السبت، 25 مايو 2013

الدين لله... والوطن تبعثر



       






بغداد فى عين العاصفة، العراق كله فى قلب تلك الفوضى الخلاقة!! :
 التى دمرت كل شىء، عملت قوى التدمير كلها :
 داخلية وخارجية على القضاء على الكيان الوحيد، الفريد، المقاوم :
 الذى هو «الوطن»، عندما تدمر «فكرة الوطن» يصبح الطريق إلى جحيم أكبر الجرائم معبداً وسهلاً.


 الوطن يخلق القدرة على الحلم والمقاومة. عندما تنفجر فكرة الوطن، ويتبعثر الناس طوائف وقطعاناً :
 لا يعود لهم لا مستقبل ولا تاريخ..
 أما حاضرهم فهذا هو ما تحكى عنه هذه الرواية القصيرة المهمة والفاجعة «يا مريم»، رواية :«سنان أنطون» العراقى المولود 1967، والذى يعيش فى أمريكا أستاذاً للأدب العربى، بعد أن ترك العراق نهائياً 1991 بعد حرب الخليج الأولى.


 سنان عراقى مسيحى كردى كلدانى.
 من الطبيعى أنه ترك فى العراق :
 ليس تاريخه فقط ولكنه ترك :
 روحه، وعقله، وقلبه.
 يستحضرها فى إبداعه الذى شمل الفيلم الوثائقى التسجيلى «حول العراق.


 أصوات من زمن الحرب» والشعر :
 ديوان : «ليل واحد فى كل المدن»، ثم الرواية : الأولى : أعجام : رواية معتقل يكتب روايته دون أن يضع نقطاً على الحروف«، ثم الرواية الثانية »وحدها شجرة الرمان« وهى تحكى تاريخ حياة عائلة عراقية شيعية، مهنتها : تغسيل ودفن الموتى، الرواية الثالثة : يا مريم وهى عن تاريخ عائلة عراقية مسيحية، دمرها ما حاق بالوطن العراقى، من تمزق وطائفية وعنف أعمى أحمق مجنون. ترشحت «يا مريم» فى جائزة البوكر هذا العام وكانت فى القائمة القصيرة.


يقول الكاتب الشاعر والفنان والأستاذ الأكاديمى الذى يقوم بتدريس الأدب العربى فى عدد من الحوارات التى أجريت معه بعد ترشيح روايته للجائزة :
«أرصد تدمير الدولة وتلف النسيج الاجتماعى.

 لا أستطيع، ولا أعرف كيف أتحدث عن المستقبل فأنا مشغول برثاء الحاضر.

 «يا مريم» رواية لها بطلان : يوسف عجوز : يبحث ويعيش فى عراق : كان.
 ومها : شابة تحاول الفرار من عراق : الآن. هذان هما الشخصيتان المتكلمتان، فى الرواية الباقى صامت.
 المكان. الأسرة، بيت العائلة. صور الموتى، ورائحة الغائبين، التاريخ المتساقط مثل أوراق النتيجة المبعثرة.

 الحواجز، والكمائن، وكلمات «كافر» المكتوبة على بيوت الناس والرب. الانفجارات التى جعلتها الفضائيات أكثر رعباً من أعتى الكوابيس وجنون المرضى المعذبين فى الجحيم.

يقول سنان : «أنا – وأنت – لا ندعى فهماً، ولا نقدم حلاً..
 ولكننا نضرب كفاً بكف نتعجب ونحار.
 أنا شخصياً أجد خلاصى فى : الخيال، فى الإبداع، فى تنمية القدرة على الاستماع ومحاولة فهم الآخر».

                ■

متى بدأ الدمار العراقى : هل بدأ عندما قتلت العائلة المالكة وسحلت فى الشوارع أم بدأ بالانقلابات العسكرية أم باستيلاء «البعث» على السلطة أم بصعود صدام، أم بالحرب الإيرانية أم بحرب الكويت أو الحصار أم بالغزو المباشر الذى ألقى بالعراق كله فى قلب الجحيم.


 فى رواية سنان أنطون «يا مريم» قراءة لكل هذا التاريخ من خلال صور العائلة المعلقة على جدار بيت العائلة الكردية المسيحية الكلدانية الكبيرة التى استوطنت بغداد فى الخمسينيات ومر أفرادها بكل هذه المحن صعوداً وهبوطاً وسجوناً وهجرة، ونضال سياسى، وازدهار مالى، وفساد حكومى : يوسف الجيل الثانى الذى بنى هذا البيت فى بغداد، والذى راقب كل المآسى فى صبر وإيمان ومحبة للوطن..
 وأيضاً للنخيل.


نعم : النخيل. شجرة العراق المقدسة.
مقدسة فى شريعة «حمورابى» ومقدسة فى الإنجيل، والقرآن.
 صنع العراق من النخيل «سراب الحياة» وسَعفَه كان رمز النصر والبركة.

 الآن : النخلة المحروقة، أو المقطوعة أو المدمرة مثل الأجساد الممزقة تحكى حكاية فوضى أمريكا الخلاقة وحكاية وطن مزقته الطوائف.

بقى يوسف يدافع عن بيت العائلة، ويعيش فيه مع أخته «حنة» التى تخلت عن حلمها بأن تكون راهبة لكى ترعى أفراد العائلة التى تسربت بالموت أو الهجرة والسجون، تمسكت حنة بالدين المسيحى، وحافظت على كل الطقوس والذهاب اليومى للكنيسة، والحج إلى القدس عندما كان هذا ممكناً، ثم الحج إلى الفاتيكان، أما يوسف فبقدر محبته لأخته كان دائم الاستفزاز المداعب لها فى مسألة الدين يقول يوسف :
 «كنت مؤمناً على طريقتى الخاصة، لم أكن أتقيد بالواجبات والتعاليم.

 فهى علامات على الطريق إلى الله لمن يحتاج إلى علامات.
 أنا لست فى حاجة إلى علامات، الله فى كل مكان ليس فى الكتب والصلوات ودور العبادة، لدى أسئلة كثيرة عن الكون والإنسان والطبيعة، ولكن السؤال الملح كيف يسمح الله بكل هذا الشر ولا يعاقب من يفعلونه.
 الطريق والطقوس لا تضمن طهارة أولئك الذين يمشون عليه، هناك أخيار وأشرار يملأون الطرق كلها. وهناك من يظن أن لا طريق إلى الله إلا طريقه هو».

                 ■

لرواية «يا مريم» شكل روائى محكم وقادر على حمل رسالة قوية موجزة، فهى تدور فى يوم واحد، هو الذكرى السابعة لوفاة حنة الأخت المتدينة، فى الصباح والعصر تروى كل القصص ويعود التاريخ عن طريق السرد المباشر أو الصور وفى المساء يكون الانفجار الكبير بالكنيسة، فى استدعاء للحادث الواقعى البشع الذى دمر كنيسة النجاة 2010 وخلف أكثر من 50 قتيلاً.

«تختلط البدايات بالنهايات، كل يبحث عن عراقه السعيد، أما يوسف فقد وجدت إحدى الرصاصات الأربع طريقها إلى قلبه وأسكتته، وقبل أن يسكت قلبه همس بصوت خافت «يا مريم» وظلت عيناه مفتوحتين».

«كان ثمر الزيتون حلواً، ولكن بعد أن بكى المسيح وشكا آلامه وحيداً تحت الشجرة وسقى الأرض دموعه، صار ثمر الزيتون مراً كما هو الآن».
«يا مريم» رواية سنان أنطون. دار الجمل. بيروت، بغداد 2012.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25 فبراير 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق