السبت، 29 مارس 2014

الشباك الموارب

                          
  
أين تسكن؟
 كيف تذهب إلى هناك؟
 ماذا ترى عندما تفتح نافذة سكنك؟!
 هل عندك- أصلاً- نافذة؟
 أم أنك وصلت إلى سكن بلا باب أو نافذة؟!

 «مجموعة قصصية» للفنان الكاتب «منتصر القفاش» مكونة من 21 قصة قصيرة: تستطيع أن تثير فى روح القارئ وعقله حيرة إنسانية ممتعة.. مقلقة هى علاقة الإنسان بالمكان الذى يعيش فيه. العلاقة المتبادلة بين الواقع والحلم، بين الطفولة والشيخوخة، بين الفضاء الرحب وخنقة الجدران والنوافذ المغلقة«مقلق هو التفكير فى العلاقة بين الجسد والظل، قلق- قد يكون ممتعاً هو التفكير فى إنسانية النوافذ والطوابق، فى شخصية الشقق، والمناور، والمخازن، والمغارات» منعش ومثير هو استحضار الطفولة وإسقاط العقل على حيل الخيال البكر، والذكريات الأولى التى لا تمحى من العقل المندهش من رؤية الأشياء للمرة الأولى.

 «فى مستوى النظر» مجموعة قصصية جميلة ومحيرة لكاتب لا يكتب بل «يكتشف حياته» وواقعه فى وعى ساذج أو سذاجة واعية غير مرتبط لا بمدرسة أو اتجاه، لذلك فهو يخلق مع كل قصة مفاجأة طازجة تنسيك فكرة التصنيف الخانق بين الحداثة وعكسها، وتذكرنى أنا شخصياً- إلى حد كبير- بنوع متعة المفاجأة والاكتشاف التى كانت تقودنى إليها جمل الراحل «أصلان» فى قصصه القصيرة أو مقالاته.

 لا تستطيع أن تصنف هذا النوع من الكتابة أو ترجعه إلى تأثر بالمدارس الغربية أو بموجات غرائبية أمريكا اللاتينية، ولكنك دون شك تستطيع أن تتنسم رائحة تراث حكى ألف ليلة، والجمال الصافى للعربية الناضجة البسيطة.

لا أعتقد أننى قد بالغت فى مدح هذه المجموعة التى جعلتنى أتذكر فى استمتاع تجاربى مع بعض روايات القفاش التى حاولت الكتابة عنها منذ سنوات «رواية مسألة وقت- روايات الهلال 2008»: تذكرت نوعية البناء الفنى، والخامة الأصيلة التى يتعامل بها الكاتب، دون ادعاء أو تزييف «أمراض منتشرة بكثرة فى الإبداع الجديد!».

 تضعك كتابة منتصر القفاش فى قلب أزمة الواقع الراهن، دون خطب أو ادعاءات سياسية أو كما يقال إنه يضع يده على مكان الداء دون فضيحة أو ألم.
 أعتقد أن هذا أنبل دور ممكن أن يؤديه فن الكتابة.
يقدم الكاتب مجموعته بهذه الفقرة الدالة على نوع المغامرة التى أنت مقدم عليها فيقول:
يحكى أن الدور الأرضى حينما يكتمل بناؤه يتطلع إلى أعلى متخيلا بقية الأدوار التى ستبنى.

كان يعرف أن صاحب البيت لن يسأله عن رأيه، وربما لهذا السبب كان يبالغ فى تخيلاته، ولا يعجب بأى شىء يبنى فوقه.
ومع مرور الأيام لا ينظر إلى أعلى.
 فلا يوجد شىء سوى أدوار تتشابه فى الشكل والمساحة، وتذكره دائماً بأنها صارت عكس كل ما تخيل.

ويكتفى بقربه من الشارع، وبأنه فى مستوى نظر عابرين، تنطلق تخيلاتهم حينما يثيرهم شىء من خلال الشباك الموارب.
إن كان لى الحق فإننى أقترح على القارئ الكريم أن يعيد قراءة هذا المقتطف ففيه كل روح المجموعة.. وفيه أيضاً لب الحيل الفنية التى سوف يعمل عليها الكاتب خلال قصص المجموعة. الطابق الأرضى هو الذى يتكلم: هو صاحب شخصية، وخيال. صاحب تاريخ ومستقبل. فيه وحوله يسكن الناس وتدور الأحداث.

 بالنسبة لبعض شخصيات المجموعة هو: حلم، وأمنية وبالنسبة للبعض الآخر هو مكان مستحيل للسكن. كما أن الشارع موجود بكل ما تعنيه كلمة «شارع» من معان ودلالات.
 ثم انظر أخيراً إلى استعمال كلمة «الشباك الموارب»!
هذه بعض عناصر جمال المجموعة بالإضافة إلى الوجود الإنسانى غير المحدود لشخصيات القصص التى تتحرك بحرية بلا ملامح ولا بطاقة شخصية، ولكنها حقيقية أكثر من أى شكل أو تحديد: الشخصيات، أطفال، أو عم محمود، أو أبى، أو عم مسعود أو أنا وياسر أو «كلب الواد على» أو صاحب البيت أو زوجته أو ابنته.

وقائع القصص محيرة مثل الشخصيات، إنها بين الوقائع الحقيقية والذكريات، أو خيالات هذيان الحمى، أو أحلام وخيالات الطفولة.
 كل هذه الشخصيات والوقائع تتداخل بنفس درجة الوجود الحقيقى الذى يخترق ضوضاء الواقع لكى يسكن فى قلب الخيال والذاكرة: كأنها تجاربك أنت، أو جزء من تاريخك أو مخاوفك.
«افرضى ده ماحصلش لكن ممكن يحصل» فى قصة «ضرورة الحديد»، يصل التوتر المكتوم فى حياة الأسرة حول ضرورة تركيب حديد على الشباك إلى القول «طرق السرقة صار لها ألف شكل وشكل، وهى تشعر بأن كل ما يحدث فى الحياة صار شكلاً من أشكال السرقة».

كان «كريم» الطفل بطل كثير من قصص المجموعة، مريضاً محموماً ورأى صاحب البيت الذى توفى منذ سنوات، يطل عليه من الشباك، موضع الخلاف، وبإشارات ضوئية بعيدة نعيش كل توتر الأسرة وواقع حياتها المخنوق فى الشقة الضيقة:
 أنهم الوالد الأم.. إنها منذ أن ثبت الجيران «اللى قدامهم الحديد» وهى تغلق الشباك دائماً بقوة كأنها تريد «كسره». ظلت تصغى إليه والمخدة فى يدها. وبدلاً من أن تضعها تحت رأس كريم، طوحت بها بقوة نحو الشباك وخرجت بعد أن أطفأت النور. دون تفاصيل يستطيع منتصر القفاش أن يضعنا فى قلب توتر، ضيق واختناق حياة عائلة عصرية فى شارع جانبى فى مدينة مزدحمة.

الناس تفتقد الفضاء الجميل الذى كانت تتمتع به.
كنا نسكن فى المنيا قبل القاهرة وأول ماسكنا هناك كنا نستطيع أن نرى الأهرامات.
 أما والدة حسن فقد احتل الكوبرى الجديد كل الفضاء الذى كانت تطل عليه النافذة وأصبحت معرضة ليل نهار لعيون المارة وراكبى السيارات والميكروباصات وحتى الكناسين!
لاأحد يساعدها على تحمل ما جرى لفضائها الجميل، ولم يعد مملكناً أن تراقب فى راحة تغير أشكال السحب فى السماء: السحب التى كان حسن يرى فى تشكيلاتها كل أفراد العائلة.
فى آخر قصص المجموعة «قصة المشى» يحقق الكاتب مستوى نادراً فى القصة المصرية.

 إن البطل الذى يواصل الاصطدام بالناس أثناء السير دون قصد: يحدثنا عن ذاكرة الجسد، وعن الرسائل القصيرة التى صارت تصل إليه الرسائل التى تشبه الرسائل الموجودة على الأنسرماشين.
لن يشكو أحد من التصادم المتبادل «مادام اصطدام كل واحد بالآخر سيصير طبيعة المشى فى هذا البلد».

فى مستوى النظر. قصص منتصر القفاش.
 دار التنوير

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 29 مارس 2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق