الأحد، 9 مارس 2014

اللباد.. حضور دائم

                                              





  ولد محمد محيى الدين اللباد 25 مارس 1940، ورحل عنا
4 سبتمبر 2010، شهور أربعة قبل ثورة يناير، كان عاصفة وحده، غير أشياء كثيرة حوله، أحب وأغضب ترك علامات واضحة فى الرسم والكتابة وفى صناعة الكتاب وترك فى حياة الأصدقاء والرفاق مكاناً فارغاً لا يملؤه أحد.

حاضر معنا فى «رجاله»، أولاده، وأصدقائه، وعشرات التلاميذ الذين تعلموا على يده فن الرسم وصناعة الكتاب، وفكر الفن وصناعة الحياة.

ونوع فريد من الوطنية والانتماء للشعب بالروح والعمل وليس بالتجارة والكلام.
عليه رحمة الله قامة كبيرة وحده، وحلم جميل بعالم مختلف تحكمه قيم أخرى غير القيم التى تفرضها اعتبارات السوق. أحسبه سيكون موجوداً فى المساء لكى نعدل ونبدل فى هذا الكلام وغيره لكى نصل إلى قدر أكبر من الاتساق والمصداقية والجمال.

ترك اللباد الكبير تراثاً ضخماً متنوعاً من الإنجازات والأفكار والأحلام والعلامات التى وضعها على الورق أو فى نفوس التلاميذ والقراء والمتابعين عمله الذى تنوع وامتد فى مصر والعالم العربى خاصة فى لبنان التى شهدت تجارب مهمة له فى الصحافة وصناعة الكتاب.

منذ أسابيع، صدر له كتاب كان قد أعده قبل الرحيل.
كتاب «حواديت الخطاطين» كتاب للفتيان والفتيات نضجت فى هذا الكتاب بشكل لافت قدرات اللباد فى تقديم كتاب فاتن ومهم ومفيد فى موضعه.

يحكى فى الكتاب الذى لا تتجاوز صفحاته السبعين صفحة حكاية للغة العربية وتطورات الكتابة ويلمس خصوصية الحضارة العربية والإسلامية، ويأتى على ذكر السلطنة العثمانية وزوالها على يد أتاتورك، ويبرز خصوصية شخصية مصر وحضورها مع المغرب والشام والعراق والأندلس فى صناعة نور حضارى خاص لن تستطيع أن تطفئه كل محاولات الظلام والجهل والغباء الذى استحضر رداء قميئاً قبيحاً للفكر الدينى الإسلامى محاولاً أن يطفئ أنوار الجمال والبهجة والسماحة التى أطلقتها فنون العرب وفارس والإسلام لتضىء جنبات العالم لقرون.

كتاب حواديت الخطاطين ليس كتاباً للفتية والفتيات، وليس كتاباً فى تاريخ الخط والكتابة العربية ولكنه دفاع فنان فاهم واعٍ ومقتدر عن الحضارة العربية، ومحاولة لدفع التهم الغبية التى يحاول الغرب الآن إلصاقها بنا فى أفكار وتنكر لنوع نادر من الفكر والجمال.
 الآن أوان أن يحاول كل قادر أن يجعله يشرق من جديد. قبل أن تفرقنا جميعاً بحار القبح والغباء والدم.


يحكى اللباد حكاية اللغة والخط العربى فى صفحات ملونة جميلة متقابلة يتخذ لكل صفحتين عنواناً أوله «أنا»: «أنا الخط الأول» «أنا النقطة» «أنا الفقير المذنب»«أنا السلطان الخطاط»
«أنا الحاكم بأمرى» ثم «أنا النهضة» أكسبت هذه الصيغة الفنية الكتاب كله نوعاً خاصاً من الحميمية والقرب من القارئ، مع تنظيم حشد المعلومات والحقائق والأفكار المطروحة فى بساطة ودون تعقيد أو إخلال بالدقة والموضوعية.

الكتاب تحفة فنية تضاف إلى الهدايا الكثيرة التى أضافها اللباد إلى فنون الرسم والصحافة وصناعة الكتاب.

ولكننى - وقد عشت قريباً من اللباد أغلب سنوات عمله
- أعتقد أنه إلى جانب مئات الإنجازات التى حققها فى شكل كتب أو مجلات أو جرائد، فإن القيم الفنية التى تركها فيما يمكن أن تطلق عليها «مدرسة» هى الأهم والأبقى، وهى التى أطالب بها المختصين فى مجالات عمله، الذين عملوا معه أو تتلمذوا عليه «وأولهم الفنان أحمد اللباد» الذى شرب من والده الصناعة والفن، وأهم من ذلك قيم الفكر والفن والدور الذى يمكن أن يوديه للوطن الآن.

أقول هذا وأنا واثق بأن اتصال التجربة واستمرار الطريق هما من أهم وصاياه، والطريق الوحيد لكى يكتسب ما أنجزه معنى كاملاً متجدداً حياً.

 إن التحول الذى أحدثه «اللباد» «ليس وحده، ولكن مع جيل نادر من الفنانين» الذين أدركوا المهمة والمسؤولية - هو فى مخاطبة الأطفال والفتيات، وفى تحويل شكل الكتاب والمجلة والجريدة منذ منتصف القرن الماضى وحتى الآن: على الجيل الذى تربى مع اللباد أن يكمل خصوصية التجربة: بأن يكتمل لنا فى هذه الميادين، صوت خاص، وصورة حقيقية لها علاقة بذوقنا وفكرنا وحضارتنا التى نفجع فى كل لحظة، ونحن نرى أكوام القبح والقمامة تلقى فوق أيامنا وساعاتنا وليالينا.


فى ألبوم «نظر» وهو كتاب اللباد الضخم الذى يترك فيه وصية وبصره وبصيرته فى الفن والحياة والسياسة، والذى أخذ عنوانه من بيت بشارة الخورى إن عشقنا فعذرنا أن فى وجهنا نظراً، يقول فى مقال خصصه لأستاذه حسين بيكار «1913/2002» وهو الذى وضع اللبنات الأولى فى صناعة الكتاب الحديث، وفى مخاطبة الطفل والفتى العربى بلغة غير اللغة المستمدة من المجلات والأفكار العربية.

أسمح لنفسى بأن أقتطف من هذا المقال البديع مقاطع أدلل بها على ما أريد أن أقول.

 المقال بعنوان «ذات أربعاء شتوى» وهو أيضاً نموذج لأسلوب الفنان فى الكتابة: «فى الأسبوع الأخير من عام 1951، ظهر إعلان متقشف على الصفحة الأولى من جريدة الأهرام ينبئ بقرب ظهور مجلة «سندباد مجلة الأولاد فى كل البلاد» كان الإعلان- فى الأساس- رسماً جميلاً لبيكار أحالنا بيسر إلى رسوم جميلة مبهجة مشابهة رأيناها من قبل فى كتب قليلة. انتظرت قلقاً متوتراً متهيجاً حتى صباح الأربعاء 2 يناير 1952، الذى تحدد موعداً لصدور العدد الأول، يخامرنى حدس قوى بوقوع حدث استثنائى فى ذلك اليوم وقد كان.

فى ذلك الصباح الشتوى، وحوالى سكنان «حى النعام» كان طين الحدائق والأرض الرملية والشجر المتنوع والزهور والطيور والسحالى والفراشات والضفادع والخيول وقطار المرج«قبل كهربته» - كان كل هذا يبعث رائحة نفاذة، وموجات من الحيوية الصاخبة، والمشاعر الفياضة تزحم الفضاء.

 وسط هذا المجال المدهش انفتحت أمامى- للمرة الأولى- صفحات مجلة «سندباد» التى كان حسين بيكار يرسم نصف عدد صفحاتها، لكنه كان نجمها وفارسها وشاعرها، وعبر تلك الصفحات أرسل النجم الفارس الشاعر إلى رأسى خبطة قوية رائعة.

منذ تلقيت رسالة بيكار فى ذلك الصباح لم أعد نفس الشخص الذى كنته، ولم تعد الحياة كما كانت من قبل.
بكل هذا الجمال يعبر اللباد عن أهمية المجلة بالنسبة للطفل، وعن تأثيرها فى تكوين شخصيته وصناعة حياته ثم تحمله الحياة لكى يحمل هو الآخر نفس مجال أستاذه، وتراه بعد صفحات يعاود التعبير الأدبى قائلاً:
 «عندما حاولت مثلك أن أجلس إلى نفس الطاولة التى رسمت عليها يا شيخى الرائق، ورسمت كتباً ومجلات للأطفال لم أرسم مثل رسومك النقية المثالية الجميلة التى دوختنا، بل رسمت رسوماً تحمل قلقاً وهماً وحيرة، لم تحملها رسومك: قطط غاضبة تدخن السجائر بشراهة، وثعابين وسط زهور لا تخلو من فجاجة، وشخوص حزينة تنتظر بريداً لا يأتى أبداً، وأخرى تعانى من فشل متكرر وشوق للقبول لا يتحقق».

تختلف الصورة، ولكن الصدق واحد وأمانة التعبير عن الزمن رسالة.
لا يجوز أن تأتى على ذكر محيى اللباد أن تحاول رصد الإنجاز الفنى الهائل والمتنوع الذى حققه هذا الرجل وكأنه أمضى كل ساعات عمره يعمل رسم الكاريكاتير فى المجلات المصرية، خاصة روزاليوسف، وصباح الخير، تأسيس وأصدار أغلب مطبوعات دار الفتى العربى، أول دار متخصصة فى كتب الأطفال، والإشراف على إصدار كتب دار شرقيات التى حققت تحولاً نوعياً فى شكل الكتاب العربى تجربة كتاب فى جريدة كتاب «البيت»، واحد من أهم وأجمل كتب القضية الفلسطينية، كتب التراث العربى، «إصدار نادر تم فى الثمانينيات فى باريس» كتاب كشكول الرسام، وألبوم نظر، و100 سؤال عن القضية الفلسطينية.

فى السنوات الأخيرة جمع اللباد عدداً من الرسامين والفنانين فى «محاورة» فنية «ورشة للعمل والنقاش» كان من نتائجها أن صار له تلاميذ وحواريون على امتداد العالم العربى.
فنان حق دعوته للإتقان والصدق دعوته للعمل والأمانة.

حواديت الخطاطين. محيى الدين اللباد.
 دار الشروق القاهرة 2013

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 9 مارس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق