السبت، 21 مارس 2015

تطورات صناعة الكابوس


                   


يقول خليل صويلح، الروائى السورى فى روايته الخارقة
«جنة البرابرة» إن البلاغة وحدها لن تعوض التفاصيل الكاملة لفزع الضحايا بالدقة التى جرت بها الوقائع، هناك لحظة خاطفة عصية على الوصف، الراوى الذى نجا بالمصادفة: سيفقد حدة التركيز، ما عاشه تحت القصف المباغت، أو فى المعتقل، أو فى لحظة الفرار من الموت المحتم، أو لحظة الاختطاف أو الانتهاك، لا يمكن أن يتكرر مرة أخرى بالتفاصيل نفسها، ما هو مدون هنا هو حلاوة روح!


الكاتب فى هذه التدوينة الروائية الدامية:
 ليس مؤرخاً ولا محللاً سياسياً، كاتب فى العتمة يتحرك فى عتمة أمام كيبورد، يسجل شهادات شهود على جريمة متصاعدة، وهو تحت تهديد قناص عبثى يختبئ خلف نافذة مقابلة بينما الحوامات تصم الآذان، وبراميل البارود، والقنابل الجديدة تدوى، وعويل عربات الإسعاف يغطى على نواح النساء تحت الجدران المنهارة، وتسأل الطفلة التى تفتح عيونها تحت الأنقاض:
 أنا عايشة يا عموه؟!
ويقول الكهل الذى بترت الشظية ساقه:
هل يجب أن تتبع إجراءات الدفن للساق المبتورة!


هذا الجحيم هو تدوين لحال دمشق من 25/4/2012 إلى 9/12/2013، فى سوريا قامت ثورة فى الجنوب من أجل كرامة المواطن بتاريخ 15/3/2011، وإن كنت تذكر كان وقتها شىء أطلقوا عليه «الربيع العربى»، وأراد الشعب السورى أن يدرك هذا الفجر، لكنه وقع فى بحار حرب أهلية بلا ضفاف، لا شىء.. لا شىء تحقق سوى: دماء فى الشارع:
«انظر الشارع تغطيه الدماء».


أنا وحدى من أفلت لكى أروى لك ما حدث!
وهذه المرآة التى أنظر فيها:
هى وحدها من يؤرخ طبقات الجحيم فى تضاريس الوجه، وهذه الصفحات «166 صفحة» هى محاولة لتسجيل تاريخ الحريق الخارجى والداخلى الذى مازال مشتعلاً فى دمشق، وتقول الصحفية الإيطالية الشجاعة التى عاشت فى قلب الحريق
«لاورا تانغر لينى» وكتبت كتاب «سوريا تهرب»، تقول:
لماذا.. لماذا يتظاهر العالم بعدم رؤية ما يحدث هناك؟
يقول الروائى الشاعر فى نوع جديد من الرثاء:
«ليل خريفى غامض وملطخ بكآبة مزمنة، وأيلول مثقل بالعار، ومتاهات لا تقود إلا إلى الجحيم، فى كوميديا إلهية، من صنف فريد، ومحاكمات رومانية يقودها عميان أضاعوا كتابهم المقدس فى كهف معتم واكتفوا بفتاوى الجنون وشهوة القتل، حطام بشر ليس لديهم ما يفعلونه سوى أنهم يحتضرون فى رمال متحركة».


دمشق، الجميلة دمشق، اسمها مشتق من «المسك»، عنها قال «لامارتين»: دمشق واحدة من تلك المدن التى كتبتها يد الله على الأرض، دمشق: نزار قبانى، والياسمين، الفيحاء حلب، «الشهباء» جنة المشرق ومطلع نوره المشرق، دمشق كانت كما يقول ابن جبير: قد تحلت بأزاهير الرياحين، وتجلت فى حلل سندسية من البساتين، وحلت موضع الحسن بالمكان المكين، وتزينت فى منصتها أجمل تزيين».


وقال محمود درويش فى معشوقته دمشق بعد فلسطين، قبل أن يرحل بالقلب المفتوح:
فى دمشق تسير السماء وعلى الطرقات القديمة حافية.. حافية
فما حاجة الشعراء إلى الوحى والوزن والقافية.


ترسم شهادات الشهود التى سجلها خليل صويلح فى عمله الذى لا يخضع لتصنيف خريطة زرقاء لتداخل القبح والجنون مع الطائفية والطغيان فى ظل مخططات المصالح والخراب وإنكار الوجود الإنسانى تحت أستار من العماء الدينى الأسود الذى يكتسح البلاد والعباد ليؤكد أن «الظلم يؤذن بخراب العمران» فيصف كاتبنا حالة البلاد والعباد قائلاً:
«مهاجرون وأنصار يتبادلون الاتهامات فوق أشلاء بلاد ممددة فوق سرير عمره ثمانية آلاف عام، فى المنام أرى وحشاً أسطورياً، يتجول بين الخرائب، وقد ابتلع ألواح أيبلا، وفخاريات مارى، وأبجدية أوغاريت، وأديرة معلولا والجسر المعلق فى دير الزور، وتمثال عشتار فى المتحف الوطنى، وحش بأربع قوائم، وكتاب فتاوى، وأقبية تعذيب، وثأر قديم، وقرابين، وحش جائع على هيئة رجل كهف استيقظ على رائحة دم، وعطر عذراوات وثمار برية، وحش يشعل ناراً بأصابع يديه، يحرق أكداس القمح، والجسور، وعجلات السيارات، وأشجار المشمش والتفاح، وأعمدة الكهرباء، يلقى الجثث من فوق أسوار قلعة دمشق، فيهتز ضريح صلاح الدين الأيوبى، وتتداعى جدران الجامع الأموى.. ويتطاير سقف سوق الحميدية».


فى شهادات «جنة البرابرة» مزيد من وصف أعماق الجحيم الذى تعيشه دمشق الجميلة ويعيشه معها وفيها فنان أصبحت أسلاك الشعور والانفعال عنده عارية!


قدم لنا فى نصه هذا الجديد الذى فرغ منه عندما وصل عدد الليالى الرهيبة إلى رقم الألف.. وبعد الألف وواحد تنسحب «ألف ليلة وليلة» وتختفى شهرزاد ونبقى مع العدد العبثى اللانهائى الذى يشير إلى الجنون.


النار مشتعلة لاتزال، الشبيحة، والمندسون، وبضائع التهريب والقنابل الحديثة، وبراميل البارود، ليس مهماً عدد القتلى أو الجرحى أو المهاجرين، المهم هو الاستمرار فى صناعة وتطوير شكل الكابوس، كل الناس صالحون للحرب:إن لم يكن لكى يقاتلوا فهم صالحون لكى يموتوا.


أما كلمة الأمل: فكم تبدو.. غريبة وصدئة!
المقاتلون الجدد على الحواجز وفى الشوارع يسألون المواطنين:
كم عدد الركعات فى صلاة الفجر، فإن تردد أو أخطأ فهو كافر، الذبح شرعاً هو الجزاء، كل شىء بعد ذلك غنيمة، بشرط أن يصيح القاتل المسلم الجديد «الله أكبر»، لو كانت الضحية امرأة فهى من السبايا، ولو كانت عربة دفع رباعى فبها ونعمت، كاميرا التليفون المحمول تضع صوراً صالحة للبيع للصحف والقنوات الفضائية، الكاميرات تسجل الإعدام فقط ولا تسجل اقتسام الغنائم، هذه الكاميرات سلاح استراتيجى جديد، وتليفون الثريا أصلح مادة للتهريب: أسهل من السلاح، وأكسب من المخدرات.


الرسام يوسف عبدلكى اسم رمزى فى الفن السورى يقف جنب المخرج: ملص والشاعر الراحل الماغوط والنحات عاصم الباشا وأسماء عصية على الإحصاء فى هذا الجحيم، يسجل خليل صويلح فى مدونات شهوده هذه: إن عبدلكى لم يتخلّ عن الرسم باللون الأسود إلا لكى يستعمل اللون الأحمر، قال له
«عندما تقتحم اللوحة صور الشهداء فإن الأحمر يسيل فى كل مكان».


اعتقل عبدلكى عند حاجز أمنى بتاريخ 18/7/2013 عند مداخل مدينة طرطوس غاب أكثر من شهرين ونصف، وعندما عاد كان قد فقد أكثر من أربعة عشر كيلوجراماً من وزنه، ولكنه لم يتخل عن ابتسامته.
«قال: هذا تسونامى جارف لن يتوقف، استمر يعد الشاى الذى يقدمه لضيوفه قائلاً: زلزال أصاب أساس البناء، على الفن أن يستمر فى أداء دوره: الفن شاهد على الألم، راصد لمعاناة البشر، ويقيس منسوب الأمل فى قلوبهم».
                     
                     ■

تحرك خليل صويلح بحرية فى كتب التراث
«كما هى عادته فى روايته السابقة (وراق الحب) التى حصلت على جائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية 2009»
استخرج من الكتب القديمة ما يرسم رحلة الألم التى يعيشها العالم العربى، كما رسم صوراً حديثة «لمحاربى الفيس بوك» و«شعراء الظل» و«مثقفى المقاهى» من بقايا نضال السبعينيات لكى تكتمل البانوراما العبثية الصاخبة الدامية التى تحرر فيها الكاتب من كل قيود الشكل، لكى يقدم مادة فنية طازجة لها حرارة وسخونة الدم المراق.


- جنة البرابرة - رواية. خليل صويلح .
- دار العين للنشر .

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى المصرى اليوم بتاريخ 21 مارس 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق