السبت، 22 يونيو 2013

وقائع تاريخ ينزف

           
                  
هذا كتاب رجل يحب مصر، مولع بها وعاشق، يفهمها ويعرف نقاط ضعفها وعيوبها، ولكنه، مثلنا، لا يجد لها مثيلاً، فريدة فى التاريخ قريبة من القلب.. ليس لها بديل.

«روبير سوليه» فرنسى الجنسية، مصرى المولد، صحفى ومؤرخ. من أهم كتاب جريدة «لوموند» وصاحب حوالى عشرة كتب كلها بين روايات، ودراسات فى التاريخ القديم والحديث عن مصر التى تركها وهو فى الخامسة عشرة.

كل الكتاب والصحفيين المصريين من ذوى الثقافة الفرنسية بالمنشأ أو بالإقامة أو بالالتحاق يعرفون «سوليه» فله مكانة فى الأدب والمجتمع الفرنسى تقارب مكانة «أمين معلوف»، الذى دخل مؤخراً إلى مجمع الخالدين «الطربوش»،ثلاثية.. «مزاج» «منارة الإسكندرية» «المملوكة» «سهرة فى القاهرة» بعض رواياته التى حققت نجاحاً جماهيرياً ونقدياً، وكتبه عن «علماء الحملة الفرنسية» و«قاموس مولع بمصر».

كان «سوليه» فى القاهرة مع الأصدقاء:
خالد الخميسى، وآل الشوباشى، والغيطانى، والأسوانى فى الأسبوع الذى سبق «ثورة 25 يناير»، وكان فى زيارة للمتحف المصرى فى إعداد كتاب عن رمسيس أعظم فراعنة مصر.

 خرج ليجد الميدان صاخباً مزدحماً مرتبكاً.
سافر وبعد أسبوع تغير التاريخ..
 وبدأت ثورة، أخذ منها عنوان كتابه الجديد: سقوط الفرعون- ثمانية عشر يوماً غيرت وجه مصر. صدرت طبعة الكتاب الأولى فى باريس فى إبريل 2011.

لعل من آخر إصدارات مكتبة الأسرة قبل غزوة «علاء عبدالعزيز» هو الترجمة التى قامت بها د. ناهد الطنانى لهذا الكتاب/الوثيقة، التى تضع كل الحقائق عارية دون تزييف أو مزايدة من هذا الجانب أو ذاك. يسجل الرجل عبر متابعته اللصيقة لكل أجهزة الإعلام الغربية والمصرية تفاصيل هذه الأيام النادرة التى غيرت: إن لم يكن التاريخ، فقد غيرت الإنسان، ورفعت إلى الأبد فكرة الخوف والقهر أمام آلة السلطة:
 أى سلطة.

يقول فى مقدمته «كتبها لمقدمة الطبعة العربية».. بتاريخ 16 إبريل 2012:
«إن وادى النيل ليس بالوجهة التى يسهل استبدالها فلا يوجد سوى أقصر واحدة وأسوان واحدة فى العالم كله. ليس مصر الفرعونية فقط التى تجذب الانتباه، وتبعث على الانبهار. فى الوقت الذى أكتب فيه هذه السطور تحمل الأخبار الجارية فى مصر كل يوم مفاجأة جديدة.

 لا أحد يعلم ما يحمله الغد.
 ولكن الجميع يدرك أن تاريخاً طويلاً قد بدأ.
الثورة تحمل فى طياتها الألم والفوضى، وعادة ما تعقبها ثورة مضادة.

 إن مجرد التطلع إلى الديمقراطية وطرد نظام شمولى لا يكفى لإقرار الديمقراطية، هناك فى مصر قوى ظلامية تسعى للاستفادة من حالة الاضطراب الحالية، لفرض أفكار تعود لعصر آخر، وإعادة البلاد قروناً إلى الوراء، ولا أرى لماذا يجد هذا الشعب المتحضر نفسه مضطرا للاختيار بين الديكتاتورية البوليسية والديكتاتورية الدينية، فهناك طريق ثالث هو الديمقراطية. إن الطريق إلى الديمقراطية طويل ومحفوف بمخاطر عديدة، ولكننى على قناعة بأنه لا يوجد طريق آخر يصل بنا إلى السلام والرخاء والكرامة».

شكراً للرجل الفرنسى المصرى الحر، فنحن فى أشد الحاجة لهذه الكلمات الآن.
                     ■
الكتاب رصد موثق لكل حركة فى الميدان خلال الثمانية عشر يوماً العظيمة.
 كل التيارات وكل القوى.

متى دخل الإخوان، وماذا فعل البلتاجى والكتاتنى وتفاصيل موقعة الجمل، وميلاد الثورة المضادة أثناء وبعد خطاب مبارك فى مصطفى محمود، وعشرات الأحاديث المسجلة مع شباب عادى ينطق بشعارات خالدة للثورة «هناك مشكلة مع الذين قفزوا فى القطار أثناء سيره، أنا سوف أجعل مصر تتحرك»«مبارك يتحدث والبيت يحترق» رصد تحركات شفيق، والمفاوضات المشبوهة مع سليمان.

 ووائل غنيم، والفنانين ورصد كلمات منشور وزع دون إمضاء تقول كلماته:
«رأيت بلد الأحلام الذى أتمنى أن تكونه مصر، جمهورية ميدان التحرير.
 رأيت سيدة ينسدل شعرها الطويل وتدخن سيجارة تقف أمام رجل ملتحٍ يصلى».

 يلفت الكتاب النظر إلى مقال تاريخى مهم كتبه هانى شكر الله يلفت النظر: قوى تستغل الظروف لتأجيج مشاعر الكراهية تجاه الأقباط لصرف النظر عن مشكلات سياسية مقلقة أكثر، ويسجل أيضاً موقف إبراهيم المسيحى القبطى الذى انسحب غاضباً من أمام جامع القائد إبراهيم وهو يقول:
 اخترت التظاهر لحماية بلادى لا لكى تقع فى أيدى الإخوان المسلمين.
الكتاب نموذج للمهنية الصحفية.
ليس فيه شعارات أو مزايدات أو دروس فى الوطنية، ولكن وقائع يستخلص منها القارئ الصورة الكاملة، والدروس التى يفهمها:
عرفت مثلا أن لميدان التحرير 23 مدخلاً ومخرجاً كما يقول المهندس نزار السيد.
عرفت متى التحق الإخوان بالثورة.
عرفت تحركات البرادعى، والاعتداء عليه فى ميدان الجيزة.
عرفت مثلاً أن أحد أصدقائى وجد زوجته بالصدفة فى الميدان.
عرفت أن الانتهازى لا يتعلم ولا يصلح أخطاءه.
أن خط الفقر 400 جنيه.
الحرية دين الثورة وشعارها الثابت.
الشعب هو القائد.
للجموع منطق جديد ومتجدد.
رأيت مصر تنهض.
إسرائيل كانت حاضرة: تنظر.. وتنتظر.
هناك فى آخر الكتاب جدول واضح بوقائع كل يوم فى داخل الميدان وفى خارجه.
وكلمة النهاية فى الكتاب: ثورة 25 يناير لم تكد تبدأ. كل ما حدث بعد الـ18 يوماً التى صنعت التاريخ كان نزيفا حادا للمعانى النبيلة التى صاغتها جموع الثوار.
 أدركوا البلد من النزيف الحاد.
نقطة نظام:
هذا الأسبوع احتجبت مجلة روز اليوسف.
 حياتى كلها أمضيتها على صفحات هذه المجلة.
 حتى فى أسوأ العهود كانت مصباح تنوير أضاء منذ 90 عاماً. احتجاب روز اليوسف من علامات الساعة!
سقوط الفرعون. روبير سوليه.
 ت: د. ناهد الطنانى - مكتبة الأسرة - الهيئة العامة للكتاب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المصري اليوم بتاريخ 22 يونيو 2013 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق