الأربعاء، 15 أبريل 2015

دموع هدهد المنصورة

                       




عنوان هذه الرواية القصيرة النموذجية «لا تنسي الهدهد» للفنان المناضل «فؤاد حجازي» المولود في المنصورة 1938
 والذي يقيم فيها طوال عمره يوحي بأنك تدخل إلي عمل فني له أبعاد إنسانية وفكرية كبيرة، رغم بساطة التعبير، تلك البساطة التي يقال عنها «السهل الممتنع».


 الهدد يحمل رسالة من الحكيم. والحكيم ليس سليمان النبي، ولكنه فؤاد حجازي، الذي ارتبط طوال هذا العمر بمعني واحد للفن وللكتابة:
معني مسئولية الكلمة ودورها في خدمة الشعب وفي التعبير الذي يوقظ الوعي ويكشف مكامن الخطر وإمكانات الوعي في الحالة الاجتماعية.
الواقعية الاشتراكية التي ارتبطت بالفكر اليساري مازالت تجد عند فؤاد حجازي إنجازا فنيا فاتنا لا شعارات فيه ولا صوت عالي مزيف، ولكن اقتراب إنساني كاشف من الواقع يحمل رسالة دافعة إلي الحركة وإلي التغيير.
مصرية صميمة مجنونة في طين الأرض وعرق وعناء الإنسان بحثا عن حياة أفضل.


 أمضي فؤاد حجازي عمره كله ـ أطال الله في عمره ـ نموذجا للإخلاص للكتابة الإبداعية في خدمة التقدم والتغيير.
دخل السجون في كل العصور عندما تحدي الأخطاء وكشف زيف الادعاءات، كما حارب إسرائيل وأسر في «عتليته» ليكتب الأسري «يقيمون المتاريس» التي بقيت حتي الآن واحدة من أنصع صور المقاومة «مع شعر الفلسطينيون العظماء» عدم وضع ذلك الكاتب الكبير في المكان المشرف الذي يستحقه لا يكشف عن خلل في حياتنا الأدبية فقط ولكنه يكشف عن ضرورة مراجعتنا لقيمنا الفكرية والسياسية بعد ثورتي يناير ويوليو وتحدثنا المستمر عن ضرورة تغيير صورة الواقع.


لا أريد أن يأخذني الحديث عن «المعلم الأستاذ» بعيدا عن روايته الجديدة التي انتهي منها في سبتمبر 2010، بعد أن كان قد قدم 30 عملا فنيا ونقديا للأطفال والكبار ورعي حركة نشر وتنوير في عاصمة الدلتا الجميلة «سابقا». لا تنسي الهدد رواية قصيرة عن عائلة من الطبقة المتوسطة الصغيرة التي حلت بابنها «المدلل» الذي كان أملا وفرحة، كارثة «الإدمان» ومن خلال رصد معاناة الأب «المفجوع» والأم المحبطة، تكشف الرواية كل التحلل والفساد الذي أصاب المجتمع خلال سنوات الجذر التي شكلت عمر هذا الشاب الذي درس في الجامعة ولم يجد وظيفة، ودخل مع أسرته والمكان الذي يعيش فيه في دهاليز الإدمان الذي يوقع في الاستدانة ومطاردة الدائنين والهروب منهم والتعرض لمحاولات العلاج النفسي الاستغلالي الاستثماري الفاسد، بينما الأم كفت علي الصلاة والدعاء لابنها والاستعانة بمشايخ يجيدون الخداع والنصب علي الضعفاء.


الأب وحده ظل صامدا يحاول الحفاظ علي توازنه بمواصلة العمل في أبحاث تعود بربح قليل بعد أن دفع عن نفسه تهمة باطلة بسرقة مخطوط قديم «لوصف مصر»


استعمل الكاتب الفنان الاطار الضيق المحكم لكي يشغله بتفاصيل واقعية تحمل كل شحنات تعبير الرمز، أورد ذلك هذا المقتضي الطويل نموذجا لعمل فؤاد حجازي في واقع روايته: قالت: ـ متضايقة
ـ افتحي التليفزيون ـ قرفانة ـ تكلمي مع صديقتك ـ ليس عندي قابلية لرؤية أحد ـ ماذا أفعل لك ـ لا شيء.. أحس بزمته ـ يا ساتر يارب.. أخزي الشيطان كنت في الأيام الأخيرة اشجعها لتأكل وتشجعني لآكل فلا نتناول سوي لقيمات وخطر لي سنوات لم نرتح فيها يوما، نلبي طلباته، ونواري سوءاته ونداري اعتلال نفسه، ولا هم لنا إلا مراقبته والتنقيب وراءه. هل نحن في حاجة لاجازة نحزن فيها علي اخفاقنا في تحقيق رغبة ما، ونتصعب علي وهن أخذ يتفشي في جسدنا بسبب المرض وكبر السن. بين الدموع التي بلا يمكن التحكم فيها، والغناء القديم الذي يثير الشجن ويوقظ أحلاما ميتة، يقضي الوالد وقته يتنقل في قنوات التليفزيون التي تعرض نساء مثيرات أو رقص شرقي أو مباريات لكرة القدم تصرف ذهنه عن التحديق في الحالة المرعبة التي وصلت إليها عائلته وحياته وحالة «الولد» التي تتأرجح بين الانتحار والهرب والسجن: .. يلقي بي كلامه في جب قائم عليه جلاد ولا يرحم، أمد يدي لاتشعلق بالحافة، الجدران زلقه، تعجز أطرافي عن التثبت بها فأهوي إلي قاع لا قرار له.


الشوارع قذرة غارقة في المياه السوداء، ودورات المياه في المحطات بالايجار رغم قذارتها والرجل يطارد ابنه والأطباء الذين يسمحون بـ«كلمتين وبس» ويحولون المرضي إلي المصحات باهظة التكاليف أو يكتبون «أدوية مؤقتة»


«الهدهد» هو اسم لحبوب نصحت بها جارة طيبة تحب الولد وتشفق علي العائلة حبوب مهدئة، تصرف مرات من الصيدلية ويبيعها تجار الكيف بأضعاف الثمن.


هذا هو الحال ولا مخرج، الليل يعقب النهار والعمر قصير والولد سادر فيما هو فيه.
علي غير توقع حط عصفور علي حافة شرفة حجرة نومنا وتبعه آخرون وخطرت بأرجلها في رشاقة وتزق، بعد أن وضعنا لها حبات الأرز في البكور تألقت عين زوجتي بفرحة طفولية.. ثم طارت العصافير إلي شرفة غرفة الولد.


ثم تنتهي الرواية القصيرة الحزينة، بحبات من المطر تتساقط رغم الشمس البازغة والرجل الكبير يغني كما كان يغني مع الأطفال: عيب عليك يا شتاء الشمس طالعة.
 أغنية قديمة جميلة يزرف فيها رجل كريم دموع غالية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 15 إبرايل 2015 









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق