السبت، 22 مارس 2014

الوطن والنخبة.. والاستبداد

          

           

«الصرخة» إصدار جديد صدر عن المدرسة الصحفية العريقة «روزاليوسف» ضمن محاولة للبحث فى تراث هذه الدار الملىء بالصعود والهبوط، بالمعارك ومحاولات التجديد والتفكير.

 عمل الزميل الأستاذ رشاد كامل رئيس تحرير صباح الخير الأسبق على التنقيب فى «تراث روزاليوسف» لكى يخرج عددين ضمن مشروع أكبر لإصدار كل الأعداد التى صادرتها الحكومات المتعاقبة منذ صدور العدد الأول فى أكتوبر 1925 وحتى الآن.

وقد وجد المشروع المثير والطموح دعماً من المهندس عبدالصادق الشوربجى رئيس مجلس الإدارة، رغم الصعوبات المادية الكثيرة التى تعانى منها الدار نتيجة للتقلبات والمشاكل الداخلية والخارجية. لقد وجدت من واجبى كواحد من الذين عملوا فى هذه المؤسسة، وتعرفوا على سر العائلة الذى يسرى فى كل من يعايش مناخها الخاص والحميم، الذى تختلط فيه قيم العائلة بقيم الوطنية، قيم الفن والفكر والخلق والإبداع. لعل هذا يبرر فرحى بهذه الفكرة الجديدة وتمنياتى لها بالنجاح ومحاولة البحث فيما تحتويه- الآن- من أفكار ودلالات.

فى مقدمة الكتاب الأول تقول السيدة فاطمة اليوسف:
«كنت أواجه هذا التحدى بإصرار، كلما عطلت الوزارة المجلة أصدرت مجلة أخرى باسم جديد» فى السنتين الثالثة والرابعة من عمر المجلة كان المفروض أن يصدر 104 أعداد، لكن لم يصدر إلا 42 عدداً فقط وصودر 62 «لم يكن الأمر مصادرات فقط بل تحقيقات وقضايا ووقوف أمام المحاكم، ورحلات يومية إلى مبنى النيابة، إلى جانب الخسائر المادية الباهظة، حيث تتم المصادرة بعد أن يكون قد تم طبع كمية العدد بالكامل».

أما الأستاذ محمد التابعى، الذى كان كاتب الجريدة الأول فيقرر أن يشن هجوماً شديداً على «المندوب السامى البريطانى» فى الباب الذى كان يكتبه بعنوان: «خطابات مفتوحة إلى العظماء والصعاليك» يقول بأسلوب التابعى السهل الساخر البسيط:
«نقل إلىّ زميل اجتمع بكم فى حفل الشاى التى أقامها(معالى إسماعيل صدقى باشا) أنكم تلطفتم وتنازلتم بالسؤال عن (روزاليوسف) وعما إذا كانت لا تزال على قيد الحياة؟! وتقصدون طبعاً الجريدة لا صاحبة الجريدة، ويسرنى يا سيدى كما يسركم طبعاً أن تعلموا أن روزاليوسف لا تزال على قيد الحياة صحيفة متمتعة بثقة الناس وإعجاب الجمهور، وأن الضربة التى أصابتها من يد أظنكم تعرفونها لم تصب منها سوى ظهرها فدفعتها إلى الأمام».

الأعداد مليئة بالمعارك الكبيرة والصغيرة التى يديرها الكتاب والرسام الوحيد «صاروخان» الذى كان يرسم ما يشرحه له التابعى أو غيره من المنغمسين فى السياسة، من أول «الست» روزا إلى إبراهيم خليل «وزير المالية الخالد للدار حتى عهد قريب» إلى الإخوة أمين- مصطفى وعلى- إلى محمد حماد، وسعيد عبده.

متابعة هذه الأعداد تشعرك بأن الكتابة والرسم موقف واحد، صوت واحد يقف معترضاً على المظلة الداكنة التى كان يرزح تحتها البلد: الاستعمار، والنخبة المتعالية المنفصلة عن الناس، ثم الاستبداد الصريح الذى يريد أن يصب البلد فى قالب غريب: أجنبى، عسكرى متفرنج وفاسد. وروزاليوسف- الموقف- كانت تحاول فضح هذا وكشفه دون أن تقع مباشرة فى المد الكاسح لحزب الوفد الذى كان- خاصة بعد غياب زعامة سعد- يصنع كل حين توازنات وحسابات جديدة.

يقول محمد التابعى:
وسمعنا، وما أكثر ما سمعنا، فإذا هى إشاعات وذر للرماد فى العيون فلازيد ولا عبيد من الوزراء تحرك فى صدره أى عامل غضب لدستور الأمة ولا هم يحزنون أما رئيس محكمة الاستئناف فلا يمكن أن يستقيل احتجاجاً ومش عارف إيه، لأن رئيس الوزارة صرح أنه أخذ رأيه فى التعديلات التى أدخلها على الدستور وقانون الانتخاب.

يدور التاريخ فى بلدنا فى دوائر لا تتغير. الناس لا تخترق الواقع، ولكنها تطل خارجه ثم تعود.. بنتقدم أعداد الصرخة نوعاً من التاريخ اليومى لم أجده فى الكتب الأكاديمية أو الدراسات المرتبة. بعد أن رتب صاحب الدولة جداول الانتخابات قال محمد على حماد فى مقال بعنوان «الرئيس لايهمه حزب ولا حزبان»: إن الجداول مكونة من: غفير.. وسجين ومرحوم رحل منذ سنين!

ويقول فى مقال آخر بعنوان «برنامج سينما الشعب الجديد»! فى البلد دار للسينما معروفة باسم سينما الشعب، تعلن عن نفسها بعبارات فى منتهى الإغراق فى الدجل والتهويش مثل: الشبح الذى أكل مدينة فى فم واحد، والبطل الذى يحمل عمارة من عشرة أدوار.. وهكذا، وبرنامج حزب الشعب الجديد الذى يتولى رئاسته صاحب الدولة صدقى باشا يسير على هذا القياس ويجرى وفق هذا المنطق.

الباب الذى كان يحرره أسبوعياً الأستاذ التابعى بعنوان
«الجو السياسى» كان نموذجاً لذلك الفكر الساخر الفاضح المثير، وكان عادة ما يضع فى وسطه موالاً حارقاً غير ممهور لعله من تأليفه هو أو من تأليف سعيد عبده.
 وفى نشيد صارخ أطلق عليه «النشيد القومى الجديد» يقول:
هيا بنا! هيا بنا
نبكى ونشكى غلبنا
فى الوقت ده أحسن لنا
نزرع وناكل قطننا
يا دهوتى، يا حسرتى
يا محنتى يا نكبتى
يا وحستى يا وكستى
الجوع مقطع معدتى
خيبة رجا أد الجمل
يا اهل النظر فين الأمل
الأزمة نار! القطن بار
العقل طار! الدم فار
النحس دار! عيشة مرار
يا اهل الديار قولوا الفرار
من الأفكار الأساسية التى جعلتنى هذه الأعداد (42 عدداً) أفكر فيها هى كيف يتحول فرد من أفراد النخبة المميزة إلى مستبد غاشم.

 محمد محمود باشا، رئيس الوزراء ووزير الداخلية، صاحب القبضة الحديدية، الذى أصبح اسمه الآن يذكرنا بواحدة من أبشع حوادث الثورة- كان هو أول من فكر فى فكرة «الوفد» الذى صنع التوكيلات لسعد لكى يتفاوض مع الإنجليز وكان واحدا من 3 تم نفيهم إلى مالطة:
 سعد زغلول، إسماعيل صدقى، ومحمد محمود، كما كان هو أول من فكر فى التفاوض المباشر مع أمريكا بعد إعلانها مبادئ نلسون. كما أنه خلال الوزارات الأربعة التى شكلها كان من عين عزيز المصرى باشا فى الجيش المصرى، وكان- هو وعزيز باشا- المسؤول عن تحديث تركيب الجيش ودعم ميزانيته، وعلى الرغم من أنه ألغى رخصة أكثر من 100 صحيفة وقمع الحريات إلا أنه أدخل قوانين جديدة لتنظيم عمل العمال.

 وهو تنطبق عليه فكرة النخبة حيث إنه ينتمى إلى عائلة من كبار أهل الصعيد ويقال إن الإنجليز عرضوا على والده عرش مصر.
ما أقصد قوله أنه هو وإسماعيل صدقى باشا الذى يحمله التاريخ لقب عدو الشعب وهادم الدستور- كانا من «النخب» التى أرادت أن تقدم للبلد وللشعب أحسن ما فكرت فيه ولكنها وقعت فيما يقع فيه الإنسان عندما ينفصل عن نبض الناس، إنه يقع فى تصورات خاطئة أو أنانية، أو فساد مباشر، أو فى كل هذه المصائب مجتمعة!
لا يتقدم الوطن إلا بحركة الناس معاً، حركة تحت قيادة تضع يدها على نبض الناس، ولا ترى إلا حاجاتهم ومستقبلهم.

المتعة التى تقدمها هذه الأعداد من تراث رزواليوسف المصادرة هى متعة الإحساس بمطالب الناس ونبضهم فى الكلمات المكتوبة والخطوط المرسومة.

الصرخة: مجلة ضد الاستبداد. من تراث روزاليوسف.
 إعداد وتقديم رشاد كامل- 2014.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 مارس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق