السبت، 1 يونيو 2013

وجوه سكندرية.. ضد ما يحدث



         

لا توجد مسافة بين هذا الشاعر الأديب «علاء خالد» ومدينته الإسكندرية :
 الحلم والواقع.
 يكتب فى «وجوه سكندرية» عبر 38 مقالاً سيرة مدينة، ومسيرة فنان يقاوم القبح، والجهل، والفجاجة.


علاء خالد «مواليد 1960» بدأ حياته الأدبية يكتب شعراً منثوراً «5 دواوين» فى الشعر الحديث له مذاق خاص، يرتاد آفاقاً فكرية بحثاً عن لؤلؤ فكرى وإيقاعات جمالية جديدة دون أن يقع فى تقليد أو افتعال.


بدأ مغامرة ثقافية جديدة برحلة فى الروح والمكان إلى «واحة سيوة» لكى يقدم كتاباً مميزاً هو :
«خطوط الضعف دار شرقيات 1995»، وتصاعدت المغامرة لكى يتولى مع زوجته الفنانة المصورة الفوتوغرافية المتميزة : سلوى رشاد مشروعاً من أهم المشروعات الثقافية : إصدار مجلة «أمكنة»، صدر منها حتى الآن عشرة أعداد، وهى تمثل تسجيلاً فنياً وإنسانياً فريداً لكثير من الأماكن والمواقع الحية النابضة المليئة بالأفكار والدلالات «الصحارى، الحدود، الأديرة والكنائس، مصر القديمة، المنيل، الجامعة»، وجمعت المجلة مجموعة متميزة من شباب الكتاب، والحوارات الفنية، إلى جانب فيض من الصور الفوتوغرافية النادرة فى طباعة وإخراج متميز غريب على المستوى الذى شاع فى السنوات الأخيرة «يبقى مشروع أمكنة مشروعاً ثقافياً وفنياً خاصاً، لم يلق دعماً أو عوناً من أحد وأصبح يحتل مكاناً فريداً وسط المجلات الثقافية على امتداد العالم العربى».


خلال هذه السنوات لم يغادر علاء خالد الإسكندرية، وظل مرتبطاً وفاعلاً فى الحركة الثقافية والفنية فيها طوال سنوات الركود والتشوه والانفتاح، إلى أن أصدر روايته الطويلة الرائعة «ألم خفيف ينتقل بهدوء كريشة طائر دار الشروق 2009» لكى تحتل هى الأخرى مكاناً متميزاً فى الأدب المصرى الحديث :
 شكل كلاسيكى تقليدى محكم، مع موضوع ومضمون عصرى نابض بالجمال والصدق، يسجل تاريخ عائلة سكندرية من الطبقة المتوسطة، ممزوجة بروح شعرية ملحمية خاصة.


أسجل بوضوح محبتى وإعجابى برحلة علاء خالد الإبداعية وأرى أن مرحلة مهمة من تطوره قد وصلت إلى قمتها فى كتاب «وجوه سكندرية»، فعلى الرغم من أنه عمل مباشر إلا أنه يشف عن نضج فنى وامتلاك حقيقى لوسائل التعبير استعداداً للانطلاق إلى مرحلة جديدة.


«يوم الجمعة كان يصحبنى أبى للقاء أصدقائه (فى مقهى ومطعم اللوفر) الذى يقع على البحر مباشرة بعد جامع إبراهيم..
 يجلس أبى وأصدقاؤه لساعات فى لعب الطاولة، وأنا فى الجوار جالس على كرسى أتابع بائع الفريسكا، وبائعى الفستق بصناديقهم الخشبية دقيقة الصنع، وبائعى المانجو بموازينهم النحاسية ذات السلاسل الطويلة..


 وأحياناً يتسلل إلىّ الملل فأذهب إلى الباب الدوار، وأتسلل بخفة إلى هذه الدوامة بين داخل المقهى وخارجه، أدور بين المقهى والشارع مستمتعاً بصندوق الدنيا هذا».

بهذه الطريقة يبعث علاء خالد الحياة فى الأماكن التى يصنعها، ينفخ فيها النبض والحركة ورائحة الزمن، وعندما يرصد التحول والانحدار الذى حدث فى منطقة محطة الرمل و«وسط البلد» يقول :
«اختلف (وسط البلد) الآن، أصبح مكاناً شعبياً بالمعنى الاستهلاكى وليس المعيشى، بعد أن تغيرت المحال ونشاطاتها، ورحل الأجانب وزحف إليها الباعة الجائلون بفرشاتهم وببضائعهم الرخيصة ليحتلوا الأرصفة، لينتقموا من تهميشهم فى السكن والرزق. يأتون من أحياء السيالة والأنفوشى والعطارين ومحطة مصر وغيط العنب، يدمجون هذه الأحياء فى وسط البلد، فيتوسع المكان والمعنى وتسيح الحدود بين الأحياء، ينالون من تاريخ (الرمز) الذى لم يدرجهم تحت حمايته فى أى حقبة تاريخية».


يرصد الكتاب شخصيات اندثرت ويحفظها حية فى الذاكرة، شخصيات من زمن الإسكندرية الذى يقاوم الانطفاء :
 عايدة بائعة الورد، الدرويش المتجول الذى ترجع أصوله إلى ضابط مقاتل، الكاتب السريح الذى يسوّد الصفحات فى المقهى، المغنى الهندى الذى يردد آخر أغانى الأفلام الهندية وهو يذرع الشوارع على دراجته القديمة، جمال الدولى :
 مشجع نادى الاتحاد الرياضى الذى سوّد جدران الأحياء بشعارات غامضة فى ابتكار جرافيتى مبكر ليسأل :
 متر الوطن بكام؟
 كل هذه الشخصيات ظهرت واختفت مع تغير الأماكن والشوارع والمقاهى والبارات. توقف الكتاب عند تمثال «السلسلة»، تمثال أوروبا القريب من المكتبة، والذى تعرض مؤخراً إلى محاولة اعتداء من الضباع الجدد الذين يحاولون افتراس ما بقى من الجسد.


يرثى الكتاب فندق البوريفاج، وفندق سان استيفانو القديم، الذى حل محله بناء شاهق أحمق، يتحدى الكورنيش والبحر، ويجثم على أجمل بقاع بحر إسكندرية معلناً قيماً جديدة هى قيم المال، والاستهلاك، والفجاجة تنمو الإسكندرية كما يرصدها الكتاب، بلا قلب، ولا إنسانية، ولا جمال، ينهش أحشاءها ضباع جدد.

(وجوه سكندرية- علاء خالد- فوتوغرافيا : سلوى رشاد- دار الشروق 2012 القاهرة).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 1 يونيو 2013



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق