الأربعاء، 13 يناير 2016

علاء الديب.. الانتصار على الزمن بسلاح «الذاكرة»







محمد الحسن

كثيرةٌ هي المعارك التي خاضها علاء الديب مع الزمن وتحولاته، أو قُل إنها معركة واحدة متواصلة، لكنه يؤمن أنه لو استسلم في جميعها، فإن الحرب الأخيرة ستكون على ذاكرته، وفيها لن يقبل الهزيمة.

عندما نزل علاء الديب إلى الشارع بمفرده لأول مرة في حياته، كانت مصر تسلك طريقًا جديدًا سيفتح نِفس الطفل صاحب الثلاثة عشر عامًا على التمادي في حلمه بتغيير العالم.

لا يمكن لعلاء الديب أن ينسى عام 1952، ليس لأنه فقط العام الذي استطاع فيه النزول من بيته في ضاحية المعادي إلى شوارع القاهرة بنفسه، لكنه كان عام الثورة أيضًا، الذي فيه ستنبت بذور مُثل عليا كان يحملها الصبي الحالم، لكنها ستموت قبل أن تنبُت.

بعد 15 سنة من ذلك، ستنهزم الأحلام تمامًا بنكسة 1967، ورغم أنه يقول إن الهزيمة تركته ميتًا، ثم جمع أشلاء جسده ليعيش بها حتى الآن،’ إلا أن علاء الديب انتصر تمامًا، في صراعه مع الزمن، متسلحًا بالذاكرة، التي أقسم أن يحارب بها في معركته الأخيرة دون أن يقبل بالهزيمة.

انتصارات علاء الديب عديدة، ونابعة من مأساته مع تراجع الأحلام الكبرى وانهيار المعاني "المستقرة"، كان "الحب يعني الحب، الوطن يعني الوطن، الشرف هو الشرف"، وتلك كانت "كائناته الوردية" التي تحطمت في صمت، في وقت قصير.

هذه المأساة صورها الديب بصدق في كتابه "وقفة قبل المنحدر"، وفيه قدم مراجعة شجاعة وصادقة لنفسه ولأفكاره تحت اسم "من أوراق مثقف مصري"، شملت ثلاثين عامًا، في الفترة من 1952 إلى 1982.
- محاكمة الذات.. الانتصار للضمير

هذا المثقف، الذي هو علاء الديب، وصم نفسه بـ"التخلف"، وحاكم الطبقة الوسطى التي انحدر منها: "كان يتردد حولي أن الطبقة المتوسطة هي الحاكمة، هي المسيطرة على البلد، لكن رؤية الفلاحين الكادحين من الفجر إلى الغروب. وورديات العمال تخرج من المصانع، يؤكد لي في إلحاح لا يتوقف، وإصرار يحطم كل غفلة أو تغافل: أن العمل هو القيمة الوحيدة، وأنه هو نعمة الوجود الكبرى، وأن الطبقة المتوسطة بكل قيمها، وتقاليدها، وأساليبها في السلوك تحاول أن تفنيني بعيدًا عن العمل، وأن تعلمني سبل التحايل ورذيلة الوصول".

هكذا حمّل علاء الديب طبقته مسؤولية خيانة الثورة والأحلام الكبرى، ثم حمّل نفسه المسؤولية: "لم أعد بريئًا. مذنب، ومشارك، وضالع في الإثم".

ورغم مرور سنوات على نكسة 67، لا يزال الأثر مستوطنًا في نفس علاء الديب، وربما يكون هو المثقف الوحيد الذي لازمته توابع "الانكسار" حتى الآن، ببساطة، لأن بقدر اتساع دائرة الحلم يضيق خناق الواقع.

الشيء المضيء وسط هذه العتمة التي أحاطت علاء الديب، أن شعوره بـ"التخلف" لم يتحول إلى اشمئزاز من نفسه أو من الواقع، وبحسب تفسيره لذلك الشعور فإنه كان بمثابة دافع للانتماء والحلم "البسيط المستحيل" بأن يعيش ويعيش الناس من حوله واقعًا جديدًا.

هكذا واصل علاء الديب الكتابة وحمل على عاتقه مهمة "الكشاف الأدبي"، منذ الستينيات وحتى أيام قليلة، قبل أن يطوله المرض.

قدم الديب العديد من الكتاب عبر بابه الأدبي الشهير "عصير الكتب"، كما كتب لنفسه عددًا من الروايات والقصص القليلة، التي ضمنها أفكاره وفي الأغلب كان هو بطلها جميعًا.
لكن الخروج من المعركة سليما – بل ومنتصرًا على المستوى الذاتي، ظاهريًا- كان القيمة الحقيقة للكاتب، الذي لم يجرفه الطوفان الذي وضع كل شي وأي شيء في ميزان البيع والشراء.

- ضد العدوان باسم الدين.. الانتصار بالعقل على التشدد

شكّل علاء الديب حصنًا منيعًا لنفسه بإعمال العقل: "تعلمت أن أحب الكلمات، أن لا إرددها دون فهم أو إدراك، فهم الكلمات ومحبتها كان هو المفتاح السحري، الذي يقودني إلى بهجة العقل ونعيم الفهم والتفكير".

في صغره انضم إلى "الإخوان المسلمون"، كان منتميًا لإحدى شُعب الجماعة في منطقته، يتجمعون بعد صلاة العشاء ويتناقشون، لكن "الدرس" كان يملؤه بالكثير من الأسئلة لا الإجابات.

لاحظ علاء الديب الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين "الإخوان"، فكر في ذلك لكن أحدًا لم يقدم له إجابات، وفي إحدى الجلسات انتقد أحد أعضاء الشعبة شقية زميل له قال إنها تذهب إلى مدارس أجنبية وتعود إلى منزلها بعد الغروب معترضًا على ملابسها التي "لا تليق بشقيقة أخ مسلم".

كان هذا "الأخ" صديق وجار علاء الديب، وشقيقته صديقه لأخواته: "كانت زيارتها لنا في البيت تبعث كثيرًا من الحبور والبهجة، وكان أبي وأمي يعتبرانها نموذجًا للفتاة ذات المستقبل، فهي تجمع بين التعليم الأجنبي حيث تتقن اللغات – سلاح العصر- وبين خفة الدم والشطارة".

 يحكي: "في السهرة وقد اجتمعت أسرتنا حول الراديو تسمع حفلا لأم كلثوم، فاجأنا صوت صراخ وبكاء قادم من بيت الجيران، وكأن هناك شخصًا يُذبح، هرولت والدتي بمملابس البيت.. وعادت باكية، وقالت إن صديقي أخذ يضرب أخته ضربًا مبرحًا، وأنه أصاب فمها، وشج رأسها، وأنه يصر على أن تبقى في البيت، وأنه سيقتلها لو عادت إلى المدرسة"، وكانت هذه الواقعة هي "أول عدوان شرس" يُرتكب أمام علاء الديب باسم الدين، سيترك الجماعة، وفيما بعد سيصف حكم الإخوان بعد الألفية الثالثة بـ"الكابوس"، وسيقول إنه كان سطرًا مقلوبًا في تاريخ الوطن.

- ذهاب وعودة سريعة من بلاد النفط.. الانتصار للوطن

عام 1974 ذهب علاء الديب إلى السعودية "هناك.. حيث النفط، كل ما في قلوب المصريين من حضارة ومرونة يتحول إلى غلظة قاسية. الرغبة الحارقة المتعجلة في المال تحول الإنسان إلى كائن آخر".

كان الديب أحد المغضوب عليهم من أنور السادات، الذي يراه الكاتب سببًا في في ما آل إليه الوضع المتدهور حاليًا في التعليم والصحة والسلوك، بعد الانفتاح الذي أقره النظام في نفس العام.

حمل علاء الديب توصية طبية مكتوب عليها "صالح للعمل في جميع الأجواء" وسافر، وهناك في الميناء الخليجي ستصفعه رائحة الحر والرطوبة والبترول، وسيعيش هناك بلا شيء يملكه،أو تاريخ.

من المصريين، سيقابل علاء الديب عجوزًا كان يعمل إداريًا كبيرًا بوزارة الثقافة في مصر، لكنه سافر وقبل العمل في وظيفة صغيرة لتغطية "جواز البنات". وسيتعرف على الصحفي المعروف في القاهرة الذي سيخشى أن يكون للوافد الجديد مطامع أو طموح للترقي في الصحيفة الخليجية. وسيعود لأنه سيتيه في ذلك العالم الذي يزن البشر بالريالات.

- الكتابة ليست للربح.. الانتصار على منطق السوق

رغم دوره المؤثر في الحياة الثقافية المصرية منذ الستينيات، لم يُعرف عن علاء الديب أنه ينتمي إلى "شلة" في الوسط الثقافي، لكن ما صنع مكانته أنه لا يكتب بحسابات المصالح، بل عن الشيء الذي يحبه، فلا يتأخر عن تقديمه للقارئ.
أعمال علاء الديب تُعد على أصابع اليدين، لكنها تقول الكثير، "أُنضجت على مهل"، بحسب وصف الناقد الدكتور فاروق عبد القادر.

لا يهتم الديب بتحولات الأذواق أو متطلبات السوق، هو نفسه من ألد أعداء "التسليع"، حتى في الأدب، ويرى أن "الأجر الوحيد الذي يحصل عليه الكاتب هو أن يفرح وهو يرى كلماته وقد تحولت إلى مخلوقات على الورق".

يقول في حواره له، منشور في 2010: "قارئ واحد حقيقي يوازي عندي كل ما يحققه الآخرون من نجاحات وسفر وجوائز"، ويحمد الله الذي "أنقذه" من التربح بالكتابة، فظلت لديه "وسليلة للمحبة" وليست لأكل العيش.

انتصر علاء الديب على منطق السوق، "الوحش" الحاضر طوال الوقت، بحسب وصفه، وإن كان لا يخفي أن أحد أسباب ذلك أنه كان لديه باستمرار "وظيفة وعشاء وغطاء وسقف أنام تحته".

منذ نحو 20 عامًا اعتزل الحياة العامة، بعد أن عرض شهادته كمثقف عن ثلاثين عامًا من تاريخ مصر، ثم عاد لدوره المفضل في تقديم الكتابة التي يحبها عبر مجلة "القاهرة" التي تصدر عن وزارة الثقافة، ثم في صحف أخرى.

يؤمن علاء الديب بأن التغير سُنة الكون، لكنه يعتقد أنه لم يحدث من قبل بهذه "القسوة والسرعة والفظاعة"، وصراحة يقول إنه لا ينتمي إلى هذا العصر، وكل ما يريده أن "يتماسك، أن يحتفظ بالحس والبصر والبصيرة، أن لا يقترب كثيرًا من حافة المنحدر".

السلاح الوحيد لعلاء الديب في ذلك هو الذاكرة الحية: "العاصم، والملاذ الوحيد، للفرد، وللشعوب". يتساءل كيف نحافظ على أنفسنا دون أن ننغمس في الحاضر وننسى الماضي، للدرجة التي لا نمتلك فيها وقتًا – حتى للتفكير- إلى أين نسير.
تحول الزمن، وجرف بتياره المجنون أسماءً كثيرة خضعت له، لكن علاء الديب انتصر بذاكرته، وبقي كما يريد مع زمنه البسيط، المستحيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في موقع اليوم الجديد بتاريخ 13 يناير 2016


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق