السبت، 8 يونيو 2013

حماقة السلطة وقداسة الميدان

         
                    

«سيجارة سابعة» رواية جديدة للكاتبة الشابة دنيا كمال،«دنيا كمال القلش»: تخرجت فى كلية الآداب 2004، أصدرت الرواية الأولى (حكايتان: هى وضحى 2009)،هى الابنة الوحيدة للأديب والمثقف الصديق كمال القلش، صاحب الرواية الفريدة «صدمة طائر غريب» ومجموعة قصصية: المراهق.

 وكتاب عن السد العالى: بالاشتراك مع صنع الله إبراهيم، ورؤوف مسعد.
 وكتاب آخر مهم صدر بمناسبة مرور أربعين عاماً على حرب 56 فى بورسعيد. «دنيا» تعمل فى مجال إنتاج الأفلام التسجيلية والوثائقية، وهى تكتب وتعمل تحت اسم «دنيا كمال»، وكأنها لا تريد أن تستند إلى تراث والدها المجيد فى ميدان الأدب والثقافة، وهى لا تعرف أنها لا تستطيع أن تخفى حرارة الصدق والأمانة الفنية، التى ورثتها عن روح الوالد، التى مازالت ماثلة عند كل من عرفه أو قرأ أعماله، أرجو أن تغفر لى بعد أن أعادت لى روايتها «سيجارة سابعة» تفرد وصدق وأهمية رواية «صدمة طائر غريب»، فقد كانت رواية لخصت أزمة جيل الستينيات، بينما رواية «دنيا» حاولت أن تقدم بشائر طازجة حية لتمرد وحيوية جيل ثورة يناير فى سرد فنى جديد تميز بالصدق والفهم والإنسانية الجارفة.

تقول «نادية» بطلة الرواية، التى بدأت تتحرك مع مظاهرات 25 يناير:
«لا أريد أن أستقر سياسياً أو درامياً أو كونياً..
الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات تفرحنى، القصص غير المكتملة تلهمنى، الجلسات العائلية المرتبة السعيدة تربكنى، والأمطار والنوات العاصفة تبعثنى من جديد».

«أفعل ما أفعل وأذهب إلى الأراضى المجهولة، وأجرى بكل قوتى إلى المجهول.. الترحال هو الغاية والولع بالبحار البرتقالية والزراعات المتقشفة هو الغاية:
 الولع باللحظة التى لا ندرى عنها شيئاً هو صلاتى، لا أريد أن أستقر. الاستقرار هو موتى».

تحكى نادية بطلة الرواية خلال الـ18 يوماً الخالدة فى ميدان التحرير تاريخ حياتها كله كفتاة من الطبقة المتوسطة عاشت فى عائلة غير مستقرة، تقول:
«نحن ومن حولنا فى الميدان ننتمى لطبقة لم تتعب فى شىء، أعتقد أننا إن قمنا بإحصاء تاريخ كل من فى الميدان، سنجد غالبيتنا سافر أهله إلى الخليج فى السبعينيات فى زمن الانفتاح القبيح، من أجل العودة بسيارة صغيرة وشقة بمدينة نصر وضواحيها وبعض المستلزمات والأدوات الكهربائية..
 لم نتعب فى شىء..
 حياتنا حل وسط..
متطلباتنا حل وسط..
أداؤنا فى عملنا وسط..
 حياتنا بأكملها حل وسط..

 لذا لم أفهم سر هذه الانتفاضة أو فلأقل هذه الثورة حتى لا ينهرنى (فلان)، ولكن هذا ليس مفهومى عن الثورة..
 اعتقدت وأنا أصغر وأكثر حماساً أن الثورة لا يقوم بها أصحاب الحياة الوسط، يقوم بها الذين لا يملكون الحياة أصلاً.

 ربما تكون هذه الثورة هى الاستثناء الأول، هذا التحضر المبالغ فيه والأخلاق التى نزلت على الميدان كان مفاجأة».

تصور «نادية» فى فصول قصيرة متتالية موقعة كوبرى قصر النيل، ويسقط بين يديها أول شهيد تراه، وتصبغ دماؤه ثيابها، ثم تنتقل إلى تصوير عبثى مرعب لمعركة (الجمل) وما أحاط بها من غموض وشبهات، حيث اتهمت بأنها جاسوسة (عراقية)!
 وأنها مع (الإيرانيين)، ولم ينقذها إلا سائق تاكسى شهم وَهَبَ من كَدِّه 30 جنيهاً كل يوم ليحمل ماء وطعاماً للمعتصمين».

«كان الميدان يمتلئ كل يوم بأعداد ضخمة، حتى إن ذهبوا إلى ديارهم مع نهاية اليوم فهم يأتون صباحاً وظهراً وعصراً ليعطوا المقيمين دفعة من الحماسة والإصرار، لا تفسير لهذه الحالة سوى وجودية الميدان ككيان يدفعنا بقوة أمام وحش السلطة المخيف، الذى يتضاءل كل يوم أمام هيبة الميدان وقضيته».

ما يجعل من الرواية عملاً متميزاً هو أمران، الأول قصص الحب التى تغزلها الكاتبة فى قلب أحداث الرواية فى براعة تضىء الشخصية المحورية، هناك قصتان..

 قصة «على» الشاب الصغير، ثم «زين» الشاعر الكبير، الذى يعينها حبه على فهم واحتمال ما يحدث..

 أهم ما فى الرواية طبعاً هو وجود الأب، ذلك الوجود الهادئ المسيطر، الذى يطلق كل ما فى الشخصية من حيوية وحنان يجعلها حاضراً وتاريخاً يصل كفاح البلد من جيل الأب إلى جيل الابنة، ويحملها معه إلى الريف وإلى المقاهى والمطاعم، إنه موجود معها دائماً رغم مرضه وقلبه المتعب، يسأل عنها ويقلق عليها ويشجعها دائماً لكى تكون وسط الناس، وألا تتركهم، وعندما يعلن رئيس المخابرات تنحى النظام:
«التفت لأحتضن أبى.. أجده واقفاً على الباب بعيداً يبتسم فى ارتياح ويشير لى بيده.. وجهه يبهت تدريجياً ويختفى».
سيجارة سابعة- رواية دنيا كمال- دار ميريت- القاهرة 2012

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر المقال في جريدة المصري اليوم بتاريخ 8 يونيو 2013 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق