السبت، 15 مارس 2014

مازال النهر حياً

        
                   

أسعدنى زمانى بأن عرفت الشاعر الفنان الكبير الأستاذ السكندرى: أحمد مرسى.
 وأمضيت جل الأسبوع الماضى سابحاً فى بحار شعره التى صدرت فى كتاب ضخم تحت اسم «الأعمال الشعرية الكاملة».. وهو عنوان خادع، فالشاعر الفنان مازال يبدع فناً تشكيلياً وشعراً.

 هو من مواليد «كوبرى التاريخ» بالإسكندرية، يعيش فى نيويورك حيث تعمل السيدة زوجته أمانى فهمى مترجمة قديرة فى الأمم المتحدة «أصدرت لنا ترجمة أصلية لأغلب دساتير العالم- فى حوالى عشرة أجزاء صدر عن مركز الترجمة- مصر».

 العائلة تزور مصر والإسكندرية كل ربيع، حيث تعيش للأستاذ ابنة هنا وابنة هناك. أقصد من هذا الاستطراد أن الشيخ الفنان «مواليد 1930» يعيش فى غربة ولكنه- أبداً- لم يفارق!
 لا تلمح فيه أو فى عمله أو فى عائلته ملمحاً واحداً من ملامح المهاجرين أو المغتربين، رغم أنه يعيش فى قلب نيويورك منذ عام 1974.

 سكندرى أصيل، ينتمى إلى«مدرسة الإسكندرية فى الأربعينيات» مدرسة قدمت فناً خالصاً، لم يعرف الاحتراف أو الارتزاق بالفخامة، مدرسة تضم أعلاما فى أغلب فروع الفن والمعرفة أمثال:
 إدوار الخراط، مصطفى صفوان، سامى على، أحمد زغلول الرسام، محمود مرسى الممثل، توفيق صالح المخرج. ويقول الأستاذ الخراط فى مقال طويل عن أحمد مرسى، موضوع قرب نهاية المجلد الضخم: «أنقل عنه بتصرف»:
أحمد مرسى شاعر الإسكندرية، تغنى بها بمعنى ما كما يفعل كل أبنائها، ليس فى التغنى تطريب، أو نوستالجيا رومانسية متسايلة الحنين!
فى تغنى أحمد مرسى بالإسكندرية «سيادة للغة لا ينالها الوهن وأناقة تقنية لا تسقط تحت غائلة التكلف أو التصنع فى شعره الحب مضمر ومعلن، فى الشعر المأساة والموت.

 الشعر حر ولكن فيه استعانة مكرسة بالوزن والقافية بطرق أصيلة جديدة ومفاجئة.
يقول الأستاذ الخراط فى مقال طويل:
 هذا الشاعر المصور التشكيلى الناقد المترجم من أوائل رواد الشعر الحر.
عندما كتب الشاعر صلاح عبدالصبور قصيدة الحزن التى صدرت فى «ديوان الناس فى بلادى» كان أحمد مرسى قد كسر إلى حد ما قوقعة السريالية المصرية السكندرية. لم يكن الشعر الأوروبى المترجم يستهويه، ولكنه تعلم الإنجليزية والفرنسية فى كتب الشعر القديمة ومن ريح قسطنطين كفافى مع دراسات مكثفة فى الشعر العربى القديم، وفى بحور الفراهيدى الذى كتب عنه فيما بعد قصيدة بعنوان«جراحة للخليل بن أحمد الفراهيدى» يقول فى آخرها: (الإسكندرية حوالى 1945)

عفواً أيها الشيخ العبقرى
قرننا العشرون يمضى إلى نهايته
لكن موسيقاك الصقيلة لا تحمل
أصوات النزعات البوليفونية الثملى
أو حوار العناكب
ولهذا آثرت توسيع شريان
ولم أعمل مشرطى لاغتيالك. «يناير 1999»
قبل قصيدة الحزن لصلاح كان أحمد مرسى يقول
«ونسير فى الطرق الكبيرة فوق أرصفة تئن من الزحام/ ونرى المدينة والفنادق والحوانيت المليئة باللعب/ والتكسيات الصفر تجرى فى الشوارع لاهثة/ ونرى ترام الرمل ذو الطابقين وندخل السينما/...

يقول أحد النقاد إن أحمد مرسى هو فى كثير من أطوار حياته كان الجندى المجهول الذى شارك مباشرة فى حسم كثير من المعارك الفكرية التى قطف أوسمتها سواه. توقف عن كتابة الشعر سنوات طوالا فى أعقاب مواقف يذكرها على استحياء خجلاً واستنكاراً لمواقف الآخرين، فقد قيل إنه متشائم، وإنه يأخذ مواقف ضد الحرية، وهو الذى أسهم إسهاماً أساسياً فى إصدار أيقونة المجلات الثقافية «جاليرى 68» وسافر فى وقت مبكر إلى العراق حيث أسهم فى الحركة الثقافية والتشكيلية: وله أغلى الصداقات مع البياتى، وأرداش.

 أهدى واحداً من أجمل دواوينه للفنان العراقى «أرداش» ديوان جاليرى يعرض صوراً مسروقة وإهداء لذكرى الصديق الفنان أرداش «1941/2000».
أما الشاعر العراقى الكبير عبدالوهاب البياتى فاسمحوا لى أن أتابع كيف نعى الشاعر أحمد مرسى صديقه البياتى: عندما باغتنى البياتى/ بعنوان مثواه الذى اختاره ملاذاً من المنفى/ فأضحى الملاذ منفى الأبد. فيما محوت عنوانه ثم اسمه.. ثم رقم هاتفه/ فى فزع من ذاكرة/ لم تعد تخزن اسماً ليس له عنوان/ لك جنات الصمت بين فراديس القوافى الضالة/ يا بياتى.
لاحظ وأنت تسبح مثلى فى صفحات السفر الضخم
«عراقة اللغة وحداثة السياق» ولاحظ «كيف تراجعت كثيراً تلك النبرة الفلسفية الثقيلة التى كانت تخيم على قصائد الماضى دون أن تتراجع المسحة التأملية فى معضلات الوجود».
أنا إذن أعب من السماء
سأم الوجود
بحر بلا موج
بلا قاع بلا أفق
بلا سفن وأسماك
وماء
طال انتظارى
فى موان لا تبارحها البواخر.
عن بغداد يقول: «حروب بغداد- العراق»
كتبت هذه القصائد/ تسجيلاً ليوميات ضرير/ رأى من ثقب جدران الليل/ مرضعة النهرين مكتوفة/ يضاجعها قسرا وعدوانا/ طائر معدنى/ همجى/ مبرمج.
وفى المستشفيات الجرحى/ يئنون يأساً تحت أكوام الجثث المهملة../ تحت رؤوس مشجوجة/ وعيون تتدلى منها شهادات الموت.
هل يطال الجحيم دجلة/ هل ينوون تغييره/ ليأتوا بنهر آخر/ يروى ماؤه أرض إسرائيل.
لم يعد لى فى بغداد صاحب حى/ فهل أنت أيها النهر/ حى.
أما عن 11 سبتمبر فهو يقول:
يتساءلون عن مغزى حلول الليل/ فى وضح النهار
سحابة سوداء غطت سطح مرآتى/ فلم أعد أرى سوى سحابة/ تجثم فى غرفة نومى/ فى خزانة الملابس الخريفية/ فى المرسم، فى فضاء لوحاتى/ تمددت على الفراش ثم أصبحت/ سجادة من الغيوم والدخان أصبحت/ ستارة مسدلة على نوافذ العيون.. سبتمبر القاسى مضى/ مخلفاً وراءه سحابة/ تمطر أجساداً ودم.
لا تكتمل التجربة الشعرية دون أن تعايش تشكيل الفنان أحمد مرسى الخاص، مهماً قيل عن إعجابه ببيكاسو، وتقديره لبراك، وتعمقه فى دراسة الألوان الفرعونية وخاصة اللون الأزرق فإن التشكيل عنده- كما الشعر- تجربة إنسانية وحضارية خاصة تحمل مسؤولية جمالية هى فى الحقيقة رسالة سكندرية:مدينة البحر والتاريخ مدينة الشعر الأساطير.
 أعمال أحمد مرسى الشعرية والتشكيلية تقاوم دون ضوضاء الردة الحضارية التى نعيشها متنكرة بأردية دينية أو غيرها، لتسلبنا إنسانيتنا وحريتنا.
نقطة نظام:
يوم الأحد 9 مارس، على سلم دار القضاء العالى ارتكب بعض الغوغاء عملاً بذيئاً فى حق الحرية ومستقبل العمل السياسى فى مصر.

 لم تكن البذاءة أو الشتائم موجهة إلى السياسى علاء عبدالفتاح أو الكاتبة الكبيرة أهداف سويف التى وقفت مع زملائه احتجاجاً على احتجاز علاء لأكثر من مائة يوم.
 كانت الإساءة موجهة إلى ثورة 25 يناير العظيمة وإلى الحرية التى دافعت عنها 30 يونيو.
هل المسؤول قانون التظاهر؟
 أم وزارة الداخلية؟
 أم أننا جميعاً مسؤولون لمجرد الصمت!

أحمد مرسى- الأعمال الشعرية الكاملة
- المجلس الأعلى للثقافة- القاهرة 2012

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 15 مارس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق