السبت، 14 مارس 2015

فؤاد حداد والرؤساء الثلاثة

  


هذه مغامرة فكرية محسوبة ومفيدة، كتاب «جرىء ودقيق ورائد» قدم لنا سيد ضيف الله دراسة نقدية جديدة لصورة الشعب المصرى خلال فترة حساسة ودقيقة تمتد من أوائل القرن العشرين حتى الآن، رسم هذه الصورة من خلال رؤية وفكر أربع علامات مهمة: ناصر، والسادات، ومبارك أما الرابع فهو صوت وتراث: والد الشعراء، وإمام شعر العامية: فؤاد حداد.

«النقد الثقافى» الذى يقدم لنا الكتاب «نموذج» علمى جاد فى تقديمه وتعريفه وجدواه يلامس كل مشاكل الخطاب الفنى والسياسى، يفتح النقاش والبحث فى علاقة الفن بالسلطة والتحولات المتبادلة بينهما، وصورة الشعب كما يراها صاحب السلطة وكما يتصورها ويحلم بها الفنان، خلال «النقد الثقافى» يفتح الباحث نوافذ: على معنى السياسة وعلى دور الفن.

وكما تقول الناقدة الكبيرة فريال غزول فى تقديمها للكتاب: «إن اختيار الباحث لخطابات الرؤساء على تباينهم موفق، لأنه خطاب السلطة ومن موقع الرئاسة، بينما القصيدة خطاب الشاعر من موقع الناس والغلابة، الكتاب يتناول علاقة المثقف أو المبدع بالسلطة، هذا التناول الموازى بين نصين أحدهما أدبى شعرى والآخر تاريخى سياسى يساهم فى نموذج الدراسات الثقافية، متخذاً من مصر القرن العشرين مجالاً للبحث».

المتابع المنصف لحركة النقد عندنا يرى أنها قد وصلت إلى طريق مسدود، لا شىء جديد، ولا فكر مفتوح: النقد القديم يكرر نفسه ويستند إما إلى معارف جامدة بالنقد التراثى البلاغى، أو إلى مواقف أيديولوجية مغلقة، بينما تيارات ما يسمى بالنقد الحديث الصادر من المدارس الأوروبية الحديثة: البنيوية والتفكيكية، ومدارس فرانكفورت أو باريس: فقد فشل خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة فى أن يقدم لنا نموذجاً: من فكرنا ومن أعمالنا محل البحث والنقد، الخلاصة: إننا نحتاج إلى نقد ولا نجده، ما نقدمه فى الصحف والمجلات هو تقديم للأعمال أو تعريف بها أما النقد كجزء مهم وضرورى فى العملية الإبداعية فهو - حقاً - غائب ومفتقد!

ومن هذا الموقف كانت سعادتى بمغامرة د. سيد ضيف الله فى تقديم نموذج حى وجديد من «النقد الثقافى» الذى يحاول فى الغرب أن يسد هذا الفراغ الذى فشل النقد الحديث أن يقوم به: إكمال ودفع العملية الإبداعية إلى الأمام وفتح نوافذ لرؤيتها على حقيقتها وتفعيل جدواها والاستمتاع بها.

الاقتراب من عالم فؤاد حداد وإعادة قراءة شعره فى ضوء جديد، متعة وحدها، كأنك ترى البلد بعيون نقية وجديدة، كأنك ترى نفسك، وتعيد ترتيب روحك المتعبة الحائرة، نوع نادر من الشعور بالانتماء تبعثه فى النفس قصائد هذا الإمام، الغريب أنه يكاد أن يكون القائل الوحيد الذى يختفى فى دواوينه شعور الانقسام بين العامية والفصحى، لغته لغة الشعر، لغتى: أسكن إليها كأنها وطن.

«لا مفتاح لاستيعاب هذا الرجل والإحاطة به سوى المجاهدة، أن يحتويك نصه» هكذا قال أحد مريديه، وعلى الرغم من حضور الشاعر فى حياته وبعد رحيله فى الوجدان الشعبى فإن القليل واليسير من الدراسات تناولته بما يستحق من بحث، هو فى الحقيقة ظاهرة: مهمش نقدياً وإن كان مركزياً فى ساحة الشعر.

ما دفع الدكتور ضيف الله فى اعتقادى لاختيار فؤاد حداد لكى يخوض معه هذه المغامرة النقدية، هل إلى جانب الإعجاب الحقيقى بالشاعر والقرب من رؤيته ومواقفه الفكرية والمبدئية، هو تركيب شعر فؤاد حداد وحياته ومواقعه، وما مر به من تجارب وتحولات تحمل كل معانى مصر، يقول د. سيد ضيف الله:
«اخترنا فؤاد حداد نموذجاً للدراسة ليس باعتباره ممثلاً لشعر يعانى الإهمال النقدى، وإنما بوصفه شاعراً استطاع أن يعيد تشكيل هويته بإرادته الفردية فى مخالفة صريحة للتقاليد المجتمعية المتوارثة، فهو المسيحى الذى يختار الإسلام ديناً، وهو المسلم الذى يختار الإسلام من أجل الإنسان لأنه دين الأغلبية الفقيرة، وهو خريج المدارس الفرنسية، الذى يختار أن ينطق ويكتب بالعربية، بل ويكتب شعره بالعامية، وهو السابح فى ملكوت الفصحى والسباح فى بحور موسيقاها، وهو ابن الطبقة فوق المتوسطة الذى يختار الشيوعية منهجاً للتفكير وأفقاً للحياة، وهو الماركسى العاشق فى حضرته الذكية للنبى المصطفى، وأصحابه الأخيار: «إلى أى مدى وهو كل ذلك استطاع أن يخرج من أسر الأنماط، أو «السنن» الفنية وكيف تبدت فى تراثه الضخم «أكثر من 12 مجلداً للأعمال الكاملة عن هيئة الكتاب الآن»، هذه هى بعض الأسئلة التى يحاول الباحث أن يقترح لها إجابات، بل إنه هو والأستاذة غزول يقترحان على النقاد والعاملين فى حقل البحث النقدى الثقافى مشاريع أبحاث مهمة، لعل أكثرها إثارة هو الموضوع الذى تقترحه الأستاذة فريال غزول فهى تقول فى نهاية مقدمتها للكتاب: «سيسعدنى يوماً أن أطلع على دراسة تحدد تاريخ كلمة (الشعب) ومتى نبذ النقاد كلمة (الرعية) مستبدلين إياها بكلمة شعب»! الكتاب كما حاولت أن أقول غنى بالأفكار، ويفتح نوافذ للبحث الجاد الحر.

أمضى الشاعر أكثر من خمس سنوات معتقلاً فى عهد ناصر ومع ذلك فقد قال شعراً خالداً فى علاقة الزعيم بالشعب فى ذلك الزمن، أحب الرجل وحركة الشعب من حوله ومعه، فجرت نكسة 67 وجماهير 9، 10 التى رفضت التنحى والهزيمة، طاقة فنية ونضالية غير مسبوقة فى روحه وكلماته: قال ناصر: «نحن شعب طيب يعطى ثقته لكل مخادع أو مضلل»، وقال حداد: «مكتوب اسم الوطن فى كل طير مدبوح»، وقال: الشقا فى كل مكان/ الغلابة والمساكين/ فى المصانع والغيطان/ عن شمالك واليمين/ إحنا فى الدنيا مآسى/ فاقها سحر العناوين/ جينا الدنيا نقاسى/ الشقا ملازم رهين.
وعند رحيله كتب أعذب وأمر رثاء لناصر حيث يقول:
فين طلتك فى الدقايق تسبق المواعيد
والابتسامة اللى أحلى من السلام بالإيد
يا فجر يا حضن مصرى
يا أحن شهيد

مع انتهاء الحقبة الناصرية، والدخول فى المنحدر بأشكاله المختلفة من تبعية وسلام وانفتاح سداح مداح، دخل فؤاد حداد، فى حالة مرضية توقف فيها عن الكتابة، سماها ابنه، حسن حداد «الدوخة» وهو يرى «الشعب» يتحول فى الصورة الرسمية: إلى عبء على الحاكم، أو همج، أو عائلة افتراضية، «أراجوز» «متفرج» مثير للشفقة، مع أكتوبر والعبور، أفاق الشاعر لكى يكتب فيما يشبه الحمى، أكثر من ثلثى تراثه، يكتب بعد أيام العجب، والموت شعراً، يفيض من قلب الوطن كأنها المياه الجوفية تتدفق للخروج بلا حساب، شعر عبثى حر، ولكنه يصرخ مطالباً بالمعرفة وبالعدالة.. وأولاً بالحرية!

هل رحل فؤاد حداد وهو يرى فجر يناير وجماهير التحرير؟!
صورة الشعب بين الشاعر والرئيس - د. سيد ضيف الله - كتب خان - القاهرة 2015
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 14 مارس 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق