السبت، 1 مارس 2014

أيام الفجر الأخضر

      

عاد الشاعر والكاتب «ياسر عبداللطيف» إلى المعادى موطنه الثانى بعد «عابدين» لكى يحضر صدور كتابة السادس«فى الإقامة والترحال»، عاد من سيبيريا الغرب فى كندا، حيث يقيم مع عائلته الصغيرة منذ سنوات.

وياسر كاتب وإنسان قريب إلى القلب «مواليد 1969» يخوض تجربة صعبة فى الكتابة وفى الحياة محافظاً على مجموعة من القيم الإنسانية والفنية تجعله صوتاً مميزاً، فى كتابة «حركة التسعينيات» فى قصيدة النثر والرواية والقصة الجديدة.

كتابه هذا الذى يضج بالحضور والشوق للمكان والزمان والمعنى، متحرراً من الشكل المقيد، ملتزماً باتباع الصوت الداخلى«الذى يتوازى مع طنين نبض القلب» الكاشف عن صفاء استثنائى فى مراقبة الأماكن، والناس وتحولات الضوء والصوت، فى ماضيه الشخصى وفى تحولات «البلد» والشوارع، والأحياء فى الواقع الراهن أو فى الذاكرة الحية.. هو بحث عن اعتدال ذهنى فى العالم الذى يتحرك فى فوضى قاسية تفقده المذاق والمعنى هنا وهناك.

«هو المتوحد الجالس على دكة أمام بحيرة عادية، بلا أى جمال خاص، تتوسط حياً سكنياً للطبقة المتوسطة فى مدينة بغرب كندا الأوسط، الحى ملىء بالمهاجرين الطموحين، من الهند والفلبين وفيتنام، مهنيين تركوا بلادهم النامية والنائمة بحثاً عن حياة الرفاه والتأمين الاجتماعى الممتد».
يتكون الكتاب من ثلاثين قطعة ملونة بين قصة ومقال وخط شعرى ملون يربط الحاضر بالماضى.
 يعيد الرجل طفلاً، يشترى العيش الفينو السخن من فرن بجوار بيت جده فى عابدين، ويستعيد صوت أم كلثوم، مسافراً عبر الزمان والمكان «بفكر فيك وأنا ناسى».

 البيت الذى أمضى فيه سنوات طفولته الأولى احترق فى الانفلات الأمنى الأخير.
«أقول لنفسى متعزياً:
 مات فى هذه الأحداث شباب فى عمر الزهور، وأنت تتحسر وتكتئب من أجل بيت قديم لم يكن مسكوناً حتى!
 أعرف ولكن الشعور المتخلف عن هذا الفقد له أيضاً طعم ورائحة الحريق، إضافة للملف الذى لم يعد يفتح لأن نسخته الأصلية قد ضاعت إلى الأبد».

وفى قطعة جميلة أخرى بعنوان «رأيت الكتابات على الحائط» يستعيد ياسر عبداللطيف صور ملاعب الصبا المبكر فى صحراء مجاورة للمعادى حيث تنضج شخصيات الصبية بالصداقة والتمرد والبحث عن خصوصية الذات:
«فرع للنيل مندثر ربما مر من هنا.. وحائط فى قلب تلك الصحراء المتقطعة يحمل شكاوى جيل ضائع.. والآن وبعد خمسة وعشرين عاماً وثورة محبطة.

 وانفلات أمنى وعمرانى اجتاح القطر بأكمله، تقلصت تلك الصحراء إلى بضعة أمتار تحوى تفتيش الآثار وكشك الشرطة العسكرية. وتكاثرت التجمعات السكنية.. التى التهمت غابة الزيتون تماماً.
 كما تم نهب مخزن الآثار الموجود بالمحمية من قبل لصوص مجهولين وتفرق فعلياً أبناء الجيل الضائع على أصقاع الأرض المختلفة ولايزال النداء يتردد (لقد رأيت الكتابات على الحائط)»!

«كأن خرير ماء يتسرب فى فسقية قديمة. فى زمن لم يعشه» يرسم الكاتب الشاعر أصداء أحداث موجعة مثل حرب إبادة الخنازير، وأحداث تمرد الأمن المركزى، وفى ثلاث قصص بديعة بعنوان «من قصص الحمقى» 1، 2، 3 يسجل التحلل البطىء للطبقة المتوسطة فى مقدرة فنية ساخرة نابضة بالحياة والرصد للتحول الإنسانى والمكانى الذى تطحن عجلاته كل معنى وكل قيمة.
الزيارة المسجلة لكولومبيا فى أمريكا اللاتينية لحضور مؤتمر شعرى تضيف مع قطع أخرى من أدب الرحلة «صورة لقلق وبحث لا يهدآن عن معنى مفتقد للوجود، وقبض مستتر على الريح.
فى رصد الشاعر لجذوره الشعرية مع والده الذى كان شاعراً لم يعلن عن نفسه، ولكنه وضع ابنه فى قلب التذوق الشعرى والاختلاف الفكرى والجمالى الذى أحاط بفترة الستينيات التى صاحبت ميلاد ياسر، وتصاعدت علاقته الحميمة الدائمة مع كل تجارب الشعر فى «قطعة أبى والشعر الحديث» يرصد انعكاس تجارب صلاح عبدالصبور وأمل دنقل فى تداخل مع شوقى ونزار، ونجيب سرور، وصلاح جاهين، ويضع كل ذلك الفوران الفنى فى إطار الفترة الناصرية، واقتصاد القطاع العام، يتركه والده ويرحل عام 1999، يتركه يتيماً ينحت فى الصخر ويغالب الشعر فى زمن مر، ولكن بعد أن تتكون لدى الشاعر الصغير حساسية صائبة لا تخلط الشعر بالسياسة وتدرك المعنى الحقيقى للتجديد فى الفن، الأمر الذى جعله يكتشف مع مجموعة الأصدقاء القريبة التى اجتمعت على درجات سلم مكتبة الجامعة مؤسسى حركة التسعينيات وهى الحركة الوحيدة التى لها معنى بعد حركة الستينيات، ويكتشفون الثورة المنتحلة لشعراء السبعينيات فى مصر «بنزعتها الفردية المنقوصة وحداثتها الريفية» يتعرفون على أصولها فى مجلة شعر البيروثيه «أنسى الحاج. وأدونيس».

فى الوقت الذى كان فيه صلاح جاهين يكتب أغانى تماثيل رخام على الترعة، كان يكتب لنفسه «الخضر فات بحصانه من جنبى لابس صديرى بالقصب دايب.. طب الحصان فطسان وطلع الفجر.. الفجر كان أخضر.. والأرض كانت ريش نعام بمبى.. والقلعة سودا والبيوت بيضا.. وفى كل بيت خزنة.. والخزنة مليانة شفف نساوين» تلك هى السنوات التى رسم فيها عبدالهادى الجزار «المجنون الأخضر» وكتب فيها الطيب صالح: عرس الزين «صدفة دالة» تجعله يتعرف فى هذا الوقت على نوع من «الجحود الجمالى» عند جماعات الإخوان المسلمين حيث ينقل له صديق رأى والده المرتبط بالجماعة حيث يقول:
 ما هذا إلا حشاش.. ملحد!
يقدم لنا ياسر عبداللطيف فى كتابه هذا
«مزيجاً فاتناً بين الكلاسيكية والحداثة» دون أدنى درجة من زيف أو افتعال.

متى يعود المرتحل وينتظم «شريط الصوت المصاحب للحياة»، أحسبه لن يفعل.
نقطة نظام:
رحل منذ أيام الشاعر اللبنانى العلم «أنسى الحاج» تاركاً العالم العربى كله مشتعلا بالعنف والإرهاب والحماقة، ظل فى كتبه الأخيرة «خواتيم» يصرخ منادياً على سلام غاب عن بيته لبنان، كما غاب عن كل بلاد العرب.. حتى مصر التى أحبها الشاعر من كل قلبه وهذه قصيدة نثر مهداة إلى نجمة نجوم مصر فاتن حمامة:
«عينا فاتن حمامة أجمل من عينى الجوكوندا».

ليس فى وجه الممثل المصرية غموض ابتسامة الإيطالية، لكن فيها إشراق الطفولة الخالدة، الغموض فى شفافية براءتها.
تظن أن ليس فى وجهها غير العذوبة والأنوثة، ولكن لا تلبث أن تكتشف السخرية، سخرية لطيفة أخوية، وسخرية متمردة كهبة نسمة حرير، وسخرية إذا غضبت كشجرة ورد تزايد على الريح التى تراقصها.

كن إلى جوار السيد المسيح ذلك أفضل جداً: أيها الشاعر الكبير.

فى الإقامة والترحال- قصص وحكايات- ياسر عبداللطيف
- الكتب خان للنشر والتوزيع 2014

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 1 مارس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق