الجمعة، 25 مارس 2016

"حوار خاص" مع علاء الديب













محمد رياض

لن أتعاملَ مع موتك، فأنا، بوضوحٍ وارتياحٍ وبساطة، لا أعرفه.

أعرف "علاء" الحيّ.

ينتظرني في نفس المكان، على نفس الطاولة، هناك أفرغ هواجسي كاملةً، بابتسامةٍ يربّت على روحي، فأودّعه بقبلةٍ على الجبين.

انفضّ السامر يا أبي، واحتفلوا بموتك أكثرَ من حياتك، فهل كان نهر الكتابات التي ترثيك، قادرًا على استبقائك في يوم من الأيام؟ لا أعتقد، أنت الذي قررتَ المغادرة بإرادتك.

وتركتني.

تحدثوا عن منحة رئاسية لإنقاذك، وكنتَ وقتها تتأرجح بين ساعات انعدام الوعي ولحظات الإفاقة، لكنك رفضتَ المنحة بموتك، وكنتَ قادرًا على الحياةِ من دونها، لستُ أشك في ذلك.

تركتني.

وأهملتَ روايتين ناقصتين لتكتبَ عني، تكتبَ من أجل ثورتي وكرامتي ودمي، من أجل الحياة التي أعيشها الآن، بينما أدرتَ ظهركَ لي لأكملَ الطريقَ وحدي، ولم تترك لي وقتًا لألتقطَ الأنفاس، أو أبكي مع الآخرين عند شاهدك.

فاجأني موتك.. أعترف. لكنني لم أعترف بانهزامك. كنتُ هناك بينما يلقنونكَ وصيةَ الانتقال: "إذا سألك المَلَكان من ربك، وما دينك، ومن نبيك..."، أنتَ الذي اعتدتَ أن تشيرَ على الجميع، وتأمر، وتقولَ الكلمةَ الأخيرة، بهدوءٍ وكبرياءٍ واكتفاء.

إذا كان غيابُك مؤكدًا كما يقولون، فدعني أصفُ لك المشهد:

في يومِك، شيّعوا شهيدًا آخر، قتيل الدرب الأحمر، مات بطلقةٍ واحدةٍ من سلاح ميري، ربما في الوقت الذي قررت المغادرة أنتَ أيضًا، طلقة واحدة في الرأس، لأنه رفض المساومة على عرقه، هؤلاء من اخترتَ أن تدافعَ عنهم وتحمّلتَ المرارةَ والعارَ والانكسار.. وقتًا هادئًا يا سيدي مع رفقائك الدائمين.

- "يحصل الواحد منا، نحن أبناء الطبقة المتوسطة، على أكثر من حقه، انظر إلى العارقين الكادحين حولك، هل تعرف كم يقبضون في آخر النهار؟ كيف ينامون؟ وكيف تنام أنت؟ فكّر في المزايا المجانية الكثيرة التي تحصل عليها بجهد قليل أو بلا جهد على الإطلاق".

مهلاً، إليكَ بقية المشهد: في جنازتك، رأيتُ القتلة يقفون وسط المصلين، ويتلقون التعازيَ والتصاوير، ورأيتني مقتولاً للمرةِ الألف، وكنتَ تقرأ أفكاري وتحاصرني، لكنكَ لم تمدد لي يدك، كنتُ أشك بكل شيءٍ حتى بجثمانك: من الذي يحملونه الآن فوق أكتافهم؟ وما الذي أتى بي إلى هنا؟ ومن أين يخرج كل هذا الحزن، وهذه الدموع؟ لو كنت واعيًا بموتك، لرفعتُ عقيرتي بالقصائد، وأطلعتُ الباكين على وصيتك الأخيرة، قلت لي وأنت على سرير البداية:

- احترس.

- من أي شيء؟.

- من كل شيء.

كنتَ تخافُ من غروري وكبريائي ورعونتي، من فرحي، ومن يأس البلاد من الفرح.

كنتَ تقاومني وتأسى لأجلي، تدفعني وتشدني للوراء، وتشفق علىّ من سجني وحريتي، كنت ندّي، وما زلتَ حتى الآن قادرًا على إدهاشي وتعنيفي وتحذيري ومؤازرتي.

ساعدني لأعثر على وجهي، مثلما عثرتَ عليّ وأنتَ في مكانك، قل لي كيف أثق في مبادئ لم تعد تعني أحدًا، ولا تدل عليها لافتةٌ أو أثر، كيف أعيش مؤمنًا بالحياة فوق بركان، وكيف أموتُ بنفس اليقين الذي تطلق به دخانك؟.

- "كل ما أريده في النهاية أن أكون رجلاً صالحًا بجد، وأن أشن حربيَ الخاصة التي لا هوادة فيها ضد:

الكذب والنفاق.. أبشع خصائص الطبقة المتوسطة".

لقد خضتَ حربَك الخاصة، وظللت شهرين أسير "العناية المركزة"، لكنني لستُ أنتَ في نهاية المطاف، فلديّ أيضًا حربيَ التي لا هوادة فيها، ولديّ ثأريَ المؤكد، بالدمِ والشواهدِ والعاهات المستديمة، ولديّ مأساةٌ لا أرى حدودها من مكاني، ولن أدعهم يضحكون مجددًا من براءتي وضياعي ومراهقتي، لن أتركهم يقيمون المآتم للمجرمين، أو يقبلون التعازي فيمن سآكلهم يومًا بأسناني.

في المرة القادمة، سأحضر معي حبًا جديدًا، وورودًا كثيرة، ونهرًا من قصائدَ ورسومٍ ومدوّنات، عائلة من الشهداء سوف تأتي برفقتي، وسنقرأ حدَّ الانهيار، سأغني أنا وأنتَ وكلُّ الفقراء الذين أصادفهم في الطريق، سنقفُ جميعًا مع الأشجار والبيوت والشواهد، الحجر والتماثيل والأطفال والأمهات، من سيبقون في النهاية وإلى الأبد، معهم لن نتعذبَ من جديد، لن نشعرَ بالنصر أو الهزيمة، ولن نرى الأمسَ والحاضرَ والمآل.


إلى أن نلتقي يا أعز الرفاق.. طابت أيامك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة الوطن بتاريخ 25 مارس 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق