أفضل ألف عليها.. وأدق على البيبان وأنادى ما حدش يرد علىّ، حابقى آجى فى وقت تانى.. يكونوا رجعوا بالسلامة إن شاء الله».

يحاول بسطاء الناس أن يلمسوا السماء، فتراهم يطلقون/ الطائرات الورقية، ويربون الحمام الذى يدور فى السماء ويعود.
«وبعض الحمام يذهب ولا يعود
وبعض الناس كذلك.

يخرج أبى مرة حراً.. ومرة يتوفى».
ربط أبى بين الإمام والحمام تقريباً فى كل مرة كتب فيها عن الإمام.
وقال حفيده، أحمد:
«ريحة الحليب مفروشة فوق الإمام
ومفشطة فى غمرة سرب الحمام».

وقال حفيده أحمد أيضاً:
«كان عندى حمام بيعرف يرجع مهما يطير
علمنى إزاى أرفرف وأتأخر فى المشاوير
وخرج أبى مرة ولم يعد
وبعض الحمام يذهب ولا يعود».


لهذا الكتاب المفتوح الذى تغمره الشمس ويشبع من الضوء والنسيم إهداء جميل يقول:
«إلى طعم الحياة حسن حداد، ورحلته معنا منذ أن كان ابننا إلى أن أصبح أبانا: فؤاد وزكية وسليم وأمين».

حسن الشقيق الأصغر، وطعم الحياة فى ديوانه - أقصد مجموعته القصصية التى أصدرها. يقول عنه أمين حداد:
«أخذت (حسن) فى يدى وهو ابن السنتين والنصف لنشترى البسكويت من أم عنتر، يوم الاثنين 5 يونيو فى صباح ساطع. وداهمتنا زمارة الخطر المتقطعة التى لم تمنعنا من إتمام مهمتنا، عدنا لنسمع البيانات العسكرية وإسقاط الطائرات الإسرائيلية/ ونسمع دوى انفجارات بعيدة».

***
أحلام اليقظة ويقظة الأحلام.
لغة الشاعر: سبيكة جديدة أشعر أنه يستخرجها من طرح النخل أو عمق النيل من فم الجدة، وصمت اليتيم.

قصيدة «موت مبهج» وقصيدة «لحظة من فضلك» أتمنى لو أننى أدخل إلى عالمهم، وأكتشف القصيدة من الداخل، وأمشى فى ضوء تكون إيقاع الكلام.

الديوان يأخذك إلى إيقاع الحب والحياة.
 من يعرف الفن والحب لا يعرف رتابة الحياة: هكذا يقول أمين حداد.

لى أنا جرح لا يندمل مع 67 وألم قائم فى الأحشاء، وقد كتب والد الشعراء «نور الخيال» ديواناً يعالج فيه بعض ما حدث: قال فى المقدمة التى أوردها أمين فى جزيرته:
«من القلب عندما شُق بالعرض والطول وغاصت
فيه الجراح لترسخ أو تنطلق. ومن العين عندما
قرأت الهزيمة فى التليفزيون وسرى فى السلسلة
ماء كالرصاص أو الجليد».

ثم مات عبدالناصر وخرج الناس.
ولم يعد.
كان عمره قد وصل للمصب فى بحر الجماهير التى ودعته بالدموع والسواد.

لك الله والناس يا بلد! جزيرة أمين حداد وصلتنى فى أيام يقال عنها عيد الحب، وجدته فى آخر الديوان البحر يقول لى: «الوقت هدية المحب للحبيب».

 أهدى كلاماً بلا صوت.
 لن يضيع ما ورثته سدى، ولن أخاف بعد الآن من الظلم الغبى ولن تضيع حياتى. ومن أحب الناس... عاش.
سلمت لنا ودمت.

جزيرة الأحياء- شعر أمين حداد
- دار الشروق

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 فبراير 2015 

طعم الحياة فى جزيرة الأحياء

   



فتح الله أبواب الشعر واسعة أمام الشاعر أمين حداد، كما فتحها من قبل على والد الشعراء فؤاد حداد، فكتب مصر: أرضها وسماها حزنها ونيلها وشعبها: ثورته وحزنه وانكساره.

المهندس أمين حداد أصدر مؤخراً ديواناً بعنوان: «جزيرة الأحياء: شعر وكلام وسحر وأحلام من حى الإمام الشافعى». أمين الذى سجَّل ثورة يناير يوماً بيوم، كتب شعراً للجموع وللشهداء، هو مواليد 1958 جاب فى ديوانه هذا الجديد: أرض الوطن..

 القاهرة، الإمام، الحلمية، البلد كله، قبلى وبحرى، القطارات، الجدات، الأيام، وقبل الكل: أباه، ابنه، حبه، شعره.. والكلمات، القرى والنخلات، الكلاب وضجيج الميكروفونات والصمت:
«المفاجأة البديهية
أننى لست كاتب هذه الكلمات
أنا الكلمات نفسها
وأنت القارئ الذى يعطيها عمرها
اقرأنى لتحيينى».

الكل يعرف أن فؤاد حداد أمضى خمس سنوات معتقلاً:
كان أمين ابن سبعة شهور، وخرج فؤاد، وأمين خمس سنوات وسبعة شهور
«ستار من النور وأبى بعيد.. بعيد
يبكى وحيداً
أبى
أبى
أنادى شعراً فيأتينى هو.. فتخرج أنفاسه من فمى
ويتمرد الشعر على طبيعته الشفافة ويصبح ناساً يعيشون خلف ستار من نور».

كما يقول أمين حداد كفانا الله شر القصائد المفتعلة: هنا فى هذه الجزيرة أنت أمام عالم من الصدق والدهشة والاكتشاف. إن قلت سيرة ذاتية، فهى فلسفة وتأمل، وإن قلت شعراً فهى اجتماع واكتشاف وثورة!

لماذا حى الإمام؟ هو جزيرة الأحياء وسط بحر من الموتى/ ولا يدخل إلى حى الإمام الشافعى إلا من أراد دخوله، فهو ليس طريقاً لأى من أحياء القاهرة..
... «نعيش فى جزيرة من الزمن فى بحر من العدم».

يا نوم يا رب الأحلام والكوابيس. أعد لنا «الأيام» لأن الأيام «بتهل وتمشى.. والأحلام بتقل حبة حبة ودموعى من الرقبة واصلة لرمشى. أما البيوت: فكل البيوت وحشانى. بيوت كتير الزمن خلاها تشبه بعض، أفضل ألف عليها.. وأدق على البيبان وأنادى ما حدش يرد علىّ، حابقى آجى فى وقت تانى.. يكونوا رجعوا بالسلامة إن شاء الله».

يحاول بسطاء الناس أن يلمسوا السماء، فتراهم يطلقون/ الطائرات الورقية، ويربون الحمام الذى يدور فى السماء ويعود.
«وبعض الحمام يذهب ولا يعود
وبعض الناس كذلك.

يخرج أبى مرة حراً.. ومرة يتوفى».
ربط أبى بين الإمام والحمام تقريباً فى كل مرة كتب فيها عن الإمام.

وقال حفيده، أحمد:
«ريحة الحليب مفروشة فوق الإمام
ومفشطة فى غمرة سرب الحمام».
وقال حفيده أحمد أيضاً:
«كان عندى حمام بيعرف يرجع مهما يطير
علمنى إزاى أرفرف وأتأخر فى المشاوير
وخرج أبى مرة ولم يعد
وبعض الحمام يذهب ولا يعود».

لهذا الكتاب المفتوح الذى تغمره الشمس ويشبع من الضوء والنسيم إهداء جميل يقول: «إلى طعم الحياة حسن حداد، ورحلته معنا منذ أن كان ابننا إلى أن أصبح أبانا: فؤاد وزكية وسليم وأمين». حسن الشقيق الأصغر، وطعم الحياة فى ديوانه - أقصد مجموعته القصصية التى أصدرها. يقول عنه أمين حداد:
«أخذت (حسن) فى يدى وهو ابن السنتين والنصف لنشترى البسكويت من أم عنتر، يوم الاثنين 5 يونيو فى صباح ساطع. وداهمتنا زمارة الخطر المتقطعة التى لم تمنعنا من إتمام مهمتنا، عدنا لنسمع البيانات العسكرية وإسقاط الطائرات الإسرائيلية/ ونسمع دوى انفجارات بعيدة».

***
أحلام اليقظة ويقظة الأحلام. لغة الشاعر: سبيكة جديدة أشعر أنه يستخرجها من طرح النخل أو عمق النيل من فم الجدة، وصمت اليتيم.

قصيدة «موت مبهج» وقصيدة «لحظة من فضلك» أتمنى لو أننى أدخل إلى عالمهم، وأكتشف القصيدة من الداخل، وأمشى فى ضوء تكون إيقاع الكلام.

الديوان يأخذك إلى إيقاع الحب والحياة. من يعرف الفن والحب لا يعرف رتابة الحياة: هكذا يقول أمين حداد.

لى أنا جرح لا يندمل مع 67 وألم قائم فى الأحشاء، وقد كتب والد الشعراء «نور الخيال» ديواناً يعالج فيه بعض ما حدث: قال فى المقدمة التى أوردها أمين فى جزيرته:
«من القلب عندما شُق بالعرض والطول وغاصت
فيه الجراح لترسخ أو تنطلق. ومن العين عندما
قرأت الهزيمة فى التليفزيون وسرى فى السلسلة
ماء كالرصاص أو الجليد».
ثم مات عبدالناصر وخرج الناس.
ولم يعد.

كان عمره قد وصل للمصب فى بحر الجماهير التى ودعته بالدموع والسواد.

لك الله والناس يا بلد! جزيرة أمين حداد وصلتنى فى أيام يقال عنها عيد الحب، وجدته فى آخر الديوان البحر يقول لى: «الوقت هدية المحب للحبيب». أهدى كلاماً بلا صوت. لن يضيع ما ورثته سدى، ولن أخاف بعد الآن من الظلم الغبى ولن تضيع حياتى. ومن أحب الناس... عاش.

سلمت لنا ودمت.
جزيرة الأحياء- شعر أمين حداد- دار الشروق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 فبراير 2015