السبت، 7 فبراير 2015

حديث إلى «جنينة وشباك»

   



«جنينة وشباك» هى القرية النوبية التى جاء منها إلى القاهرة الكاتب يحيى مختار (مواليد 1936) لكى يدخل فى نسيج المجتمع، ثم الأدب المصرى، كواحد من فرسان السرد القصصى والروائى.. ليحيى مختار ثلاث روايات: و«جد كاب» هى الرابعة: جبال الكحل، مرافئ الروح، تبدد، ثم له مجموعتان قصصيتان: كويلا، عروس النيل (جائزة الدولة التشجيعية).. 

من مجرد العناوين نلاحظ أن الكاتب يحكى عن النوبة فى لغة عربية شاعرة رققها التصوف والزهد، وأحكم صياغتها التربية فى مجالات الواقعية الاشتراكية، والفكر الماركسى وتنظيمات اليسار المصرى.

من هذه العناصر صنع الكاتب يحيى مختار سبيكته اللغوية والفكرية. كتب بها هذا العقد المتواصل من الخطاب الشاعرى الاجتماعى القلق لأرض النوبة، وللمجتمع المصرى الذى ظل يحكم بالعدل والمساواة، وظل يحاول كشف الفساد والتخلص منه، من خلال الإصرار على الارتباط بالعمل السياسى والأدب الملتزم بالقضية الاجتماعية.. استطاع يحيى أن يكون واحداً من أدباء الستينيات الذين لم تحرفهم إغراءات التجريب والحداثة الغربية، ولم يقع فى براثن الشللية أو البحث عن الشهرة أو العلاقات مع المؤسسات والأجهزة.

أعرف يحيى مختار منذ المدرسة الابتدائية فى المعادى، أواخر الأربعينيات- أوائل الخمسينيات، ومنذ ذلك الحين تجمعنا صداقة نادرة.. تبعد، وتقترب، ولكنها دائما موجودة. رحلة عمر وبحث مشترك عن طريق للأدب ولصلاح المجتمع.

اقتربنا معاً من الأديب الراهب محمد درويش الذى رحل دون أن يكمل كلمته، كما تعلمنا معا من شيخ النقاد شكرى عياد، تعلمنا منه أنه مهما اختلف الاتجاه أو المدرسة الفنية، فإن الكلمة فى مجتمعنا هذا المتعطش للنور والعلم والعدل مسؤولية، وأن الأدب مسؤولية ثقيلة لا يحسد من يتقدم لحملها، وأنه ليس طريقا للشهرة أو للثراء. ولكن شكرى عياد أيضا رحل قبل أن يشهد ميلاد الثورة التى أدخلتنا إلى دنيا جديدة، مشاكلها أكبر وأكثر حدة، ودور الكاتب والفنان فيها يحتاج إلى مراجعة وبصيرة جديدة.

يحيى مختار: قابض على الجمر. يحمل مسؤولية كلمته، ولا يبيع ويشترى فى الأسواق. فقد رفض هو فى الكتابة وفى الحياة مسألة الأدب النوبى، التى باع بها، واشترى البعض فى ضوء مخططات التدخل والتقسيم وإثارة النعرات الطائفية والعرقية والقبائلية. لا ينكر خصوصية بلاد وأهل النوبة، ولا ينكر عمق وضخامة المشاكل، ولكنه يتعامل معها كجزء من النسيج الاجتماعى المصرى الذى يحتاج بشدة إلى مراجعة وإعادة ترتيب.

«جد كاب»، روايته الأخيرة، تحرر فيها الكاتب من قيود الشكل وتصنيفات النوع، إنه يقف بين السيرة الذاتية والرواية، ويفكر فى عالم فوكنر، المخترع، الذى أقامه فى رواياته الثلاث لكى يناقش كل مشاكل أمريكا، وهى تحت الإنشاء. 

هكذا يفعل يحيى مختار وهو يسرد حياة الطفل الموهوب «جد كاب» الذى جاء إلى القاهرة، واستطاع أن يتعلم اللغة العربية واللغة العامية، واستطاع أن يكافح الفقر الشديد بالإصرار على العمل فى مهن مختلفة، مع الإصرار على مواصلة التعليم وإتقان لغة وأكثر، ومواجهة النظر المتعالى للقادمين من الجنوب، ورفض المهن التى كانت تعتبر المصير الحتمى لكل قادم من النوبة.

الشيخ حسن شفا عندما يتحدث عن أصل «جد كاب» يقول إنه من سلالة الحكام «فى مملكة كوش القديمة».. إنها السلالة الرفيعة التى تسللت، وبقيت حية لتنجو من تقلبات الزمن والأحداث، ولتظل دليلاً حياً على تلك الحقبة البعيدة والعريقة.. عندما يتحدث عن ذلك نستطيع أن نقف على سجايا والدك سليمان أحمد كاب.

عندما يتحدث بطل الرواية طوال الجزءين الأول والثانى إلى النوبة، وبالتحديد إلى «جنينة وشباك» أو إلى نجمع «أرناه» فإنه لا يتحدث إلى أطلال كما يفعل الشاعر العربى القديم، ولكنه يحاول إعادة الحياة إلى كل شىء، إن الوعد الحى بإعادة النوبة على شاطئ البحيرة، خاصة بعد رفع معبدى أبوسنبل، والظروف غير الإنسانية التى انتقل إليها مجموعة من أرق وأمهر الناس فى مبان خرسانية قبيحة فى كوم أمبو: كل هذا يبعث النوبة حية فى عمل يحيى مختار. جد كاب هناك مشاكل فى حاجة إلى أن تخرج إلى النور، وأن تعالج بصراحة ومسؤولية، لقد تحمل هؤلاء الناس تضحيات تبدأ من 1902- 1912- 1933 إلى أن جاء الهم الأكبر مصاحباً للموقف الوطنى الذى وقفوه مع بناء السد العالى، فكان التهجير الشامل فى 1964.

تسرد الرواية بشكل مباشر أحيانا وغير مباشر أحيانا أخرى عمق الإهمال والفساد الذى تعاملت به السلطات مع التضحية الضخمة التى قدمها الأهالى تحت وعود بتعويضات وبعودة أكيدة ومشاركة فى أكبر مشروع وطنى لثورة أطلقت أحلاما عظمى. كان الألم كبيراً، وكان الظلم فادحاً، والفساد عميماً. يقول «جد كاب»: من دار «آل شفا» صعد قاصداً المقابر فى خطوات متعثرة بفعل وجيب قلبه الذى يضرب صدره كأنه سيلتقى والده وجده والشيخ «حسن شفا»، تنوشه قناعة غامضة يكاد يحمل يقينا أنه سيراهم، وأنهم فى انتظاره، يتطلعون إلى حضوره.. يعلم أنها الزيارة الأخيرة.. للوداع الأبدى، ارتعب عندما أيقن أن مصيرهم قاع البحيرة.

دون إقلاق للسرد الروائى تصل فى الجزء الثانى إلى صياغة صريحة للمطالب الآن، التى لا يجب تجاهلها. التعويضات والعودة. اللغة النوبية، ولماذا نتركها تندثر، رغم وجود وشائج قوية مع الحرف اليونانى والقبطى. العمارة المسيحية فى آثار النوبة، وكشف الغطاء عنها، الأمر الذى سوف يلقى ضوءاً حقيقياً على حركة الدين المسيحى (الشرقى) فى أفريقيا.

الموسيقى والسلم الخماسى الذى يمكن أن يكشف عن كنوز فنية فى الغناء والرقص والأدب الشعبى.

 منذ رواية «الشمندورة»، أول رواية نوبية نشرت على صفحات مجلة صباح الخير برسوم حسن فؤاد: بعد محمد خليل قاسم الذى رحل فى 1968، يقول يحيى مختار فى «جد كاب» بوضوح فنى واجتماعى إن النوبة مشكلة حية، ومن الضرورى أن تواجه كل مشاكلها بروح حرة جديدة.

اعتذار:
فى كلمة الأسبوع الماضى عن كتاب «لحظة» لصور أطفال المخيمات سقط اسم المصور الفنان اللبنانى رمزى حيدر، الذى أشرف على التجربة، وقدم الكتاب. أعتذر.
«جد كاب»- رواية من النوبة- يحيى مختار- دار الكتب خان- القاهرة 2015.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 7 فبراير 2015 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق