الأربعاء، 20 يناير 2016

فى محبة ما يرمز إليه «علاء الديب»









ما بين عامى 1972 و1973... كنت ارقبه من على بعد ولا أملك جرأة اقتحام «هداته» الصامتة، فى المرات القليلة التى يتصادف فيها حضوره فى مجلة «صباح الخير» وبين ترددى الخجول على المكان...


أول مرة اقترن فيها الاسم الذى كنت أتابع ما يكتبه وبين الشخص نفسه، كانت ذات ضحي، لما تابعه عم حسين، أقدم معاونى الخدمة وأحد أهم من عاصروا الاستاذ احسان، مناديا «يا أستاذ علاء.. الحاجات واحد سابها لك».. ولم تكن الحاجات إلا «كتب» بالطبع.


عصير الكتب «على واحدة من الصفحات الاخيرة لمجلة صباح الخير.. تلك التى كنا نطلق عليها «الافيش»، «بألوانها التى تتغير اسبوعيا، وحيث نافذته وشباكنا على المعارف: «عصير الكتب» وتوقيعه، وبورتريه صغير... كم مرة حاولت أن استقرئ أو استشف رد فعل الأستاذ.. ماذا، لو امتلكت شجاعة فض الصمت، ودخلت عليه وهو جالس على المكتب الرمادى ماركة «ايديال» منكب على الورق، ورحت ومددت له يدى مصافحة، واعلنتها انا اقرأ كل ما تكتبه عن الكتب... واحب الكتب.. وونسة الكتب؟.


كنت أدير الحوار بينى وبين نفسي، ولا أتحرك ولا أسعي، المحه مارقا قرب الظهيرة.. متوقفا على باب الأستاذ رءوف توفيق، متعهالله بالصحة والعافية: «سلام» يا رءوف... ربما فى موعد شبه ثابت، حتى كان ذلك اليوم المشهود... يوم مشهود فعلا، اليوم الذى يتوقف فيه، واطل برأسه من على باب الحجرة التى اتشاركها وزملاء، وأنا فى زاويتى المختارة، قرب النافذة المطلة على شارع قصر العيني... ودون مقدمات، وبألفة وود بالغين وكأننا «عز المعرفة» وجه إلى الكلام «على فكرة موضوعك حلو... مكتوب كويس».. ومضي.. لم ينتظر منى أن أرد، أو ليرى ما أحدثته كلماته.. أو لربما قبلته انفعالا.. نعم، لم يكن ليوازى كلماته الاربع غير ذلك..


يكتب الأستاذ علاء الديب، بعزلة «وعدل القاضي».. تماما كما يقرأ بحرية، واستقلال.. ويطوف فى الأرض باحثا عما يستحق ان يصل إلى الناس، ويقلب فى التربة، غير قانع بالطافى فوق السطح، له عين «جواهرجي» قادرة على النفاذ والتمييز ما بين لمعة «الزائف» والاصيل الذى ربما مدفوس أو مدفونة، فتكون «عين» علاء الديب، وقلمه، هما جناحا كل عمل أصيل، لينفض الغبار ويحلق إلى حيث يليق به أن يكون...


كان «حضور» شخصية الأستاذ علاء الديب دوما فى المكان، أقرب إلى حفيف أوراق الشجر، لما تهزه نسمة عصارى رائقة... لا تسمع له مطلبا خاصا، فهو الزاهد، المترفع، ولا تعلو نبرات صوته، أن خاطبته أو كلمك، عن مستوى لا يتجاوز الهمس بأكثر من درجة أو درجتين... قادر على اضغام المعانى فى وضوح وبساطة، وتلك عبقريته، التى تلخصها معالجة أى عمل، مهما تشابكت افكاره، بانسياب وسلاسة، كانما هو أشبه بمحول، ينتقل بأصعب الافكار من فولت لآخر، بضمان وصول التيار...


كانت السبعينيات والثمانينيات، متخمة بالتحولات الاقرب إلى «الانقلابات القيمية».. التى فى اطارها كنا شهودا على أنواع «صادمة»... من المواقف التى ربما عصفت بما تربينا على أنه من البديهيات... كان الأستاذ علاء «رمانة ميزان».. لنا نحن المتوسمين خيرا فيما شببنا عليه، من انحيازات للناس، وانتماءات لوطن.


فتش عن وضوح المواقف.. وصفاء الرؤية. عن الزهد فى أن تكون فى القلب من الصور المروجة... فتش عن معنى أن تكد لاكثر من نصف قرن، كى تكسب عيشك، بشرف ونزاهة القديسين، قرشا قرشا، بينما «يغرف» العرابون والسماسرة وتجار الثقافة، من ماعون فاسد ما لا يحصى من ثروات وامتيازات حرام، وستبقى حراما... وأنت الأكثر موهبة وعطاء.. فتش عن صرامة الأخذ بالمعايير، عن تواضع العارف الذى كلما عرف ادرك الحدود لمحيط المعرفة... فتش عن المؤمن باحقية البشر فى عدالة على الأرض، فتش عن الذى لم يقايض، ولم يبع، ولم يساوم، وارتضى القبض على جمرين، جمر شرف العيش، وجمر ثبات المبدأ.


فتش... وأن اعياك البحث تعال إلى حفنة معدودة، على رأسها الأستاذ علاء الديب..

ما بين الحين والحين كان يأتينى صوته، بالذات فى تلك الاوقات التى كنت احس فيها بصقيع الدنيا ووحدتها، ومؤخرا أتانى صوته رقراقا مواسيا، ولم أجد ما أرد به غير عبارة واحدة: ربنا يخليك يا أستاذ علاء ربنا يعلم محبتك فى قلوبنا... ومحبتنا لكل ما ترمز إليه من جمال.. وصفوهما الزاد المعين علي، ما نمر به..



أستاذ علاء الديب: قطرت لنا انبل المعانى فى عصير كتبك، ومواقفك، وجل مشوارك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ماجدة الجندى
نشر في جريدة الأهرام بتاريخ 19 يناير 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق