السبت، 7 مارس 2015

.. بصراحة.. ولا ندم

                      

«.. رأيت نفسى، هذا أنا: منذ حوالى أربعين عاماً، تضاربت أحاسيسى، شعرت بمدى التغير الذى حدث لى، أحسست بالدهشة لسرعة مرور الزمن، لكننى أعتقد أننى لا أشعر بالندم على أى شىء فعلته طوال هذه السنوات، ربما كان ذلك أفضل ما يمكن أن يشعر به إنسان فى مثل عمرى».


.. هكذا قال على الشوباشى «1933-2001» قرب نهاية كتابه الممتع والكاشف «رابعة ثالث» رحلة بالقلم والعقل والمشاعر، داخل صورة فوتوغرافية قديمة «1949» للكاتب الراحل مع فصله الدراسى قرب نهاية المرحلة الثانوية، عثر على صورته القديمة وهو يحاول القيام بتلك العملية المستحيلة:
 ترتيب الأوراق والمكتبة:
 مستحيلة لأنها تعنى ترتيب الحياة، وكشف المعنى المختفى وراء الأشياء، والوجوه والوقائع والكلمات، تحركت الصورة بما فيها من وجوه أصدقاء وزملاء فصل وأساتذة وناظر مدرسة، وبواب، عصر كامل، وقيم ومعان بعثتها حية تلك الصورة القديمة بقلم هذا الكاتب صاحب العقل والروح والأسلوب النقى الذكى المستقيم، فى الصورة التى تحولت إلى كتاب يعيش 7 مدرسين، و22 تلميذاً يستعرض الكاتب من خلاله حياة مجتمعنا:
 ما كان وما هو كائن وما يتحول إليه، كيف كنا وكيف أصبحنا وإلى أين المسير!


صنع على الشوباشى فى هذا الكتاب الصغير «175 صفحة» وثيقة وخريطة اجتماعية لتحولات المجتمع المصرى فى نصف قرن غير عادى عاشته مصر، عانت فيه تقلبات سياسية واقتصادية عشوائية، مليئة بالألم والأوجاع وقليل من النور والفرح.


ناظر المدرسة «الحديدى بك» نموذج لموظف الحكومة الكبير المحترم الذى يعرف شرف مهنته ويؤديها فى مهابة وعقل واحترام «حضرة الناظر» يظهر بحساب ويبتسم بحساب، مركز هذا الكون الصغير وضابط إيقاعه، سلوكه وحياته الخاصة وملابسه، وحتى رائحته تكمل معنى الهيبة والاحترام الذى انقرض.

يستحضر الكاتب عن طريق 6 مدرسين عالماً مدرسياً ذاب فى الزحمة والعشوائية والإهمال: المقررات والمناهج، النظام والتدريس فى الفصل، العلاقة بين التلميذ والمعلم، الرجل الثانى فى المدرسة الأستاذ لويس حبيب قبطى مصرى يحمل على أكتافه فى رضا ومحبة: مسؤولية الأعباء الإدارية إلى جانب دوره كمعلم لغة إنجليزية من الطراز الأول، فخور بابنه «أحمس» ضابط الشرطة الذى أكمل دراسته فى أمريكا لأنه يتقن اللغة وعاد ليشغل منصب الرجل الثانى فى إدارة الجوازات «الكاتب يتحرك بسلاسة نادرة إلى الماضى ثم إلى المستقبل فيتحول الوجه الصغير فى الصورة المدرسية إلى رواية كاملة تسجل معنى، أو تكشف تحولاً فى قيمة اجتماعية».

فى صور المدرسين مسيحى آخر، يكمل رسم مشاكل الوجود المسيحى فى الأربعينيات وتلاها الأستاذ وصفى تادرس كان يحلم بالسير فى الطريق الذى فتحه الدكتور مشرفة، دخول مصر إلى النادى النووى، لكن الوساطة حولت بعثته الدراسية إلى ابن أستاذ جامعة، وتحول هو إلى مدرس ثانوى يطارد حلماً أصبح مستحيلاً، يتابع على الشوباشى حلم وصفى تادرس حتى يهاجر مع عائلته إلى كندا، هناك لا يجد صداقة ولا علاقة حميمة، ولا أحداً يفتح له قلبه، يختلف مع زوجته ويتركها مع الأولاد هناك ويعود ليقضى شيخوخته فى الوطن، الأستاذ إبراهيم خليل إبراهيم، مدرس اللغة العربية، الذى يضرب بسن المسطرة على أصابع المعاقب، له مأساة مرعبة فقد سقط أحد ولديه التوأم تحت عجلات الترام، رحل الطيب وبقى الشرير فى تحكمات القدر الباطش لكى يتوفى الأستاذ نفسه فى العام الذى يليه.


من وجوه 22 تلميذاً يرسم الشوباشى صورة مقربة أخرى للشأن السياسى، بقايا حزب الوفد التى تذوب فى أمواج الانتهازية السياسية التى تطلقها تنظيمات السلطة من أول هيئة التحرير حتى الاتحاد القومى والاشتراكى والتنظيم الطليعى، تنظيمات سياسية اسماً، ولكنها فى حقيقتها سلالم للمصالح والأغراض والمناصب.


يرصد حال التنظيمات الشيوعية التى تعيش منفصلة فى فلسفات وشعارات متعالية لكى تنتهى إلى اعتقالات أو تحولات إلى عمالة مع أجهزة الأمن، كما يرصد صورة طريفة لشيوعى تحول فى قرية فى الصعيد إلى شيخ مشعوذ له كرامات، وعلى صلة عميقة مع الشرطة.


الإخوان وجدت فى لوحة على الشوباشى مكاناً كبيراً، فى رصده لوجه تلاميذ فصله يدرس ويتابع أهم قسمين فى هذه الحركة: القسم السرى العنيف الذى انتهى إلى الكفاح فى أفغانستان، والقسم الانتهازى المترهل الذى اختفى فى آبار نفط الخليج، وعاد فى شكل سماسرة أموال، أو تجار سلاح، أو دعاة يبررون النوم مع البغايا بأن تجعلها تقول «زوجتك نفسى» ثم تطلقها بالثلاثة بعد أن تقضى وطرك كحيوان.


رواية على الشوباشى عمل تسجيلى له دلالة سياسية مهمة مكتوب بقدر كبير من الإنسانية والبراعة الفنية:
 له الرحمة والمغفرة فقد ترك المجتمع عارياً يبحث عن معنى أصيل ومفيد للعمل السياسى.

رابعة ثالث - رواية - على الشوباشى
- مختارات الكرمة - 2015.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة المصري اليوم بتاريخ 7 مارس 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق