السبت، 28 فبراير 2015

حمار «محمود سعيد» بريشة «عادل عصمت»!





طنطا: ثالث مدن مصر المحروسة بعد العاصمتين، قلب الدلتا، تحاك حولها الروايات والأساطير، هناك السيد البدوى وأقدم وأعرق العائلات القبطية التى صنعت اقتصاد الدلتا، وتجارتها، فى طنطا تمثلت خصوصية وصعوبة العلاقة المصرية بين الأديان، ومن توسطها فى القلب خرج النسيج الفريد للشعب المصرى، لا أريد أن أقع فى مدح الخصوصية، ولا الإشادة بوحدة النسيج: فبداية اليقظة الاعتراف، والمعرفة والتعرف الأمين على الواقع أول طريق المستقبل.

عادل عصمت: كاتب وروائى من قلب طنطا، عنها يكتب وفيها يعيش «مواليد 1959 - جائزة الدولة التشجيعية - 6 روايات متفردة - كتاب جميل بعنوان: ناس وأماكن - مقالات سياسية سبقت ثورة يناير، وعاصرت وواكبت حكم الإخوان القصير عن التنوير والفهم الحقيقى للدين»، عرفت وأحببت رواية «النوافذ الزرقاء» التى قدمت واحدة من أصدق وأهم الصور، عن مقدمات ألم 67، ما سبقها وما أعقبها، الكتاب الثانى الذى أعرفه له هو: ناس وأماكن، وفيه تجربة خاصة فى الكتابة عن العلاقة العضوية المتبادلة بين تاريخ المكان وتطور شخصيات لأناس وأحوالهم كعناصر، لفهم الحالة الاجتماعية: محاولة إنسانية فلسفية لفهم حالنا بحق بعيداً عن الشعارات وصياغات الإعلام التى يتشدق بها الكتبة والكتاب.

أطلت فى تقديم الرجل لأنه - كما يبدو - يصر على البقاء فى طنطا بعيداً عن دوائر الضوء الزائف، أعتقد أنه رفض: حل الملايين فى الثمانينيات وما بعدها، لإنقاذ وضعه المالى بالسفر إلى الخليج، بل قرأت أنه عمل سائقاً لتاكسى كى يوازن دخله ويمكنه إعطاء الكتابة حقها من الجهد والأمانة والإخلاص.

مفاجأة الأستاذ عادل عصمت الثالثة لى كانت روايته الجديدة حكايات «يوسف تادرس» الصادرة عن «كتب خان» وسط سوق «الأكثر مبيعاً» و«أدب التسالى» وأدب «الاعتراض الأجوف»: يقدم عادل عصمت رواية: أزعم أنها فتح فكرى وأدبى جديد، إلى جانب أنها متعة روحية وفنية خالصة.


حكاية أخيك يوسف تادرس بشرى، الرسام القادم من قلب حوارى وأزقة طنطا، حكاية عميقة ومسلية ومليئة بالكشف والعناء والصدق، يحكى أخوك يوسف، حياته: إيمانه، وغرامه، تاريخه وفنه، العائلة النازحة من الصعيد «الخواجة تادرس بشرى» تاجر الغلال الذى «لا يعمل الغلط» كبرياء المسيحى الأمين المستقيم، الذى نزح من «المنيا» بعد أن مر بتجربة مرة بغرق ابنه الوحيد فى النيل ثم وفاة زوجته، صحب ابنته المتبقية «فتنة أو فاتن» وهاجر إلى الإسكندرية، تحت رعاية ابنته التى صارت راعيته، صنع ثروة من العمل خلال فترة الحرب والتجارة مع معسكرات الاحتلال، ثم استقر فى طنطا فى قلب الدلتا فى رحاب السيد البدوى، ومارى جرجس اشتغل بتجارة الغلال فى وكالة يديرها بالصدق والأمانة، هو لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه: ليس «بصمجى» يستعمل أصبعه أو الختم للتوقيع ولكنه يعرف كيف يكتب اسمه وله توقيع فيه تلتف نهاية الياء حول الاسم وينظر هو إليه فى فخر واعتزاز، يفرد الجريدة أمامه على زجاج مكتب الوكالة ويحاول جاهداً فك طلاسم الكلمات، العلم والقراءة هما النور الحقيقى.

فى الخامسة والأربعين أقنعته ابنته فاتن بالزواج مرة أخرى لكى يستقر وتستقيم الحياة، إلى جانب الوكالة كان قد اشترى بيتاً يشبه الحوش ويشغل زقاقاً كاملاً فى منطقة قريبة من «شارع النحاس» أهم شوارع طنطا، استعمل دكاكين الزقاق لتخزين الغلال، ثم بدأ يؤجر الغرف لأسر صغيرة، أصبحت كل غرفة بيتاً مستقلاً لكنه احتفظ بسمت البيت الواحد، أهل الزقاق أسرة واحدة مركزها بيت الخواجة تادرس، أقنعت البنت أباها التاجر المنتعش بالزواج وكان أهم مزايا العروس أنها تعرف القراءة والكتابة.

الست «أم يوسف» حكاية وحدها، احتلت مكانها فى الزقاق، والمجتمع وفى جمعية «الكتاب المقدس»، وأنجبت بعد عناء للخواجة - يوسف ونادية - وعاشت وماتت شخصية فاضلة محترمة، تجمع تبرعات للجمعية التى ترعى الأيتام وتعلمهم فى ورش النسيج والخياطة.

لا تعرف كيف أدخلك عادل عصمت إلى قلب عالم الخواجة تادرس والست أم يوسف، من خلال حكايات ابنهم أخيك يوسف تادرس.

لم أر أحداً من الكتاب الجدد استفاد وطور روح السرد الروائى عند نجيب محفوظ كما فعل كاتبنا فى هذه الرواية، دون تقليد أو أصالة ولكنه استطاع استحضار روح العلاقة الحميمة التى يقيمها محفوظ مع قارئه، وهو يغلق عليه عالم الرواية الجديد، قد يشعر القارئ أنه واحد من العائلة أو ساكن من سكان الزقاق.


أخوك يوسف، نعم أخوك يوسف هو الذى يحكى فى مونولوج متصل يستمر إلى أكثر من 250 صفحة مقسماً إلى حكايات عن حياته هو بعد أن جعلك فرداً من العائلة، وجزءاً من الزقاق ثم يدخلك إلى معاناته الخاصة مع الرسم، مع الإبداع والفن والإيمان منذ تأثره برسوم جورج البهجورى فى مجلة صباح الخير، حيث نشر له الرسام الصغير لوحة صغيرة ربطته نهائياً بهذا الفن الذى صنع حياته وعذابه وتحكم فى كل علاقاته داخل المجتمع المسيحى ثم فى محيط المجتمع المسلم، الذى شكل دائماً أغلبية، مرات متفهمة ومحبة، وغالباً مكشرة عن أنياب التطرف، وصراخ الدعاة الحمقى، أو غباء المحجبات المستورد لنا بعد أزمتنا مع وطننا أعقاب هزيمة مشروع ناصر.

منذ تخلق خيوط النسيج فى الورش المظلمة الملحقة بجمعية الكتاب المقدس، وتحولها إلى حدائق تسبح فيها فروع الشجر والطيور والأسماك حتى تشجيع أبلة «مارى لبيب دميان»، مدرسة الرسم الأولى، التى وقفت خلفه مشجعة «ارسم، ما تشاء ارسم ولا تخف» حتى السحر الذى أخذه فى عالم محمود سعيد، خاصة لوحة «المدينة» حيث خلق محمود سعيد أجمل حمار فى التاريخ، رشيقاً ونظيفاً وكأنه قد استحم فوراً، لا علاقة له بالتراث الأسطورى للرسم الأوروبى، ولكنه خارج من طين هذه الأرض، يحمل روحها وإيمانها.

تغرق مع أخيك يوسف فى غرامياته: غرامه بالبنات وغرامه بالرسم شكل من أشكال بحث الروح عن الخلاص.. عن النور.. عن المحبة الصادقة غير المدعاة.

تزوج يوسف من جانيت، طبعاً زواج مسيحى أبدى لا انفصال له، ولكنه يقع فى غرام سناء المسلمة، وتدور محنة يعرفها المجتمع المصرى وتعكس اختلاف أحواله وفهمه لحرية الفرد ولسماحة الدين، تنتهى مغامرة أخيك يوسف مع سناء المسلمة بالفشل وتسافر الفتاة هرباً من الحب المحبط! وبقى يوسف مع جانيت وأنجبا ميشيل وفادى، ميشيل الذى يريد الهجرة إلى أمريكا ويفعل ذلك فعلاً، وفادى الذى يعمل فى الصاغة ويعارك ذباب وجهه كما يقولون.

حكيت كل هذا الكلام كى أدعوك إلى التعرف إلى الفنان الافتراضى أخيك يوسف تادرس.. وإلى الإعجاب بأديبنا الكبير الجديد «الكبير هنا بحق» وليس لفظاً إعلامياً، عادل عصمت.
حكايات يوسف تادرس، رواية، عادل عصمت، كتب خان - 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 28 فبراير 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق