الأربعاء، 4 فبراير 2015

رحلات إلى منابع الشر

         
              





 استطاع يسرى فودة أن يكون نجما فى الكتابة بعد كتابه الأول كما كان نجما فى شاشات التليفزيون فى الخارج والداخل.
احتفظ بنفس الخصائص من الضمير الوطنى والجدية، وقواعد المهنة.
يعرف الرجل العمل الجاد ويعرف كيف يعطى«الصنعة أصولها» مع قدر كبير من الخيال والإبداع.


 فى (طريق الأذى دار الشروق ـ 2015) قدم يسرى فودة حصيلة عمله الجاد المغامر الذى قاده إلى أخطر مناطق العالم: بيت تنظيم القاعدة، بعد حوادث سبتمبر.. ومناطق ميلاد جيوش «داعش» بعد غزو الولايات المتحدة للعراق.
وخلق تلك الفوضى المدمرة فى منطقة كانت محتاجة إلى حكم عادل، وعدل وبناء وتنمية، رسم كتاب
«طريق الأذيى من معاقل القاعدة إلى حواضن «داعش» رحلة صحفى مصرى (مواليد طنطا ـ 1964) دارس فى الجامعة المصرية والجامعة الأمريكية، مؤسس فى تليفزيون الإذاعة البريطانية العربى ومن كوادر قناة الجزيرة فى عهدها الأول الذى بهرت فيه العالم العربي، بقدر الحرية والمهنية قبل أن تغرق الجزيرة والمنطقة كلها فى بحار الأغراض وتزييف النيات الدينية وخلط الأوراق المهنية مع عمل الأجهزة السرية ومخابرات كل من له غرض فى سلطة أو نفوذ.


رحلة الرجل الأولى فى أثناء عمله فى برنامج «سرى للغاية» الذى قدم للعالم العربى النموذج الأول للعمل الصحفى التليفزيونى الاستقصائي، وتابعه للشارع العربى فى وقت خطير من أوقات التحول واتخاذ القرار.


يروى الكتاب فى إحكام مهنى وأدبى وكأنك تقرأ رواية بوليسية غربية اتصالات ومراسلات الصحفى العامل فى لندن، وعن طريق »التليفون والفاكس الغامض يجد الرجل نفسه بعد مغامرات تحبس الأنفاس فى بيت مع اثنين.
 وبعد أن يؤدى معهما الصلاة يقول:
لكن خالد لم يكن ليأذن لى بالنوم قبل أن يفجر مفاجأة أخرى نزلت على نزول الصاعقة «أنا رئيس اللجنة العسكرية لتنظيم القاعدة ورمزى هو منسق عملية الثلاثاء المبارك، نعم نحن الذى فعلها».


تصل الاثارة البوليسية قمتها عندما يقتل رمزى فى كراتشى وتحوم الريب حول الصحفى الذى اقتحم حقل الألغام.
يكون الكاتب صاحب الرسالة قد شرح لنا خلال هذه الأجواء البوليسية كيف يفكر هؤلاء الناس وكيف يعيشون فى حلم الشهادة والجنة، وكيف يبرر له أحدهم ترك صلاة الجمعة لدواعى الأمن.


بل كيف تعيش أفكارهم كلها وكأنهم فى صحبة الرسول والصحابة وأننا نتحرك بنفس القواعد التى صنعت الغزوات.
 أحلام تقسيم الدنيا إلى أنصار ومهاجرين.
أحلام ورؤى تقود حركة التاريخ، ويجعلنا نعود إلى عام 622 ميلادية عام الهجرة ونرتب للغزوات.
 كيف صار هذا ممكنا إنسانيا بالنسبة لبشر على هذا القدر من الذكاء والقدرة على التنظيم.


هل هذا نوع من الإيمان حرمنا الله منه!!
يقول يسرى فودة كما قال شكرى سرحان فى فيلم رد قلبى »
من نعم الله علينا أن أحدنا لا يستطيع قراءة أفكار الآخر« ويقول ان أبوحمزة المصرى يسمى لندن التى تحميه
»دورة مياه مؤقتة« وأخيرا يسمح أعضا تنظيم القاعدة للصحفى الزائر: (بأن يدخن سيجارة) لأنه سوف يقلع عن التدخين ان شاء الله.


الجزء الثانى من الكتاب أكثر اثارة وأشد كشفا للمصيبة التى نشأت عن غزو العراق وتحطيم النظام العراقى البشع الذى كان يحكم أعرق أراضى المنطقة:
 بلد حمورابي، وجلجامش بالحديد والنار ،وتفاهات حزب البعث التى كانت أرحم من المصير المؤلم الذى تقود شياطين داعش المنطقة إليه.


 فى محاولة لمقابلة جيش الإسلام الجديد يتسلل الصحفى المغامر عن طريق المهربين عبر حدود دولتين سوريا والعراق ـ فى سيارات متهالكة متنكرا فى ملابس وأوراق مزورة عبر طرق لا وجود لها على أى خرائط يقول:
«انى لى فى تلك اللحظات أن اتخيل نفسى محتضنا فى منطقة من العراق صارت بعد أقل من عشر سنوات حاضنة طبيعية لمن صار تنظيم القاعدة بالنسبة لهم حمامة سلام.. داعش؟
الفواصل بين ما هو مسلم وما هو مسيحي، وبين ما هو سنى وما هو شيعي، وبين ما هو عربى وما هو كردى كانت جميعا إلى جانب فواصل أخرى حاضرة أثناء هذه المغامرة الفريدة فى كل خطوة من خطواتها.


 وأنى لى أن اتخيل الآن أن لحظة من التواطؤ الأمبريالى عقب الحرب العالمية الأولى قادت إلى قصم ظهور قبائل وعشائر وأفخاذ على جانبى حدود تعسفية رسمت على موائد العشاءات الفاخرة فى لندن وباريس، ستقود بعد نحو قرن من الزمان إلى غصة متراكمة تتيح نفسها ببساطة إلى وافد فى صورة «داعش» ووسط أجواء سياسية وإقليمية معقدة؟


 الكتاب إلى جانب كل ما فيه من اثارة، فانه دعوة حقة إلى صحافة جديدة تؤدى دورها فى كشف الغمة العربية ولا يجب أن ننسى أن تحقيقات الأسلحة الفاسدة مهدت لـ52، وأن تحقيقات واتر جيت أسقطت نيكسون.
أن العمل الصحفى المهنى الذى يجمع بين الجرأة والخيال والصدق يستطيع أن يحقق الكثير خاصة إذا جرى على قلم مثقف أديب مثل قلم فودة، لقد توقفت طويلا أمام وصفه لمبنى المخابرات السورية، ونوعية الضباط ودرجاته.
كما نقل فى براعة أدبية مشاعر وداع رفاق الرحلة وامتنان المهربين عندما وقف معهم ورفض التخلى عنهم أمام المخابرات.


تعامل يسرى فودة بفهم وإحساس راق فى مسألة الشهرة والنجومية والفساد.
 إذا كانت الشاشة الصغيرة قد خسرته مؤقتا فإنه يملك قلما قويا صادقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى الأهرام بتاريخ 4 فبراير 2015 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق