السبت، 21 فبراير 2015

من ذكر وأنثى

               
 


هذه رواية «مغربية» غاضبة ومشحونة بالجمال الفكرى والفنى، غضب كاتب مثقف على حال عالمنا العربى، شرقه وغربه. «من ذكر وأنثى» عمل فنى شجاع يخترق ركود السرد العربى ويقف فى مكان خاص بين الرواية والسيرة الذاتية، بين الشعر والتقرير السياسى.

 بنسالم حميش «سالم حميش فى المشرق»:كاتب وشاعر ووزير ثقافة سابق، وأستاذ فلسفة، تأخرت أنا كثيراً فى التعرف على أعماله الفكرية والفنية، ومواقفه الفكرية والسياسية، ولست وحدى مسؤولاً عن هذا التقصير، فإن العلاقة بين المشرق والمغرب العربى فى الفكر والثقافة والفن مرض من الأمراض المزمنة فى حياتنا، نحمل نحن العرب بعض المسؤولية عن هذا المرض، وكالعادة يتحمل الاستعمار القديم والجديد الجزء الأكبر.


سالم حميش مواليد مكناس 1947، شاعر وروائى يكتب بالعربية والفرنسية «يمتلك لغة عربية نادرة، عصرية مشحونة بالموسيقى والإيقاع التراثى الصوفى العذب، يقول:
 اللغة ليست مجرد وسيلة الكاتب لكنها موطن الكاتب وبيته.


درس الفلسفة فى الرباط والسربون فى باريس، وقائمة أعماله الفكرية والتاريخية والفلسفية تبدأ بكتاب: فى نقد الحاجة إلى ماركس 1983، ثم دراسات عن ابن خلدون، كتب عنه رواية: «العلامة 2012» وابن رشد، و«نقد ثقافة البداوة والحجر» 2004، العرب والإسلام فى مرايا الاستشراق، وقائمة الأعمال الفكرية طويلة.


فالرواية هذه «من ذكر وأنثى» روايته الحادية عشرة، الأولى كانت «مجنون الحكم» عن الحاكم بأمر الله هى أشهر أعماله، وتعد واحدة من أهم 100 رواية فى القرن العشرين، وسماسرة السراب 1995، حتى «معذبتى» 2011 وامرأة أعمال 2013، وله دواوين شعرية أهمها: ثورة الشتاء والصيف 1983، وديوان الانتفاض 2000.


أصدر سالم حميش مجلة باسم «البديل» لفترة قصيرة، ولكن السلطات أوقفتها، واشتغل بالسياسة فى الحزب الاشتراكى، تولى مسؤولية وزارة الثقافة فى المغرب، بوزارة عباس الفاسى من يوليو 2009 إلى يناير 2012.


أعتذر عن هذا التقديم الطويل، ولكن دفعنى إليه عنوان مقال للأستاذ اللاوندى فى الأهرام الغراء، يسأل بتعجب:
 كم عدد المصريين الذين يعرفون بنسالم حميش؟!
مرة أخرى نحن أمام هذا المرض العربى الخطير الذى يجب أن نجد له حلاً فكرياً قبل الإجراءات الإدارية أو السياسية يكاد القارئ العادى لا يعرف من كتاب المغرب سوى صاحب
«الخبز الحافى» الراحل محمد شكرى «1935-2002» وذلك لما أثارته الرواية من ضجة ومصادرة ومشاكل.


«من ذكر وأنثى» رواية خصبة، صدرت فى وقتها، تنطلق من: سورة الليل «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى وما خلق الذكر والأنثى إن سعيكم لشتى».

وستة عشر فصلاً تتفاوت فى الطول والقصر، كتبت فى نفس شعرى متصاعد يشكل لوحة عريضة للحياة فى الدار البيضاء، وللغرب وبيروت، ترتاد الشواطئ والشوارع المزدحمة والمقاهى والحانات، ومقالب الزبالة والمدافن، فى صحبة الكاتب عبدالله الذى يشغل وظيفة فى وكالة الإعلام المغربية، ويكتب القصائد، ويحضر الندوات والمؤتمرات الأدبية والنسائية، ويكتب الشعر والقصة، وسيناريوهات الأفلام، تعدى سن الشباب وأصبح له اسم معروف، ولكنه ليس كاتباً تحت الطلب.

 إنه يعيش فكره ويكتب حياته، أو هى التى تكتبه.
فقد عبدالله زوجته الحبيبة وابنته فى حادث سير، وتكاد الرواية كلها تكون هروباً من هذا الحزن الحارق الذى شكله هذا الحادث العبثى القاسى، حاول أن يتزوج مرة أخرى، لكنه أساء الاختيار، فطلق، وصار حراً حزيناً، يحتاج إلى المرأة، ويفكر فيها، ماذا تعنى وأى مكان تحتله فى حياة الرجل وفى المجتمع، الحياة فارغة من المعنى بدونها، لم يبق سوى الكتابة، والبحث فى عالم النساء عن معنى، عن سيدة تسد هذا الفراغ الذى صار يشعر به، ليس فقط فى بيته أو سريره، ولكن فى عقله وفى روحه.

من ندوة نسائية «عن التحرش الجنسى إلى أين» إلى مخادع البغايا، إلى علاقات غرام مغشوش، إلى حب مجنون من طرف واحد ينتهى بانتحار يدخله فى حداد فوق حداد، ويدفعه إلى محللة نفسية وجلسات تنويم، ولكنه يبقى كما يقول المثل اليابانى «كأنه يريد طرف الضباب بمروحة».

 ما هى المرأة:
 هل هن ناقصات، أم هن كما يقول ماوتسى تونج
«النساء يرفعن نصف أعمدة السماء» أم هن كما يقول أراجون فى عيون «إلزا»: المرأة مستقبل الرجل.

يهرب من الأسئلة فى الرحلات والاعتزال فى البيت، والبحث فى الأوراق القديمة، «أنا الأرمل المطلق الطليق» الكاتب الذى هجرته الكتابة مع من مات وتركته للأقدار تعبث به، وللأوراق القديمة تقلقه، وللأحلام، آخر حلم لا يذكره كله، ولكن يذكر زوجته وهى تقول له فى آخر الحلم:
 اسكن إلى زوجة حية مريحة، أحبلها طفلاً يعوضك عن سلوى ابنتنا، فلعل الحياة هكذا تصير حلوة نضرة.


«كلثوم» هى الحل الأخير: زوجة بشروط، تمضى معه نصف العام والنصف الآخر عند أقاربها بجوار «بيت الله الحرام» زوجة لن تنجب تعرف أنهما فى نهاية العمر، وتقبل أن تسير معه إلى خط النهاية.
المرأة والبناء الروائى الذى أستعرضه لك هو «النول» الذى ينسج عليه الكاتب سالم حميش رؤيته لواقع الكتابة والثقافة والمجتمع والحالة السياسية التى يعيشها العالم العربى الآن.

إنه يبحث عن أوراق مسودة عمل قديم مزق أوراقه فى مقالب الزبالة وهناك يقدم فصلاً روائياً بالغ القسوة والوضوح عن حياة أولاد الشوارع الذين يشمون الكلة، ويعيشون فى أكوام الزبالة إلى جوار أحياء الصفيح مطاردين من البوليس والقوادين والبلطجية.
الندوات الأدبية تقوده إلى استعراض ظاهرة «أدونيس» خالق حالات الادعاء والفراغ الحداثى الذى يعيش فيه قطاع كبير من المثقفين العرب، يعيشون على ما يقدمه لهم من فراغ فى المبنى وعبث فى المعنى.

فى بيروت يصادف واعظاً طيباً فى كنيسة صغيرة يكشف فى كلمات حارة صادقة حالة الجنون الدينى الفارغ الذى نعيش فيه، والذى لا يخدم إلا بقاء الحال على ما هو عليه، واستمرار أصحاب المصالح فى مص دماء ومستقبل ملايين الضائعين الفقراء.

فى لقاء صحفى مع الكاتب المغربى يسأله الصحفى عن الربيع العربى فيقول: الربيع العربى ربيع رائع يافع، ثورة على ظواهر العبث العربى، ربيع حلحل أوضاعاً فاسدة وحرك مياهاً راكدة، يصدق عليه قول الشاعر المفكر محمد إقبال، قيثارتى ملئت بأنات الجوى/ لابد للمكبوت من فيضان/ ومهما تعثر أو انتكس فهو قد أشعل ناراً لن تنطفئ إلا بتحقق العدل والكرامة والحرية، كنت اقترحت تحويل شعار «ارحل» الذى رفعته الشعوب إلى «ازهق» الواردة فى الآية الكريمة
«وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً».


نحن أمام رواية غنية شيقة مليئة بالسياسة والحب والإنسانية والتصوف


من ذكر وأنثى، بنسالم حميش
رواية دار الشروق، القاهرة 2015
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 21 فبراير 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق